إرهاصات ومفاعيل حرب الخليج الأولى
 

 

تأليف وإعداد: سارة فرانسيس هدسون

ملخص
طوّر طرفي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هويات وطروحات وطنية متعارضة، تماماً، تستند على مفهوم الضحية. تطورت هذه الروايات، بدورها، إلى سرديات محاكاة نتيجة لطبيعة تطورها. وتتناول هذه الدراسة سرديات المحاكاة الفلسطينية التي تعزز مفاهيم القيم المجتمعية، لا سيما قيمة الضحية، ذات العامل الحاسم في التعامل مع الصراع الطويل الأمد. ووقفت وسائل الإعلام الغربية، في سياق الصراع، إما لجهة قبول سرديات المحاكاة الفلسطينية ومفهومهم لأنفسهم كضحايا للصراع، أو لجهة رفض هذه الطروحات. وقد أنتج الإعلام، من جرّاء ذلك، لمشاهديه الغربيين، حقائق واقعية مفرطة للصراع، بطريقة تؤثر على قبول الغرب أو رفضه لسردية المحاكاة الفلسطينية. وسوف تستفيد هذه الدراسة من فيلم "نشيد الحجر" لميشيل خليفي، وفيلم "الجنة الآن" لهاني أبو أسعد، ووكل من فيلمي "سجل اختفاء" و "يد إلهية" لإيليا سليمان، لفحص الدرجة التي تؤكد بها الأفلام الفلسطينية أو تتعارض مع المعتقدات المجتمعية التي تسهم في إطالة أمد الصراع والعلاقة بين عرض تلك المعتقدات والواقعية المفرطة والرأي العام في المجتمعات الغربية، بالإضافة إلى البحث في العلاقة بين عرض العنف في الأفلام ووجود العنف في فلسطين.

أولاً: مقدمة

ساهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا يزال، في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، رغم جهود المجتمع الدولي. بينما هناك عدداً من العوامل التي جعلت من الصعب حل هذا النزاع بالذات، يبدو أن تطوير هويات وسرديات وطنية متعارضة تماماً من كلا الطرفين، كان أحد العوامل المهيمنة في استدامة الصراع وصعوبة التوصل إلى حلول له. ويتفق الباحثون على أن العديد من الأفلام الوثائقية الفلسطينية المبكرة استُخدمت لخلق رواية مضادة للرواية الصهيونية (Alexander “Palestinians in Film” 321; Gertz and Khleifi “Roadblock” 317). ولكن الأفلام الروائية الحديثة تبتعد عن المعاملة المتجانسة لهوية الوسائل السياسية الفلسطينية وتقديم أطر مرجعية جديدة للوجود الفلسطيني والهوية الثقافية (Gertz and Khleifi “Roadblock” 322). في حين لعب الفيلم الفلسطيني الأبكر، على الأرجح، دوراً في تطوير السردية الوطنية، فقد تطورت المرويات الوطنية الفلسطينية والهوية الوطنية كنتيجة لمجموعة متنوعة من العوامل السياسية والنفسية، كان، لكل منها، تأثير فردي، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الانفصال عن الآخرين.

وفي حين أن هناك بعض الأحداث التاريخية التي حدثت بلا شك، فإن درجة التأكيد عليها أو رفضها، وتفسيرها وإحياء ذكراها، تختلف، بصورة صارخة، على جانبي الخط الأخضر. وثمة، هناك أيضاً، بلا ريب، مجموعة متنوعة من تفسيرات الأحداث التاريخية في إسرائيل وفلسطين على يد العديد من المجموعات الدينية والإثنية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة. وسوف أقتصر، من أجل أغراض البحث هنا، على الروايتين الواسعتين والمعممتين اللتين تكرسهما القوى الحاكمة على جانبي الخط الأخضر، وأيهما، من هذه الروايات، تعمل كسرديات وطنية لكلا الجانبين. فتختلفـ بل وتتناقض، على سبيل المثال، التوصيفات الإسرائيلية والفلسطينية لأحداث العام 1948، حتى بعبارات الوصف العامة والواسعة. فوفقاً للرواية الإسرائيلية، أعلنت إسرائيل نفسها دولة في العام 1948، وغادر معظم الفلسطينيين المنطقة بمحض إرادتهم، ولم يستخدم المستوطنون الإسرائيليون، وهم الآن مواطنون، العنف ضد الفلسطينيين إلا للدفاع عن النفس. غير أن الفلسطينين يجادلون بأن أرضهم سرقت، وأخرجوا من منازلهم بالقوة على يد المليشيات الإسرائيلية، عندما أصبحت إسرائيل دولة، وهربوا خوفاً على حياتهم. ربما يكون هذا التفاوت أكثر وضوحاً في الطريقة التي يحيي بها الطرفان أحداث العام 1948: فتحتفل إسرائيل بيوم استقلالها، بينما يعبّر الفلسطينيون عن حزنهم في المناسبة ذاتها كذكرى لـ"نكبتهم". وتؤكد السرديات الفلسطينية والإسرائيلية للصراع، كما يرى روحانا وبار-تال، "على جوانب مختلفة من الصراع، وتقدم تفسيرات متباينة للأحداث نفسها، وتنتج رواية متماسكة تدعم ادعاءاتها وتدعمها بالكامل المجتمع" (Rouhana, and Bar-Tal .763) .وأحد المفاهيم الأساسية لكلتا الروايتين يتمثل في تاريخ التأذي والتماهي مع الضحية الذي يعتري كلا الطرفين. وتستند السردية الفلسطينية إلى معنى التأذي الفلسطيني وتشويه إسرائيل، بينما تستند الرواية الإسرائيلية إلى عكس هذه السرديات تماماً. ويمتلك كلا الطرفين، أيضاً، تاريخاً من الاضطهاد العنيف. ويزعم روحانا وبار- تال أن تاريخ التأذي والشعور بالضحية يؤدي إلى عدم الثقة بالمجتمع الدولي وشعور بانعدام الأمن على جانبي النزاع (Rouhana, and Bar-Tal .765)، ويؤثر هذا التاريخ على ميول كل طرف من طرفي النزاع نحو تحديد نفسه كضحية للطرف الآخر: فتعتقد تعتقد إسرائيل أنها ضحية للعدوان العربي، بينما يعتقد الفلسطينيون أنهم ضحية للصهاينة الإسرائيليين (Rouhana, and Bar-Tal .766). ونظراً لأن لعب دور الضحية يلقى تعاطفاً من وسائل الإعلام، نجد نزاعاً شديداً على لعب هذا الدور في سياق الصراع (Brand 176). فتعريف الضحية، وفقاً لـ "براند"، له فوائد أخرى أيضاً. وفي حين أن هناك عدداً من الأماكن التي يكون فيها تحليل براند لفيلم "الجنة الآن" اختزالياً، والذي سأناقشه لاحقاً، حيث يطرح نقاطاً مفيدة حول الاقتران الديالكتيكي بين الاعتداء والتأذي. ويزعم براند أن تعريف الضحية يسمح للفرد بتبرير عدوانه مع التمتع بالتفوق الأخلاقي على الضحية من خلال الإصرار على أن أفعاله هي نتاج ظروف خارجة عن إرادته (Brand 175-176). هذه الظاهرة بالتحديد هي التي ينادي بها ويتفق عليها روحانا وبار- تال، على أنها الميزة التي تديم عنف الصراع (Brand 178) وتساهم في استعصائه (Rouhana and Bar-Tal 764). يعتبر التماهي مع دور الضحية أحد عناصر السردية الوطنية الفلسطينية الأساسية، والمتمثلة في النضال من أجل الاعتراف الدولي بهم كضحايا بالضحية، وهو ما تحاول هذه الدراسة الحديث عنه.

تجدر الإشارة، بشكل خاص، إلى أحداث العام 1948 باعتبارها لعبت دوراً تأسيسياً في تكوين الهويات الوطنية لكلا البلدين، كما يذكر روحانا وبار- تال، وهي مثال على سرديات المحاكاة الإسرائيلية والفلسطينية. وأشير، هنا، إلى هذه الروايات على أنها "محاكاة Simulacral " لمجرد أن كلتا الروايتين أصبحتا منفصلتين، الآن، عن واقع الأحداث التاريخية لعامي 1948- 1949 بحيث لم يعد من الممكن الوصول إلى الأحداث الحقيقية، حقاً، تحت طبقات التفسير المتراكمة. وقام كل طرف، بدلاً من تمثيل سلسلة "حقيقية" من الأحداث، بجمع مزيج من التقاليد الشعبية وروايات شهود العيان والأفلام والدعاية لتطوير الروايات الوطنية التي، على الرغم من أنها تستند في البداية إلى سلسلة حقيقية من الأحداث، فقد توقفت عن كونها تحمل أي علاقة بالأحداث الفعلية التي حصلت. ويجادل "بريشيث" (Bresheeth) بأن "مجمل الوجود في فلسطين / إسرائيل هو وجود مزدوج. لذلك هناك دولتان افتراضيتان في الفضاء عينه، هناك عالمان متوازيان يتجاهلان ويحتقران بعضهما البعض، ومع ذلك، نراهما مرتبطين، تمام الارتباط، ببعضهما البعض" (Bresheeth 80-81). ويعلن ميشيل خليفي نفسه: "لا أؤمن بالماضي، لقد اختفى" (Khleifi and Alexander 33). أدى الصراع المستمر حول الحدود والسرد، والذي يزعم العديد من الباحثين أنه مرتبط جوهرياً بقضايا الهوية أيضاً (Bresheeth 72; Gertz and Khleifi “Roadblock” 320)، إلى إنشاء رواية وطنية هي مجرد محاكاة ما يمكن أن يحدث بدلاً من سرد أو تمثيل ما حدث فعلاً. لقد انتقل سرد أحداث 1948-1949، وكذلك أحداث أخرى، خلال دورة [جان] بوديار من كونه انعكاساً للواقع، إلى كونه تحريفاً للواقع، وإلى إخفاء غياب الواقع، ليصبح، أي السرد، محض محاكاة خالصة للواقع. ولا يعني هذا أن بعض الأحداث التي تشكل الرواية الوطنية الفلسطينية لم تحدث قط، أو استحالة الوصول إلى التجارب الفردية للأحداث.

ومع ذلك، فقد تم جمع السرد المركب للأحداث الرئيسية، وتفسيره، والتلاعب به بطريقة تنتج قصة محاكاة بطبيعتها. وأصبحت ترمز هذه الروايات المحاكية إلى الوسائل الاجتماعية والسياسية لتأسيس وتجسيد الإيديولوجيات الوطنية وإعادة توحيدها. وسوف تعزز الإيديولوجية التي تنتجها هذه الروايات المحاكية النضال من أجل الحصول على رغبات محددة ثقافياً، مثل الوطن القومي، بدلاً من الرغبات الطبيعية كالسلامة والأمن والسلام. وتخضع السرديات المحاكية، بسبب دورها في تطوير الهويات الوطنية، لحراسة شديدة وتدافع عنها الجماعية المعنية. يدرس روحانا وبار- تال بعض العوامل النفسية التي تساهم فيما يطلقان عليه "النزاعات الإثنية المستعصية" ويحددان أربعة معتقدات، ذات صلة بالنزاع، تساهم في استعصاء المواقف. ساهمت الروايات الإسرائيلية والفلسطينية المحاكية في ظهور إيديولوجيات لكلا الطرفين تعمل على استدامة الاضطراب بسبب تأكيد هذه الروايات على معتقدات روحانا وبار-تال المجتمعية الأربعة، حيث يتم الحفاظ، في الصراع الإثني القومي المستعصي ظاهرياً، مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على معتقدات مجتمعية معينة وحمايتها كنوع من آليات المواجهة حتى يتمكن السكان من التعامل مع العنف والصعوبات الناجمة عن الصراع الطويل الأمد (Rouhana, and Bar-Tal .765)، والمعتقدات المجتمعية الأربعة التي يذكرها روحانا وبار-تال على أنها الأهم هي: الإيمان بأن أهداف الجماعة عادلة، وأن الخصم غير شرعي، ولا يمكن للجماعة أن ترتكب أي خطأ فيما يتعلق بالصراع، والجماعة هي الضحية(Rouhana, and Bar-Tal .765). زيمكن تبسيط هذه المعتقدات المجتمعية الأربعة إلى قسمين تقريباً: أولهما، معتقد الضحية المحقّة، وثانيهما، متقد العدو غير الشرعي. وينبغي، بالتالي، على الفلسطينيين، من أجل مواصلة نضالهم ضد إسرائيل، صون وتبني هذه المعتقدات المتضمنة، جميعها، في سردية المحاكة الفلسطيني. و كما ذكرنا سابقاً، تشكّل هذه المعتقدات، ولا سيما التماهي مع دور الضحية على وجه التحديد، أحد أسباب صعوبة حل النزاع. على الرغم من اعتقادي أن هذه ليست سوى ظاهرة تحدث على جانبي الصراع، إلا أنني سوف أتناول بالدراسة، هنا، أربعة أفلام فلسطينية، وسوف أعالج فقط سردية المحاكاة الفلسطينية والمعتقدات المجتمعية.

وتتمتع سردية المحاكاة بتأثير، لا يستهان به، على تصور المجتمع الغربي للأحداث، حيث تتكون الهيئات الدولية الحاكمة والرأي العام الغربي من عدد قليل من الأشخاص الذين لديهم تجربة حيّة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ونتيجة لذلك، يعتمد معظمهم، في تكون آرائهم، على التقارير والتغطية الإعلامية. رغم ما تخلقه هذه التغطية الإعلامية للصراع، ما يسميه بوديار، واقعاً مفرطاً لمُشاهد الإعلام الغربي يكون فيه "واقع" الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما يفهمه الغرب، مختلفاً ولا يحمل بالضرورة أي علاقة بالأحداث الفعلية التي تجري في إسرائيل وفلسطين. وينشأ هذه الواقعية المفرطة من خلال تشبع وسائل الإعلام الغربية بالصور واللغات الصوتية للنزاع، ويقوم كل منها، عند مستوى ما، بتفسير الحدث أو الموقف.

وما يدفع المُشاهد الغربي إلى تطوير تصور غير واقعي للصراع يقوم برمته على التفسير، إنما يعود إلى اعتماد هذا المُشاهد وحده على هذه التأويلات غير المكتملة، أو غير الدقيقة، في كثير من الأحيان، أو المنحازة بشدة للأحداث. إن مفهوم الغربي، غير المطلع، للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني غير موجود، ومع ذلك فالغربي الموحد يعتقد أن مفهومه للصراع يعبر عن حقيقة الصراع. وتتحوّل التفسيرات التي تخلق هذا الواقع المفرط وتتغير لصالح أو ضد سردية المحاكاة الفلسطينية القائمة على أحداث ومناخات سياسية مختلفة. ومع ذلك، لا يزال الغرب يفترض أن هذا الواقع المفرط المتغير هو الواقع الفعلي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بغض النظر عن علاقته أو عدمه بالأحداث الفعلية التي تجري في المنطقة. وينبغي التأكيد، من جديد، أن هذا لا يعني عدم الوجود الفعلي للصراع أو الأحداث الجارية بالفعل، ولكن المفهوم الغربي للصراع يتم إنتاجه في غرف الأخبار ومن خلال التأويلات، وليس من خلال الأحداث الفعلية التي تحصل. تتجاوز هذه الظاهرة مفهوم إدوارد سعيد عن قيام المستشرقين الغربيين بخلق الشرق لأنه، في عمل سعيد، يصبح التأويل الاستشراقي أكثر أهمية من الواقع ذاته الذي يتم تأويله، لكنه لا يحل محله تماماً. وبهذا، يعبّر التمثيل الإعلامي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني عن حقيقة الصراع بالنسبة لمتابعي وسائل الإعلام الغربية، الذين ليس لديهم أي خبرة أو معرفة أخرى بالنزاع. وتبرز هنا مشكلة أخرى في الاستشهاد بعمل سعيد لوحده حيث أن الواقعية المفرطة التي يتم إنتاجها ليست نتيجة محضة للتأثيرات الغربية.

تلعب إسرائيل، وهي دولة شرقية من الناحية التقنية، دوراً في التلاعب بوسائل الإعلام الأمريكية لإنتاج صورتها المرغوبة في الدولة (Mershimer and Walt 45)، ويؤدي هذا التلاعب، جزئياً، إلى ميل الواقعية المفرطة، في العادة، نحو موقف مؤيد لإسرائيل. وتكون هذه السردية الإعلامية ذات الواقعية المفرطة، بسبب اعتمادها الوحيد أساساً على التأويلات، أكثر مرونة وتغيراً من السرديات المحاكاة الإسرائيلية أو الفلسطينية. كما أن هناك ضغطاً إيديولوجياً ونفسياً أقل للحفاظ على سردية واحدة لا تتبدل للأحداث في الغرب، لأن مثل هذه السردية ليست سمة مميزة للغرب، مثلما هي سمة مميزة بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين. ونتيجة لذلك، يكون الرأي الغربي قادر على التحول، اعتماداً على المحتوى الإعلامي والصور القادمة من المنطقة الإسرائيلية / الفلسطينية. ويؤثر هذا، بدوره، على فهم الغرب للصراع، مما يجعل الرأي العام أكثر تعاطفاً أو أقل مع هذا الطرف أو ذاك. وهذا الرأي الشعبي للمجتمع الغربي له علاقة بالطريقة التي يتم بها تصوير أنواع مختلفة من العنف في الأفلام الروائية الفلسطينية.

ويبدو أن وجود عنف بصري في الأفلام الفلسطينية مرتبط بدرجة قبول الرأي العام الغربي للسردية الفلسطينية المحاكية لدور الضحية. ويلعب الإعلام دوراً رئيسياً في قبول هذه السردية أو رفضها، من حيث اختياره للصور واللغات الصوتية التي يقدمها لجمهوره. تفسر هذه الصور أحداث الصراع بطريقة تتفق أو تتناقض مع الرواية الفلسطينية المحاكية ومفهومها التأسيسي القائل بأن الفلسطينيين هم ضحايا للعنف الإسرائيلي. في المقابل، يتجه المجتمع الغربي الذي ينظر إلى هذه الصور، في الواقع، نحو قبول أو رفض السردية المحاكية الفلسطينية بناءً على هذه التأويلات الإعلامية. ويبدو أن الأفلام الفلسطينية التي أتطرق لها ،هنا، تظهر عنفاً بصرياً إلى حدٍ ما، يعتمد، جزئياً على الأقل، على كيفية رؤية الغرب لسردية المحاكاة الفلسطينية في زمن إنتاج الفيلم، على الرغم من اختلاف أنواع العنف التي يتم تناولها في الأفلام. ويبرهن فيلمي "نشيد الحجر" للمخرج ميشيل خليفي (1990) و "الجنة الآن" للمخرج هاني أبو أسعد (2005) على العلاقة النموذجية والمتوقعة بين تصوير العنف في الأفلام الفلسطينية والرأي العام الغربي في الأفلام الدرامية الطويلة. ويحتوي فيلم "نشيد الحجر"، الذي تم تصويره عندما كانت رواية المحاكاة الفلسطينية تلقى تأييداً لها في الغرب، على قدر كبير من عنف المقاومة، ولأنه أنتج، أيضاً، خلال الانتفاضة، فهو يؤكد بشدة المعتقدات المجتمعية الأربعة لروحانا وبار- تال، وبالتالي، لسردية المحاكاة الفلسطينية. يستطيع خليفي القيام بذلك، باستخدام العنف البصري لكل من المقاومين والجيش الإسرائيلي، لإظهار تأثير الاحتلال الإسرائيلي على المجتمع الفلسطيني بأسره على المستويين المجتمعي والشخصي. إن عرض هذا العنف يؤكد في نهاية المطاف أن الفلسطينيين هم محض ضحايا وأن إسرائيل هي الشر المحض. من ناحية أخرى، تم تصوير "الجنة الآن" عندما لم تكن الرواية الفلسطينية المحاكية مفضلة في الغرب، لذلك فهو يحتوي على القليل من العنف البصري ويحرم المشاهدين فعلياً من العنف المتوقع في نهاية الفيلم. من المهم أيضاً الإشارة إلى أنه بينما يتعامل خليفي مع العنف ضد الشعب الفلسطيني والعنف المستخدم في سياق عسكري لمقاومة الظلم، فإن فيلم أبو أسعد يعالج العنف الموجه ضد المدنيين والمرتكب من أجل الاستمرار في المقاومة وليس من أجل إنهاء الاحتلال.

تم تصوير فيلم "الجنة الآن" خلال فترة الانقسام الفلسطيني ومع اقتراب الانتفاضة الثانية من نهايتها، وهو يؤكد على اثنين فقط من معتقدات روحانا وبار- تال المجتمعية، في حين يتعارض بشكل مباشر مع اثنين من المعتقدات الأربعة، مما يثير، في الواقع، تساؤلات حول بعض جوانب سردية المحاكاة الفلسطينية.

ومع ذلك، فإن العلاقة بين تصوير العنف في أفلام إيليا سليمان، "سجل اختفاء" (1996) و "يد إلهية" (2002)، والرأي العام الغربي، تتعارض على ما يبدو مع أفلام خليفي وأبو أسعد. ويعود هذا نتيجة لاختلاف النوع؛ فأفلام سليمان هي أفلام كوميدية، وعلى هذا النحو، لا ينظر الغرب إلى العنف فيها بذات طريقة رؤيته للعنف في الأعمال الدرامية الجادة. إن العنف في "يد إلهية" مبالغ فيه ومضحك ولا يُقصد منه أن يؤخذ على محمل الجد.

تم تصوير فيلم "سجل اختفاء" في ظل أجواء الفشل الذي كانت تعاني منه اتفاقيات أوسلو، ولأن الفلسطينيين بدأوا يخسرون التأييد الذي حظوا به في الغرب، بسبب استمرار استخدام المتطرفين الدينيين الأساليب الإرهابية لمهاجمة إسرائيل (Smith 246; Baxter and Akbarzadeh 145-6). يصادف أيضاً أن الفيلم لا يحتوي، تقريباً، على مشاهد عنف، ولا تدعم أحداثه المعتقدات المجتمعية وسردية المحاكاة الفلسطينية المحاكي إلا بشكل طفيف. لم يكن ثمة انتفاضة في ذلك الوقت، لذلك اختزلت الحاجة إلى تعزيز الرؤية الأيديولوجيّة. إلا أنه تم تصويره "يد إلهية" خلال العامين الأولين من الانتفاضة الثانية، وهو الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون لا يحظون بدعم كبير في الغرب بسبب استمرار استخدام التفجيرات الانتحارية (Smith 248)، مما قد يدفع المرء إلى الشك في الغاية من الفيلم لاحتوائه على القليل من العنف، مثل "الجنة الآن"، رغم أن "يد إلهية" يحتوي على عنف بصري أكثر بكثير من "سجل اختفاء"، وإن كان ليس بذات القدر الموجود في فيلم "نشيد الحجر". والعنف في فيلم "يد إلهية" يرتبط، كما هو الحال في "نشيد الحجر"، بوجود حركة مقاومة منظمة نسبياً على الأرض، أي، الانتفاضة الثانية. و نظراً لأن الفيلم كوميدي وتتداخل فيه المشاهد، يعمل العنف على تكريس أهداف أيديولوجية مختلفة، كما تعمل المشاهد، في الواقع، على السخرية من الاعتقاد الإسرائيلي بأن الفلسطينيين يشكلون تهديداً وجودياً لإسرائيل والذي بدوره يعزز سردية المحاكاة الفلسطينية، ولعل هذا يعود بسبب الطبيعة المبالغ فيها والخيالية للعنف في الفيلم. ومع ذلك، وبعيداً عن كون "سجل اختفاء" يؤكد، بصورة شبه مطلقة على المعتقدات المجتمعية الأربعة لروحانا وبار- تال، فإن "يد إلهية" يؤكد ثلاثة معتقدات منها فقط.

ومن الأهمية بمكان، لنا، أن ندرك العلاقة بين التصورات الغربية للصراع وعرض المعتقدات المجتمعية الفلسطينية في هذه الأفلام بسبب الطبيعة العابرة للحدود لكل من الأفلام والمخرجين أنفسهم، إذ يعيش اثنان منهما، خليفي وأبو أسعد في الشتات الأوروبي حالياً، هولندة تحديداً، بينما يقيم سليمان في رام الله، علماً أنه أمضى أكثر من عشر سنوات في الولايات المتحدة. لا يتوفر في فلسطين صناعة سينمائية، ولعل هذا يعود بالدرجة الأولى إلى العنف والاقتصاد الخانق للاحتلال. ويوضح غيرتز وخليفي أنه إذا رغب فلسطيني في إنتاج فيلم، فيجب عليه أو عليها الاستعانة بطواقم أجنبية، والعثور على تمويل أجنبي، وغالباً ما يكون تلقى تدريباً ما في بلد أجنبي (“Chronicle” 189). وهذا ما يخلق ديناميكية صعبة أحياناً، لكنها مثيرة للاهتمام بذات الوقت، لصانعي الأفلام الفلسطينيين. وتشرح ليفيا ألكسندر الأمر كما يلي: هناك، من ناحية، تعريف وتقويم للمعايير الغربية لإنتاج الأفلام وتمويلها وتوزيعها، فضلاً عن تجربة العيش في المنفى في الغرب، ومن ناحية أخرى، يقع الفلسطينيون في موضوع هامشي في الغرب باعتبارهم أفراداً من شعب محروم من حقه في الأرض والدولة، أو اعتبارهم مجرد "إرهابيين". ومن خلال تقديم موقع المقاومة والتفاوض من هذا الموقف، فإن إنتاج أفلامهم يهتم بشكل وثيق بقضايا الهوية والوجود الفلسطيني (Alexander “Palestinians in Film” 320). تؤثر تجارب صانعي الأفلام في الغرب بلا شك على أسلوب ومحتوى العمل، كما يفعل الفلسطينيون. وعندما سُئل خليفي عن قراره العيش في بلجيكا، أجاب: "حقيقة أنني أعيش دولياً لا تجعلني أنسى أنني من شارع صغير في الناصرة. ولكن، على الرغم من ذلك، لنكن واقعيين، نعم أنا أعيش في أوروبا، لذا فأنا جزء من أوروبا أيضاً" (Khleifi and Alexander 33). ولذلك، يبدو من المفيد، لجهة فهم بعض القضايا المعقدة في إنتاج هذه الأفلام الأربعة، تفحص هذه الأفلام فيما يتعلق بالرأي العام الغربي، والذي قد يكون له تأثير، واعٍ أو غير واعٍ، على هؤلاء المخرجين الدوليين ، نظراً لما تتركه هذه التأثيرات المزدوجة على المخرجين.

ثانياً: فيلم "نشيد الحجر"- إخراج ميشيل خليفي
يروي ميشيل خليفي في "نشيد الحجر" قصة عشيقين انفصلا بسبب العنف والظروف الصعبة التي أفرزها الاحتلال الإسرائيلي. ويتخلل هذا السرد، الذي تم تصويره بأسلوب تقليدي عادي، لقطات وثائقية لمواقف وقصص مختلفة لأشخاص عاشوا في فلسطين خلال الانتفاضة الأولى. غالباً ما تتناول أفلام خليفي حالة صراع بين عالمين (Telmissany 77) لأنه يعتقد أن "روح السينما" تتجلى في إظهار الصراع بين العناصر. وحالة الصدام بالنسبة إلى فيلم " نشيد الحجر"، هي الصدام بين عنف الانتفاضة والقصة الروائية (Khleifi and Alexander 32)، لكن الفيلم أيضاً ينقل هذا الصدام بين العناصر باستخدام صراع الأشكال، اعتياداً ووثائقياً. يجادل غيرتز وخليفي، في كتابهما، بأن أفلام ميشيل خليفي، على عكس الأفلام الفلسطينية اللاحقة، تحتوي على إحساس أكثر تماسكاً بالمشهد المكاني، وبينما يجادلان في صواب قولهما هذا عند لحديث عن فيلمي "عرس الجليل"[1987] و "حكاية الجواهر الثلاث" [1995]، يزعمان أنه يمكن قول الأمر عينه على فيلم "نشيد الحجر". يستعرض خليفي في "عرس الجليل"، صوراً للمشهد المكاني ومشهد المدينة ويستخدم التصوير بالكاميرا لتجاوز الحدود ولإعادة إنشاء الأرض التي تم تجزئتها (Gertz and Khleifi Palestinian Cinema 82-3)، لكن خليفي يستخدم ذات التقنيات في فيلم "نشيد الحجر".. من خلال عمل كاميرا مماثل وتجاور للصور، واستخدامه لـ "الذاكرة الجماعية للفلسطينيين"، التي تحتوي على تجارب متنوعة، ولكنها "متماسكة بشكل وثيق" وتساهم في تكوين هوية شاملة(Gertz and Khleifi Palestinian Cinema 76)، تمكن خليفي من فحص الطبقات المتعددة للمجتمع الفلسطيني في الفيلم، حيث يستخدم الأساليب المختلفة لصناعة الفيلم الوثائقية منها والشكلية التقليدية للتركيز على عواقب العنف الإسرائيلي على مستويات متعددة في المجتمع الفلسطيني: الفردية والعائلية والمجتمعية. وبينما يعمل هذا التباين على التمييز بين التجارب الشخصية وغير الشخصية للاحتلال، فإن جميع التجارب المذكورة أو المعروضة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعنف الاحتلال والمقاومة وتعمل على إثبات انتشار الاحتلال. إن تصوير خليفي للعنف يؤكد باستمرار المفهوم الفلسطيني الأساسي عن الشعب الفلسطيني بوصفهم ضحايا العنف الإسرائيلي. وبالمقارنة مع الأفلام الحديثة، مثل "الجنة الآن"، يصور "نشيد الحجر"، بشكل مباشر، قدراً أكبراً من العنف والغضب الفعال. وفي حين أن هذا العنف من نوع مختلف عن ذلك في "الجنة الآن" أو "يد إلهية"، إلا أنه لا يزال عنفاً بصرياً. بسبب التمثيل الإعلامي للانتفاضة الأولى والكمية الضئيلة نسبياً من العنف الذي استخدمه الفلسطينيون خلالها، تم قبول السردية المحاكية للتأذي ونشرها من قبل وسائل الإعلام الدولية والتي بدورها أدت إلى قبول عام لسردية المحاكاة الفلسطينية. في الرأي العام الغربي, ويعمل العنف في فيلم خليفي على التأكيد بقوة على المعتقدات المجتمعية التي تدعم هذه السردية.

أ) الواقعية المفرطة والرأي الغربي والمعتقدات المجتمعية
تتعلق العوامل السياسية التي أحاطت بالانتفاضة الأولى بوجود العنف وانتشاره في فيلم خليفي. لقد خلقت الصور الإعلامية الصادرة من الضفة الغربية وغزة، خلال الانتفاضة الأولى، تحولاً في الواقعية المفرطة فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني لصالح سردية المحاكاة الفلسطينية، مما أدى إلى تحول في الرأي العام الغربي بشأن طبيعة الصراع أيضاً. وتتزامن البيئة السياسية المواتية التي أحدثها هذا التحول مع استخدام خليفي، في فيلمه، لمقدار كبير من العنف البصري الذي عمل على تعزيز وتطوير المعتقدات المجتمعية الإيديولوجية الفلسطينية الأربعة الأساسية: تقديم الفلسطينيين كضحايا، وتبرير حركة المقاومة وسلوك المشاركين فيها، ونزع الشرعية عن إسرائيل قدر الإمكان. بدأت الانتفاضة الأولى على شكل انتفاضة شعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي في كانون الأول\ ديسمبر1987، وتضمنت، بخلاف الانتفاضة الثانية ( انتفاضة الأقصى)، عنفاً ضئيلاً نسبياً من جانب المقاومين الفلسطينيين الذين استخدموا، في المقام الأول، الوسائل السلمية للاحتجاج والمقاطعة، وعندما كانوا يهاجمون الجنود الإسرائيليين، كانوا- غالبيتهم على الأقل- يستعملون الحجارة والعصي، كان الردّ الإسرائيلي عليها بأساليب قمعية قاسية، الغاز المسيل للدموع والاعتداء الجسدي واستخدام الرصاص المطاطي والحي وحظر التجول، وهي أعمال ساهمت في تشويه سمعة إسرائيل الدولية. وطبقاً لـ "باكستر وأكبر زاده" فإن "صور الأطفال الفلسطينيين المسلحين بالحجارة في مواجهة العربات المدرعة الإسرائيلية تم بثها في جميع أنحاء العالم [...] علاوة على صور جنود إسرائيليين وهم يضربون المدنيين الفلسطينيين العزل، غير أنها لم تلقى تكثيفاً مناسباً سوى بعض الدعوات الداعية لحل الصراع"(Baxter and Akbarzadeh 140). أشبعت هذه الصور الإعلامية وسائل الإعلام الدولية وقلبت تيار الرأي العام ضد إسرائيل، التي لطالما صورت نفسها على أنها ضحية جيرانها العرب العدائيين. ولأول مرة، منذ بداية الاحتلال، وافق الغرب على جزء أساسي من سردية المحاكاة الفلسطينية: أي أن الفلسطينيين كانوا، في الواقع، ضحايا الاحتلال الإسرائيلي. يعمل فيلم خليفي أيضاً على تأكيد ودعم هذه السردية من خلال التأكيد بقوة على معتقدات روحانا وبار- تال المجتمعية والإيديولوجية.

ويبدو أن خليفي قادر على دعم المزاعم التي تقول بأن أهداف الفلسطينيين هي المزاعم التي يستعرضها، بالأساس، في لقطات فيلمه الوثائقي والتي تربط بين تصرفات الأفراد أو معاناتهم لارتباطهم بالقضية الفلسطينية، بسبب قدرة هذه اللقطات على إظهار التشابك بين الحياة الفردية والعائلية والمجتمعية. في المشاهد التي تتحدث عن محمد، يذكر صديق له حق الفلسطينيين في تقرير المصير وفي أن يكون لهم دولة. وينهي الأب، الذي أصيب ابنه بالرصاص أثناء نقل براميل لقوات الجيش الإسرائيلي، قصته بمناشدة إنهاء الاحتلال. كما تربط العديد من الموضوعات الوثائقية الأخرى أيضاً بالهدف الفلسطيني المتمثل في إقامة دولة خاصة بهم.. دولة خالية من الجنود الإسرائيليين. ويوضح خليفي، أن تضحيات هؤلاء الناس مبررة لأن هدف الانتفاضة عادل، من خلال ربط العنف والمأساة في هذه القصص بأهداف الانتفاضة. كما يتم، بالمثل، استخدام الكثير من اللقطات عينها لإثبات ظلم وعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي. وتمثّل لقطات الجنود الإسرائيليين، وهم يطلقون النار على الأولاد الصغار الذين يرشقون الحجارة، وكذلك لقطات النساء اللواتي يخرقن حظر التجول لشراء الطعام لعائلاتهن.. تمثّل كلاهما، بقوة، بعضاً من العنف المفرط الذي تمارسه القوات الإسرائيلية، بما يسمح لهذه اللقطات بتقديم مساهمة لمحاولة نزع شرعية وجودهم في فلسطين. ويتضمن خليفي أيضاً مقابلة مع امرأة مسنة تتذكر ما جرى في نكبة 1948، ونكسة 1967، وتروي كيف طان والدها يملك مساحات شاسعة من الأرض، فقد الكثير منها في العام 1948، وخسر المزيد مما تبقى في العام 1967. تشير، السيدة، إلى أرضها وتقول أن هذه القطعة هي كل ما تبقى من العديد من الأفدنة التي كانت لوالدها ذات يوم والتي استحوذ عليها الإسرائيليون الآن. هذه السيدة أكبر من أن تكون ناشطة في الانتفاضة، وليس لديها أطفال يمكن أن يشاركوا في المقاومة، وبالتالي، يمكن القول، أن إدراج لقطاتها في الفيلم ليست، ببساطة، سوى وسيلة لتذكر أحداث عامي 1948 و1967 وبدرجة اكبر وسيلة لنزع شرعية الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية. وهذا يستتبع منطقياً، أنه إذا كانت القضية الإسرائيلية غير شرعية والقضية الفلسطينية عادلة، فإن تصرفات حركة المقاومة لها ما يبررها. ومع ذلك، يقدم خليفي صوراً تبرر وتدعم احتجاجات الفلسطينيين واستخدام العنف المعتدل الذي يغلب عليه رشق الحجارة. ويعمل مشهد المرأة العجوز، التي تناقش أحداث عامي 1948 و1967، على تبرير أفعال الفلسطينيين من حيث أنه يقدم أدلة على أخطاء الماضي. فإذا أخذ الإسرائيليون الأرض من الفلسطينيين في عامي 1948 و1967، فإن محاولات الفلسطينيين لاستعادة تلك الأرض لها ما يبررها. كما يحتوي على أمثلة وأوصاف للإجراءات العنيفة والقاسية المفرطة للاحتلال الإسرائيلي مثل هدم منازل العائلات الفلسطينية الأبرياء. لم تعرف عائلة بطل الرواية عن مشاركته في المقاومة، لكن الجيش الإسرائيلي دمّر منزل العائلة بغض النظر عن براءة العائلة. يضمّن خليفي، في الفيلم، مشهداً لجنود إسرائيليين يجبرون شابين على محو رسومات على أحد جدران المدينة، وهو ما كان يمكن فهمه لو كان الشابان هما من قاما بالكتابة على الجدران، لكنهما كانا مجرد شخصين في طريقهما باتجاه المدينة عندما استوقفهما الجنود وطلبا منهما إزالة الكتابة ومحوها، وعندما يحاولان الرفض، يهددهما الجنود بالبنادق. هذه الأنواع من تكتيكات الإذلال والقوة المفرطة تبرر بشكل أكبر قرار الفلسطينيين بالثورة على الاحتلال. وبينما يؤكد الفيلم بشدة على جميع المعتقدات المجتمعية الأربعة، فإن الجزء الأكبر من العنف المرئي في الفيلم موجه إلى تصوير الفلسطينيين على أنهم ضحايا الاحتلال -وهو موضوع سيتم فحصه بالتفصيل في القسم التالي.

ب) أسلوب الفيلم والعنف والتأذي
يستخدم ميشيل خليفي، في فيلم "نشيد الحجر"، أسلوبين مميزين في التصوير لإيجاد التباين بين تجارب العائلات والتجمعات الفلسطينية والنضالات الفردية والشخصية للزوجين اللذين لم يكشف عن هويتهما، (يؤدي دوريهما كل من "بشرى قرمان" و"مكرم خوري"). وبينما يتم تصوير الزوجين بأسلوب تقليدي اعتيادي، يظهر خليفي لقطات المجتمع وقصص العائلات بأسلوب وثائقي، وفي حين يستخدم أيضاً المقابلات الشخصية في الفيلم الوثائقي التي تعبر عن غضب واستياء الشعب الفلسطيني، أثناء وصفهم أحداثاً شخصية، على عكس الزوجين الدراميين اللذين يصفان أيضاً أحداثاً شخصية، ولكن مع التركيز بشكل أكبر على تنوع المشاعر والحميمية، فنظهر الخبرات المتضمنة في الحوادث بدلاً من مجرد الغضب، ولهذا تنقل الصور الخارجية للمجتمع إحساساً بالفوضى والعنف والخسارة، بينما ينقل الحوار الهادئ، بين الزوجين، إحساساً بالاستقرار الهادئ وتصميم الأفراد الفلسطينيين على مواجهة الاحتلال، ولكن كلا الأسلوبين المستخدمين في الفيلم ينقلان صوراً قوية للعنف، إما بصرياً، في حالة اللقطات ذات الأسلوب الوثائقي، أو من خلال الوصف اللفظي في المشاهد الاعتيادية التقليدية للزوجين الحبيبين. ويستخدم هذا العنف كوسيلة للتأكيد على قيام الاحتلال الإسرائيلي بإيذاء السكان الفلسطينيين ككل.

يتعلق المحتوى، في الغالبية العظمى من اللقطات الوثائقية التي يستخدمها خليفي في الفيلم، بتدمير أو تعطيل المجتمعات الفلسطينية. وتظهر أولى هذه المشاهد في بدايات الفيلم، حيث تظهر عناصر الشرطة الإسرائيلية وهي تقوم بإغلاق مدرسة فلسطينية للبنات في القدس. تتقاطع هذه اللقطات الوثائقية وتتعارض بشدة مع مشاهد العاشقين اللذين يتحادثان بهدوء في أجواء حميمية. تبدو لقطات الشارع خارج مدرسة البنات فوضوية -تنطلق صفارات الإنذار في الخلفية، ويتحدث العديد من الأشخاص بلهجة سريعة، ويصرخ أفراد الشرطة الإسرائيلية وهم يلقون الأوامر ويلوحون ببنادقهم. وتكون الكاميرة في هذه المشاهد مهتزة، واللقطات قصيرة وغير مؤلفة بشكل تقليدي اعتيادي، مما يساهم في تنامي الشعور بالفوضى والخوف الناجم لدى العديد من الأفراد الذين تتم مقابلتهم. على الرغم من أن المشاهد تتضمن مقابلات موجزة مع عدد قليل من الطالبات وبعض أولياء الأمور والمدرسين، إلا أنه لا يتم تقديم هذه الحالة كتجربة شخص واحد، بل تظهر كأنها حكاية وتجربة يشارك فيها المجتمع ككل. وتظهر الفتيات الصغيرات، ومعظمهن يرتدين الحجاب، محملات في مؤخرة شاحنات الشرطة بينما تبحث أمهاتهن عنهن بشكل محموم. كما أجريت مقابلات مع مجموعة أخرى من الفتيات يحاولن القول أن عناصر الشرطة أغلقوا غلق المدرسة لزعمهم قيام بعض الفتيات كن يرشقن الحجارة، مع إصرار الفتيات على نفي ادعاءات الشرطة، بل أن الأمر ببساطة، يتمثل في قيام الشرطة باستفزازهن حسب ما تقول الفتيات. وتظهر المعلمة، التي تتحدث لفترة وجيزة إلى الكاميرا، في حيرة من أمرها مما يتوجب عليها أن تفعله، لأنها لا تستطيع العثور على المدرسين أو المسؤولين في المدرسة. وهذه اللقطات بمثابة مؤشر على آثار الاحتلال على مستويات متعددة في المجتمع. يؤثر الفعل الفردي المتمثل في إغلاق المدرسة على المجتمع، من المهنيين الذين يدرِّسون في المدرسة ويديرونها إلى الفتيات الصغيرات اللائي يحضرنها وعائلاتهن. ويهدف هذا الإجراء أيضاً إلى هدف غير قتالي مليء بالنساء والفتيات المدنيات. ومن الواضح أن خليفي قادر على استخدام صورة إغلاق مدرسة البنات، بالقوة والعنف، للإشارة إلى أن المجتمع بأكمله يعاني من الاحتلال، وليس فقط الشباب الذين يقاتلون في حركة المقاومة. كما يستخدم خليفي الشريط الوثائقي لإظهار الصلات بين التجارب الفردية والعائلية والمجتمعية للانتفاضة. ومن أفضل الأمثلة على هذا الترابط قصة محمد، المتشابكة مع قصص مجتمعه وعائلته.

وعلى الرغم من أن اللقطات الفعلية المعروضة ليست لأحداث عنيفة، إلا أن محمد يصف، بالتفصيل، الظروف العنيفة التي أصيب فيها ويكشف عن ندبة خلّفتها الشظية التي أصابته. لكن خليفي يبدأ، قبل تقديم لقطات لمحمد، بمقابلة والدي محمد، حيث وصف والده الصبي كيف أنه لم يعد قادراً على مشاركة أكل التفاحة مع ابنه، وتأسف والدته كيف لم يعد محمد قادراً على تناول طعامها الذي كان يحبه، وسبب شكوى الأب والأم أن ابنهما فقد معظم أمعائه نتيجة إصابته. ويشر خليفي، من خلال تقديم قصة محمد عبر والديه، إلى أن قصة محمد لها تداعيات تصل إلى أبعد من الصبي ذي السبعة عشر عاماً والانتفاضة وعائلته ومجتمعه. تم تصوير محمد نفسه لأول مرة وهو في سريره في المستشفى رفقة أحد أصدقائه، الذي يساهم بشكل دوري في المقابلة، وكذلك في اللقطات. تبدو غرفة محمد، في المستشفى، مزيّنة بصور شهداء من منطقته، ويقع وصفه لجرحه وتجربته الشخصية ضمن صياغة السياق الأوسع للانتفاضة ومجتمعه. فيتحدث، غالباً، عن رغبة الفلسطينيين في أن تكون لهم دولتهم الخاصة بهم ويتطرق إلى الإذلال اليومي الذي عاناه هو والفلسطينيون الآخرون على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي. كما يشير، ويصف العديد من صور الشهداء المعلقة فوق سريره ويسمي كل شهيد ويصفه باقتضاب كأن يقول: "كان لديه ثمانية أطفال" أو "كان عمره خمسة عشر عاماً فقط". وتروي والدته كيف ذهب محمد في اليوم السابق لإطلاق النار عليه لالتقاط صورته وادعى أنه سيكون شهيداً عما قريب. وهو يدرك أن تجربته مشابهة ومرتبطة بمئات من الشبان الفلسطينيين الآخرين الذين أصيبوا أو قُتلوا في ظل الاحتلال، كما أن مجتمعه يعترف بهذه الصلة. محمد هو الضحية الأكثر وضوحاً للعنف في هذا الجزء من الفيلم، لكن تم تصويره على أنه ضحية واحدة فقط ضمن سلسلة طويلة من الضحايا المتشابهين من خلال صور الشهداء. يستخدم خليفي محمد كمثال على العنف الذي يعيشه المقاومون، لكنه يوسع أيضاً قصة المقاومة لتشمل بقية المجتمع أيضاً. لا يظهر محمد في عزلة. وعندما يعرض خليفي لقطات لعودة محمد إلى حيّه، يتضح أن جيرانه ينظرون إليه كبطل، ويحافلون بعودته وهم يرقصون في الشارع، ووالدته وسط الحشد. لكن حتى هذا الاحتفال لا يمكن أن يفلت من خطر العنف، حيث تقف مجموعة من الجنود الإسرائيليين بحذر من مسافة بعيدة، وبنادقهم مشدودة على أجسادهم. يستخدم خليفي قصة محمد كدليل على انتشار آثار عنف الانتفاضة على المجتمع الفلسطيني. قصة جرح أحد الأطفال وشفائه منسوجة بشكل لا ينفصم عن قصة مجتمعه الذي يقاتل نيابة عنه والذي هو أيضاً ضحية للاحتلال.

وبينما تتضمن اللقطات الوثائقية مقابلات مع أفراد يروون قصصهم الشخصية، مثل الزوجين الدراميين اللذين لا نعرف اسميهما، فإن هذه القصص، غالباً ما تكون روايات مصورة وعنيفة تُروى بأصوات غاضبة ومختلطة بخطاب الانتفاضة. ولعل من أبرز المقابلات من هذا النوع التي ضمّنها خليفي، تلك المقابلة مع رجل في منتصف العمر يصف وفاة ابنه, ويوّر خليفي المقابلة حيث يكون الرجل جالساً في مواجهة الكاميرة ويتحدث مباشرة، بينما يحيط به أفراد من جيرانه، وليس ثمة ما هو عنيف في هذا المشهد، غير أن العنق ينسل إلى المشهد من خلال وصف الرجل لموت ابنه. فطبقاً للرجل، طلب منه جندي إسرائيلي، عندما يهم بمغادرة المسجد ومعه ابنه، نقل البراميل بعيداً عن الشارع. ونظراً لوجود نساء وأطفال، ولأن الجندي كان قد كسر ذراع أحد الأطفال بالفعل، فقد امتثل الرجل للأمر وطلب ابنه المساعدة من أجل إنهاء المهمة بسرعة، وأثناء ذلك هاجمت مجموعة من الجنود المكان على حين غرة، فأصيب الابن البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً بعشر رصاصات ومات على الفور في مكانه في الشارع. لا يرى المُشاهد مناظر عنيفة بينما الرجل يروي قصته بهذه البساطة، لكن ثمة غضب ملموس في صوت الرجل يتصاعد اثناء حديثه، وعندما يصل إلى بعض المواضع في روايته يصرخ مستذكراً موت ابنه. وبعد أن ينهي الرجل سرد قصة موت ابنه، يربط ما حدث له ومعاناته الخاصة بمعاناة المجتمع ككل فيعرض أمام الكاميرة طفل صغير مصاب بطلقة مطاطية سببت انتفاخاً و تورماً في قفصه الصدري، وكأنه يوحي أن قصة موت ابنه ليست حدثاً منفرداً أو منعزلاً.

استخدم خليفي، هذا المشهد، مرة أخرى فرداً واحداً لتمثيل معاناة وضحية المجتمع ككل. ومثلما هو الحال مع الفتيات في مشهد مدرسة البنات، وكذلك مشهد المقبلة مع والد الابن المقتول لا يظهر هؤلاء على أنهم من مقاتلي المقاومة، وكما يقول الأب، لم يفعل ابنه ما يستوجب أن يُطلق عليه النار ويُقتل في الشارع، وكل ما في الأمر أنه كان في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. بعبارة أخرى، كان ابنه محض ضحية للعنف الإسرائيلي غير المبرر. ثمة عدم وضوح في هذه المشاهد ذات الأسلوب الوثائقي، وتتجلى الضبابية أكثر بين ما هو شخصي وما هو عام على صعيد الأفراد الذين أجريت معهم المقابلات وكذلك من خلال دمج الصور والأصوات والأشخاص الآخرين داخل المشهد. ويعكس نسج الصور هذا، التي يظهر بعضها هادئ وجميل، وبعضها الآخر صاخب وفوضوي، وبعضها حزين، والبعض الآخر ثابت، كل هذا، يعكس التجربة اليومية للفلسطينيين في ظل الاحتلال ويخدم التأكيد على حتمية مزاعم الفلسطينيين بتعرضهم للتأذي من الوجود الإسرائيلي.. بينما لا تزال هناك تجارب ممتعة للفلسطينيين، وبينما تستمر الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، يتم مواجهة هذه التجارب على فترات منتظمة بتجارب من الصدمة والحزن والغضب والإذلال، والتي ينتج عنها مزيج من الشعور بالتأذي الذي يبرزه خليفي في المشاهد الوثائقية. ولكي يعتقد المُشاهد أن الفلسطينيين مثقلون في هذا التأذي، يضيف خليفي مشاهد أكثر اعتيادية وتقليدية بين العاشقين للمساعدة في إثبات أن الفلسطينيين يواصلون حيتهم في فلسطين المحتلة من خلال الهدوء والمثابرة، على الرغم من كونهم ضحايا العنف الدائم. ويقوم المخرج بتشكيل وترتيب مشاهد الزوجين والعناية بها بصورة ملفتة، فتظهر الزوجة، في المشهد الأول، وهي تجلس على السرير في الغرفة المعتمة، إلى يمين وفي منتصف كادر الشاشة تقريباً، ويتسرب الضوء الوحيد من النافذة التي على اليمين. وتحتل الزوجة غالبية اللقطة أثناء حديثها؛ ويختلف الحال عندما يسير الرجل ضمن الكادر، ثم يجلس على السرير أمامها، فيخلق تكويناً على شكل حرف L، ليسيطر، بدوره، على اللقطة، وتظهره الإضاءة القادمة من النافذة أكثر وضوحاً بسبب لون قميصه الأزرق الفاتح، مما يجعله يبدو، اثناء حديثه، الموضوع الأساسي للمشهد. ويعتني خليفي، بدقة بجميع مشاهد الحبيبين تقريباً، بعكس لقطات المشاهد الوثائقية التي تبدو طويلة وثابتة وهادئة، ناهيك عن الحوار الهادئ والثابت أيضاً.

يتناقض الشعور بالثبات الذي يخلقه استخدام هذه العناصر الاعتيادية مع مواضيع محادثات الزوجين. يناقش الزوجان تجربتهما الشخصية مع الاحتلال بتفاصيل دقيقة، وبينما يصفان أحداث حياتهما بأصوات هادئة، فإن الأحداث ذاتها ليست كذلك، بل هي عنيفة ومأساوية. ومع هذا لا يكون التركز على عنف الحدث، بل على تجارب العنف الشخصية لكليهما، كأفراد، وعلى بعضها كزوجين. ويستخدم خليفي عناصر فيلمية تقليدية، مثل الإضاءة وتأليف المشهد، لتسليط الضوء على راوي هذه القصص وعزمه على مواصلة وجوده الطبيعي قدر الإمكان في فلسطين في مواجهة العنف والصدمة التي يعانون منها كأفراد، ولعل تضمين هذه المشاهد يؤمن المادة المناسبة لخليفي لإظهار تعارض الغضب الجماعي الموجود في اللقطات الوثائقية مع التجارب العاطفية الشخصية المعقدة للزوجين، ويساعد مثل هذا التباين، خليفي، على استيعاب أكبر قدر ممكن من تجربة شعور التأذي الفلسطيني في فيلمه، فضلاً عن تصوير الضرر الشخصي الأقل وضوحاً والذي يواجهه الفلسطينيون نتيجة للاحتلال.

ففي المشهد الأول للزوجين، يصف الرجل يوم اعتقاله وطرد عائلته من منزلهم نتيجة مشاركته في المقاومة وسجنه، ثمة مشاعر عديدة تثيرها القصة التي يرويها، لكن ملامح وجهه تبقى دون تغيير وهادئة. يتأسف لأن الأسرة فقدت منزلها نتيجة أفعاله، ويتذكر تفاصيل المبنى والأشياء والمجردة التي أجبرت الأسرة على تركها وراءها. يتناقض وصفه، والمشاعر التي يثيرها، بشكل حاد مع مشهد الأسلوب الوثائقي الذي أدرجه خليفي في نهاية الفيلم، حيث تظهر اللقطات عملية إخلاء عائلة من منزلها وهدم البيوت المجاورة بأكملها. يتصاعد المشهد بصخب وينقل مشاعر الفوضى التي تشعر بها الأسرة، فتظهر الجدة وهي تبكي لفقدانها منزلها، بينما يقف الأطفال الصغار في حيرة ن أمرهم مما يجب عليهم فعله، ويقوم الرجال بتجريد المنزل من أي شيء ذي قيمة يمكن للأسرة الاحتفاظ به، وتظهر متعلقات الأسرة ملقاة في الفناء، ثن ينتقل المشهد إلى شابة تتحدث بسرعة وبغضب أمام الكاميرا، وتؤكد على استمرارية المقاومة، رغم عدم امتلاكهم ما يكفي من المال لشراء الطعام أو الدواء، وها هم الآن باتوا بلا منزل يأويهم أيضاً، لن يتمكن الاحتلال من القضاء على المقاومة، هكذا تقول الفتاة بغضب. وهذا، بالأساس، المشهد ذاته الذي يصفه الرجل، ولكنه في هذا الأسلوب الوثائقي ينقل المخرج حالة الغصب حصراً دون التداخل مع مشاعر أخرى، بينما التوصيف الذي يقدمه الرجل \ الزوج لتجربته الشخصية لعملية الطرد من المنزل تنطوي على مشاعره الشخصية الخاصة المرتبطة بالفقد والحزن بالإضافة إلى الشعور بالذنب بسبب ما تسبب به عن غير قصد بأن جعل عائلته هدفاً للجيش الإسرائيلي. ويتحدث عن الطريقة التي نظرت بها أسرته إليه، وكأنهم لم يروه من قبل، حيث تم اعتقاله وكيف كان مسؤولاً عن تدمير منزل عائلته. كما يروي كيف عاشت أسرته في منزل مكوّن من غرفة واحدة لفترة طويلة بعد هدم منزل الأسرة، ومع كل هذا، فهو لا يتعرض للوم عائلته، بل على العكس فقد وقفت، الواقع، عائلته إلى جانبه. ويسمح الرجل للقارىء أن يتفحص ويركز، من خلال السرد الشاعري للرجل\ الزوج، على الصور التي تضيع في مزيج من الضوضاء والغضب في المشهد الوثائقي. ويزعم الرجل أثناء حديثه أن "رأسه مليء بصورة كرسي مُلقى في السماء، وجوارب أخيه الصغير تطفو في الهواء". هذه الصور التي تم التقاطها من خلال حواره تسمح للمشاهد بتركيز الصورة الأوسع التي رسمتها المشاهد الوثائقية على تجربة شخصية أكثر ضيقاً. وبينما تتناثر قطع الأثاث والثياب في هذه اللقطات الوثائقية، يرسم الرجل صورة قوية لهذين العنصرين المحددين اللذين أصبحا جزءً من ذاكرته. لم يعد ثمة موضع، في هذا الوصف، لأشياء عشوائية مبعثرة حول أشخاص مجهولين، إنها كرسي عائلته وجورب يخص أخيه. تصبح صور هذا الحدث العنيف شخصية وأكثر واقعية.

وفي المقابل، تروي المرأة \ الزوجة، عدداً من الحكايات التي تضفي طابعاً شخصياً على بعض موضوعات المشهد الوثائقي. ومن أكثر رواياتها إثارة وصفها لحبها الأول وإجهاضها اللاحق. فتصف، في هذه القصة، ذهابها إلى الجامعة في حيفا حيث التقت بحبها الأول هناك. وتتحدث عن تعلم التمرد والمقاومة لكنها تنسى نفسها في هذا السياق. لقد حملت وأجهضت لكنها أصيبت بعدوى واعترفت لعائلتها عندما لم يعد بإمكانها إخفاء ذلك. ثم تتابع القول، لتصف نقاشها مع عائلتها حول الطريقة التي يجب أن يقتلوها بها، ثم يقرروا، في نهاية المطاف، طردها ونفيها. تصف المرأة، أثناء سردها، مشاعر الحب والخوف والحزن والعار والشعور بالذنب. يتضمن هذا السرد موضوعات يتناولها المشهد الوثائقي، ومجمل الفيلم ككل/ بصورة واسعة، بما في ذلك اضطراب الحياة الأسرية الناتج عن التمرد. هناك عدة مشاهد وثائقية تشير إلى انحراف في الأنشطة النموذجية للعائلة/ كما ثمة، هناك، صور متكررة للأسواق التي كانت مفتوحة ذات يوم وصارت الآن مغلقة ومهجورة بسبب حظر التجول الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على المدن. حتى أن خليفي يضم صوراً لنساء وأطفال يكسرون حظر التجوال في غزة من أجل الذهاب إلى سوق مؤقت وشراء الطعام، لأن المدينة كانت مقفلة بسبب حظر التجول الذي استمر لعدة أيام ويكاد الطعام ينفد من العائلات. ورغم أن هذا النشاط يعتبر عادياًـ إلا أنه الآن بات يظهر كسلوك "إجرامي" (حسب المعايير الإسرائيلية)، فظهر ذهاب النسوة لشراء المواد الغذائية، أثناء حظر التجوال، كأنه عمل أجبرن عليه بسبب الاحتلال والانتفاضة.

وثمة حادثة أخرى، ربما أكثر تنافراً، تم تصويرها في أسلوب وثائقي، وهي مشهد مجموعة من الأولاد الصغار، ربما في الثامنة من أعمار، يلعبون "سبع حجرات"، لكنهم، في الواقع، يستخدمون الرصاص المطاطي الذي عثروا عليه في الشارع بدلاً من الكرات. يتحدث الأطفال أمام الكاميرة بأن الجنود صادروا كراتهم، لذا فالبديل الأفضل الآن هو الرصاص المطاطي. ثم يذهب أحد الأولاد ليُظهر للكاميرا حفنة من أنواع مختلفة من الرصاص ويصف افرق بين كل نوع ويشرح ما يسببه كل نوع عندما يصاب به أحدهم. يذكرنا هذا بمشهد بطفل يُظهر لشخص بالغ مجموعة من الرخام ويصف الفرق بين رخام "عين القط" ورخام "دم الثور". وإذن حتى النشاط الذي يبدو غير ضار، مثل لعب الأطفال بالكرات، قد تغير نتيجة للانتفاضة. وفي كلتا الحالتين، تظل مواضيع المشاهد الوثائقية مجهولة الهوية وغير شخصية. لا يوجد ذكر لمشاعرهم حيال هذه التغييرات في أنشطتهم اليومية باستثناء الانزعاج والغضب.

وتظهر تجربة المرأة\ الزوجة في المقاومة الحب، على عكس موضوعات المشهد الوثائقي، كأنها قد غيرت حياتها بطريقة رأساً على عقب تقريباً، كما تسببت، هذه التجربة، لها ولعائلتها بالمزيد من الألم والمعاناة، فمن جهة جعلها طغيان حبها الأول وتعرفها على تجربة المقاومة تنسى من هي وتبتعد عن روابطها الأسريّة، ومن جهة جلبت تجربته تلك العار لعائلتها فابتعدوا عنها وهجروها، لنتذكر عندما كان أفراد عائلتها يناقشون الطرق الممكنة لقتلها، و كانت الطريقة الأخيرة المقترحة هي الحرق، وكيف قوبلت بالرد: "كيف يمكنهم حرقك عندما يكون البلد مشتعلاً؟" القرار الأخير هو أنه يجب نفيها، لكن هذا الاقتباس يشير إلى أنه ربما يكون الدمار الذي سببته الثورات وجعل موتها نافلة لا عنى لها إزاء العنف، بهذا يكون الدمار هو السبب الوحيد لبقائها على قيد الحياة. فالانتفاضة لا تساهم فقط في فقدانها للذات، بل إنها تعرقل أيضاً، بما يبدو في مصلحتها، السياقات العقابية العائلية على سلوكها. ويتعرف المُشاهد، بعكس المشهد الوثائقي، على مشاعر الخوف والعار والشعور بالذنب، بالإضافة إلى عواطف عائلتها أثناء عملية اختيار طريقة معاقبتها. يظهر أقاربها من الذكور في حالة غضب وخجل من سلوكها، وتظهر أمها غارقة في الحزن. توضح هذه اللقطة كيف يغير الاحتلال والانتفاضة من طبيعة العلاقات الأسرية، وهي تبدو لقطة شخصية أكثر من تلك الصور الموجودة في المشهد الوثائقي، كما تظهر مستوى أكثر تعقيداً من الناحية العاطفية للمُشاهد ليختبرها بدلاً من مجرد تأمل صور معممة وعنيفة.

قد يبدو هذا المشهد في البداية وكأنه يتناقض مع تأكيدي بأن الفيلم يؤكد الاعتقاد بأن الفلسطينيين لا يمكن أن يرتكبوا أي خطأ. ترى "مي تلمساني " أن ميشيل خليفي يستخدم النقد المزدوج في معظم أفلامه، بما في ذلك نشيد الحجر (Telmissany 81-82)، بينما يشير خليفي نفسه وكينيدي إلى أنه يحب الانخراط في النقد الداخلي التقليدي / الحداثي (Kennedy 40; Khleifi and Alexander 33). في حين يبدو أن هذا المشهد هو نقد للمعايير الثقافية الفلسطينية التقليدية للتعامل مع الابنة المتمردة والعار، إلا أنه يمثل نقداً لما يحدث في فلسطين على الصعيد الداخلي، وليس بوصفه مشكلة خارجية مع الاحتلال.

وبينما يؤثر الاحتلال على قرار الأسرة، فإن العملية بحد ذاتها ليست ناتجة عن الاحتلال أو عن مقاومته. يشير تحليل روحانا وبار- تال للمعتقدات المجتمعية، على وجه التحديد، إلى السلوكيات التي ترتبط، بطريقة ما، بالنزاع نفسه، لذلك على الرغم من أن الأفراد لا يزالون قادرين على ارتكاب أخطاء في حياتهم الشخصية والعائلية، إلا أن السلوك الفلسطيني فيما يتعلق بالمقاومة لا يزال يعتبر صحيحاً وعادلاً.. يصف الزوجان أيضاً الأحداث التي مروا بها معاً. وكان أبرز حدث ناقشوه اعتقاله وسجنه خمسة عشر عاماً. ناقشوا انفصالهم نتيجة سجنه عدة مرات طوال الفيلم وكان كل نقاش يسلط الضوء على الاختلافات في تجاربهم الشخصية للحدث ذاته. وكان أول ما ناقشوه قرارها بقص شعرها. يذكر كيف أحب شعرها الطويل، وكثيراً ما كان يفكر في إحساسه ورائحته أثناء وجوده في السجن. لكنها تشرح كيف اضطرت لقصّه من أجل محو حبها الأول، الذي أحب شعرها الطويل أيضاً، و "إنهاء معاناة [حبها] الثاني". يستخدم خليفي هذا المشهد ليثبت أنه على الرغم من أن الناس قد يواجهون الأحداث ذاتها، إلا أنهم يقومون بذلك بطرق مختلفة، وتأتي الأحداث وتجري لتعني وترمز إلى أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. ويركز المشهد الوثائقي، على عكس مشاهد الزوجين، على المشاعر المشتركة والتجارب المشتركة. فيصف، على سبيل المثال، الرجل الأول الذي تمت مقابلته في غزة حول وفاة ابنه، كيف داهم الجنود الإسرائيليون منزله في منتصف الليل، وقتلوا أحد أبنائه، وأخذوا آخراً معهم. ويظهر غضبه واضطرابه وهو يصف هذا المشهد ويحيط به عدد من الرجال من جيرانه، وتتخلل لقطات له وللرجال لقطات من مناطق مختلفة في غزة. وعندما ينتهي الرجل من سرد قصته، يزعم رجل آخر، يجلس بجانبه، أن الأمر عينه حدث لجاره بعد يومين وعاد الجنود لتفجير منزل الجار بعد بضعة أسابيع. هناك تركيز، في هذه المشاهد، على التجربة المشتركة. يروي الفرد قصته أو قصتها، ولكنه يسارع في سرد قصص أخرى مثل قصصه أو قصصها من أجل إظهار أن عنف الاحتلال منتشر. وبالمثل، تكون هذه المشاعر، التي تظهر أثناء سرد هذه القصص، هي المشاعر التي تتشاركها الجماعة أو المجتمع. لا يتحدث الأفراد في المشاهد الوثائقية، عن تجاربهم بطريقة شخصية أو حميمة قط، وعادة ما يظهرون مشاعر الحزن أو الغضب، وهي مشاعر يتشارك فيها جميع الحاضرين أثناء التصوير. إن إصرار الخليفي على تضمين الرواية الشخصية الحميمية للزوجين إلى جانب اللقطات الوثائقية يسمح للفيلم بالتقاط الطبيعة الجائحة المتفشية للاحتلال للمجتمع الفلسطيني بأسره، وكذلك الوسائل التي يتعامل بها الأفراد مع العنف الذي دفعتهم إليه الحرب. يقدم "نشيد الحجر" صورة مقربة للتجربة الفلسطينية للاحتلال والانتفاضة تشمل الضرر النفسي والعاطفي للأفراد وكذلك الأضرار البنيوية التي تلحق بالمجتمعات والوحدات الأسرية. وتوضح هذه الصورة\ الحلقة المستديرة، بدورها، الطرق كافة، التي يتأذى بسببها الفلسطينيون من عنف وعسف الاحتلال.

إن الاستخدام المستمر للعنف طوال الفيلم لإظهار المعتقدات المجتمعية المختلفة التي يدعي روحانا وبار- تال أنها ضرورية أثناء تفشي النزاعات الإثنية المستعصية والتركيز بشكل خاص على إظهار الفلسطينيين كضحايا، بلا منازع، للعنف الإسرائيلي لتأكيد سردية المحاكاة الفلسطينية الذي تأسست على قاعدة تلك المعتقدات.

إن إعادة تأكيد هذه المعتقدات، في الفيلم، يرتبط بقبول الغرب العام للاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم الضحايا، والاستخدام المكثف للعنف البصري يرتبط بوجود حركة مقاومة منظمة داخل فلسطين. تسبب تشبع وسائل الإعلام بصور لشبان فلسطينيين يرشقون الجنود الإسرائيليين بالحجارة وهم يطلقون أسلحة آلية، تحولاً في الواقعية المفرطة للغرب. وقد سمح الحضور الساحق لهذه الصور للغرب بقبوله، لبعض الوقت، أحد أهم جوانب سردية المحاكاة الفلسطينية: أي، أن الفلسطينيين، وليس الإسرائيليين، هم الضحايا الحقيقيون لهذا الصراع.
ثالثاً: فيلم "الجنة الآن" للمخرج هاني أبو أسعد.

رغم أن فيلم "الجنة الآن"، أنتج بعد نحو ستة عشر عاماً من "نشيد الحجر"، إلا أنه يتقصى بعض الدوافع السياسية والاقتصادية والنفسية للانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم في سياقات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن هاني أبو أسعد يقارب فيلمه بطريقة أسلوبية مختلفة عن خليفي. فبينما يستخدم خليفي التباين لتحديد المستويات المتعددة لمعاناة السكان الفلسطينيين، يستخدم أبو أسعد النمط العام لأفلام هوليوود المثيرة. وتزعم ناديا يعقوب أن استخدام النوع يؤدي إلى توقع الجمهور (Yaqub, “Paradise Now: Narrating a Failed Politics" , 219). في حين أنها تشير إلى أنواع الزفاف وأفلام الطريق، يمكن قول الشيء نفسه عن استخدام أبو أسعد لنوع الإثارة. إن استخدام نوع الإثارة واختيار أبو أسعد للموضوع يولّد لدى المشاهد التوقع و"الرغبة في مشهد الرعب، والرغبة في الاستمتاع بما هو مستهجن أخلاقياً، وفي الوقت نفسه يمنع المشهد من أن يتجسد أمامه" (Gana 36). يستخدم أبو أسعد في المقام الأول الحركة القليلة، سواء للكاميرا أو للشخصيات، للإشارة إلى الركود وفقدان الأمل الذي يلف الكثير من السكان الفلسطينيين بعد انهيار اتفاقيات أوسلو وبعد الانتفاضة الثانية. يتقدم فيلمه، على عكس فيلم خليفي، بترتيب زمني ويستخدم أسلوب تصوير فردي متسق لكامل الفيلم. ويتضمن، على عكس "نشيد الحجر" أيضاً، عدد قليل جداً من المشاهد العنيفة بصرياً على الرغم من موضوع الفيلم العنيف بطبيعته. يتغلغل عنف الاحتلال في مضمون الفيلم، ولكن على المستوى اللفظي في الغالب، من خلال الحكايات والمناقشات، وليس على المستوى البصري. ويشير " Gana" إلى أن أبو أسعد يستخدم التقاليد السينمائية [...] من أجل التراجع عن مشهد الإرهاب والتعبير عن رواية أكثر دقة وتحدياً عن الدولة الفلسطينية، وهي رواية كانت حتى الآن غير مسموح بها و \ أو غير موثوقة بسهولة بالنظام المهيمن للاحتلال الإسرائيلي (2 Gana).

لكن من المهم الإشارة إلى أن نوع العنف في فيلم أبو أسعد يختلف عن نوع العنف في فيلم خليفي والذي يمكن أن يفسر على الأقل بعض الاختلافات في معالجة العنف في الأفلام. وكما ذكرنا سابقاً، فإن العنف في فيلم خليفي هو عنف بين المقاومين والجيش الإسرائيلي، بينما العنف المقترح في فيلم أبو أسعد يرتكب ضد المدنيين. ويعتبر نوع العنف في فيلم أبو أسعد مستهجناً من الناحية الأخلاقية من قبل الكثيرين، وخاصة لدى جمهوره الغربي، والذي ربما لعب دوراً في قراره بعدم إظهار التفجير النهائي. كانت الانتفاضة الثانية أكثر عنفاً بكثير من الأولى. حيث بات الفلسطينيون الآن يستخدمون، بانتظام، الأسلحة والبنادق والقنابل، وهو الأمر الذي تجنبوه، عموماً، في الانتفاضة الأولى. ونتيجة لهجوم 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي، تأرجح الرأي العام الأمريكي والأوروبي بسهولة في دعم أي دولة كانت ضحية للهجمات الانتحارية، ووقفوا ضد أي مجموعة تستخدم التفجيرات الانتحارية أو تشجعها -وهو الخلط الذي استغلته إسرائيل لمصلحتها. ويشير " Gana" إلى مشكلة مناقشة التفجيرات الانتحارية بعد 11 سبتمبر ويجادل بأنه إذا حاول المرء "تفسير" الإرهاب، فغالباً ما يتم الخلط بينه وبين التغاضي عنه(22 Gana) ويتجنب الكثيرون مناقشة تعقيد الإرهاب، أو عوامله السياقية، خوفاً من إضفاء الطابع الإنساني على الانتحاريين الذي "يفضح، في النهاية [...] الفائدة من تجريدهم من إنسانيتهم"(25 Gana). نظراً لأن الواقعية المفرطة التي أوجدتها وسائل الإعلام كانت مشبعة بالصور واللقطات الصوتية التي ربطت بين التفجيرات الانتحارية والشر ومعاداة أمريكا وربطت الفلسطينيين بالتفجيرات الانتحارية، فقد كان يُنظر إلى الفلسطينيين مرة أخرى على أنهم المعتدون، وكان يُنظر إلى الإسرائيليين على أنهم هم الضحايا في الإعلام الغربي. وقد أدى هذا التحول في الواقعية المفرطة إلى تحول في الرأي العام الغربي في معارضة سردية المحاكاة الفلسطينية. لكن الأمر المثير للاهتمام هو أنه بدلاً من إعادة تأكيد هذه السردية المحاكية من خلال إعادة التأكيد على المعتقدات المجتمعية الأساسية، مثلما هو الحال في فيلم خليفي، فإن فيلم "الجنة الآن" يرفض في الواقع اعتقادين مجتمعين مهمين في دعم الرواية الفلسطينية المحاكية، أي النظر إلى الفلسطينيين كضحايا فقط على طول الصراع، وأنهم لا يخطئون عندما يتعلق الأمر بمقاومة الاحتلال، ويصل أبو اسعد إلى مبتغاه هذا من خلال الحوار بين الشخصيات حول مدى الفائدة المرجوة من استخدام المقاومة العنيفة.

أ) تحولات ما بعد 11 سبتمبر في الواقعية المفرطة والرأي العام الغربي
ذُكرنا سابقاً، كيف عبّر الفلسطينيون عن احتجاجهم بشكل أساسي، أثناء الانتفاضة الأولى، أو سلحوا أنفسهم بالحجارة، في حين أنهم تحولوا إلى استخدام العنف خلال الانتفاضة الثانية (Gross Stein 224). وبدأت منذ منتصف وأواخر التسعينيات، الجماعات الفلسطينية المتطرفة مثل حماس في استخدام التفجيرات الانتحارية ضد إسرائيل (Baxter and Akbarzadeh 145-6)، بعد فشل اتفاقيات أوسلو في تحقيق نتائج ملموسة وبعد مذبحة غولدشتاين في 1994 التي خلفت 29 قتيلاً فلسطينياً على الأقل. وقامت إسرائيل، رداً على ذلك، بتطوير وتشديد نظام الإغلاق من حواجز الطرق والأسوار والجدران في فلسطين، مما أدى إلى قيود اقتصادية شديدة على السكان الفلسطينيين، مما تسبب في صعوبة انتقال البضائع و الأشخاص عبر الحدود بسهولة (Bornstein). ومع تدهور الوضع الأمني الإسرائيلي والاقتصادي في فلسطين، كانت قمة كامب ديفيد في العام 2000 محاولة أخيرة لإنقاذ اتفاقيات أوسلو. غير أن هذه المحاولة فشلت ، واستمرت حالة التوتر والتصعيد داخل فلسطين في الاشتعال. بدأت الانتفاضة الثانية، أو انتفاضة الأقصى، في 28 أيلول\ سبتمبر 2000، عندما زار المسجد الأقصى في القدس، أرئيل شارون، المرشح آنذاك، الذي سرعان ما أصبح رئيساً للوزراء، والذي كان مكروهاً إلى حد كبير من قبل العديد من الفلسطينيين بسبب دوره في مذبحة صبرا وشاتيلا في العام 1982. قام الفلسطينيون, إثر دخول شارون للأقصى، بأعمال شغب، سرعان ما انتشرت في المنطقة بأسرها. نظر الغرب إلى الانتفاضة على أنها مجرد حرب أخرى، ولم تتداول وسائل الإعلام صور لمراهقين مسلحين بالحجارة في مواجهة الدبابات الإسرائيلية. لقد فشل الفلسطينيون في تغيير النظرة الواقعية المفرطة التي تنتجها وسائل الإعلام الغربية لصالحهم، وبدأت انتفاضة الأقصى تفقد أي دعم شعبي لها بعد مرور عام على ظهورها، لاسيما الدعم الذي كان من الممكن أن تحظى به في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان هجوم 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك أحد أسباب هذا الدعم. فضلاً عن إسراع شارون، الذي فاز في انتخابات الحكومة الإسرائيلية في وقت سابق من ذلك العام، إلى إقامة علاقة جيدة مع الرئيس بوش، بل وأسرع في الخلط بين هجوم نيويورك والتفجيرات الانتحارية في إسرائيل، وهو ما سمح له بالتعامل مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. من منظور أوسع في إطار "حرب بوش على الإرهاب" (Baxter and Akbarzadeh 150).

كانت الواقعية الغربية المفرطة مشبعة بصور وتقارير عن انتحاريين فلسطينيين تم ربطهم على الفور بانتحاريي الحادي عشر من سبتمبر، مما خلق تحولاً حاسماً في الرأي العام الغربي. علاوة على ذلك، فإن حماس، وهي جماعة تصنفها الولايات المتحدة على أنها منظمة إرهابية، تكتسب دعماً شعبياً لدى الفلسطينيين بسبب فشل فتح في تحقيق تقدم. كما تلقى عرفات سلسلة من الضربات التي أدت إلى سقوط مكانته في الغرب، مثل عثور الجيش الإسرائيلي على أوراق تشير إلى أنه وافق شخصياً على مدفوعات لعائلات الإرهابيين (Baxter and Akbarzadeh 150). أوجد هذا التأطير الجديد للصراع، أيضاً، حاجة سياسية للفلسطينيين للنأي بأنفسهم عن صور العنف، في حين أن ركود عملية السلام والظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة يثيران حاجة نفسية لتأمل ودراسة المعتقدات المجتمعية. فكان لايزال، خلال الانتفاضة الأولى، ثمة أمل وإمكانية للنجاح من خلال المقاومة. وبات هذا الأمل ضعيفاً بسبب المشاهد السياسية والاقتصادية المتغيرة في فلسطين وازدياد صعوبة الظروف المعيشية للفلسطينيين يومياً (Ajluni, “The Palestinian Economy and the Second Intifada.”) . أدت الوسائل العنيفة للانتفاضة الثانية إلى تفاقم الأوضاع السيئة للسكان دون أن تجلب لهم أي أمل في الحل، بل كان الأمر مجرد وعود بإطالة أمد النزاع، ويقدم أبو أسعد فيلماً مصمماً لجعل مشاهديه يشككون في بعض المعتقدات المجتمعية للفلسطينيين. على الرغم من أن الوجود الإسرائيلي في فلسطين لا يزال غير شرعي ولا تزال أهداف الفلسطينيين مبررة، إلا أن الفيلم يعمل بالفعل على كسر حلقة آليات الدفاع النفسي التي تديم العنف، من خلال التشكيك في صحة تصرفات بعض الفلسطينيين، وبالتحديد الانتحاريين، ووضع الفلسطينيين على أنهم ضحايا بالمطلق.

ليس مفاجئاً القول بأن إسرائيل لا تزال تصوَّر على أنها عدو غير مشروع وأن أهداف الفلسطينيين تقدم على أنها أهداف عادلة. فلدى الفلسطينيين الكثير من المظالم المشروعة بسبب سلوك إسرائيل في الماضي والحاضر، كما لديهم، أيضاً، الكثير مما يمكن أن يقولوه بخصوص حقهم في تقرير مصيرهم، وإقامة دولتهم المستقلة، وهي أهداف لها ما يبررها من معظم وجهات النظر. ويبدو أن الوسائل التي يستخدمها هاني أبو أسعد، وعلى عكس ما ورد في "نشيد الحجر"، تعزز هذه المعتقدات المجتمعية ليست من خلال إظهار العنف الداخلي، بل من خلال تصوير العنف المكاني والاقتصادي الذي يفرضه نظام الحصار الإسرائيلي على السكان الفلسطينيين.

يبدأ الفيلم مع "سهى"، التي تلعب دورها [الممثلة البلجيكية من أصول مغربية] لبنى عزبال، وهي تعبر نقطة تفتيش، وتضطر إلى السير حول حاجز إسرائيلي في نابلس. تم زيادة نقاط التفتيش والحواجز، رغم وجودها من قبل، في مناطق الأراضي المحتلة في الفترة التي أعقبت اتفاقات أوسلو. وجعلت إسرائيل، بذريعة الأمن، السفر من الأراضي المحتلة إليها، وبالعكس، أمراً صعباً لمعظم الفلسطينيين، وشبه مستحيل لبعض السكان (Arnon 587). تخضع حواجز الطرق ونقاط التفتيش هذه للإغلاق التعسفي بشكل روتيني، وغالباً ما يجابه الفلسطينيون برفض طلبات عبورهم أو يتعرضون للمضايقة دون سبب واضح (Bornstein). تسبب نظام الإغلاق هذا بخنق اقتصادي للضفة الغربية. نظراً لتأثيره المباشر على الحياة اليومية. غالباً ما تُستخدم حواجز الطرق في الأفلام التي تم إنتاجها خلال هذه الفترة الزمنية. وتركز أفلام مثل "عرس رنا" لهاني أبو أسعد و "يد إلهية" لإيليا سليمان، بالإضافة إلى أفلام أخرى، على الأحداث الرئيسية التي تدور حول حواجز الطرق والمساحات المغلقة، وذلك في محاولة لإعادة إنشاء مساحة متناغمة من المشهد الأكثر تشظياً في فلسطين الآن (Gertz and Khleifi Palestinian Cinema 134-70).

يزداد الأمر صعوبة في فلسطين في العثور على عمل، كما أنه من شبه المستحيل، قانونياً، الحصول على تصريح دخول إلى إسرائيل، حتى للعمل. نتيجة لذلك، تتزايد مستويات البطالة والفقر باستمرار(Roy, “The Palestinian-Israeli Conflict and Palestinian Socioeconomic Decline). يصور أبو أسعد هذه الظاهرة في عدد من المشاهد المختلفة. عندما علم سعيد، الذي يلعب دوره قيس ناشف، أنه سيذهب في مهمة انتحارية، أخبر والدته، التي تلعب دورها هيام عباس، أنه سيذهب إلى إسرائيل لإجراء مقابلة عمل. فتبدو عليها ملامح السرور والدهشة بآن معاً، فهي تعلم مدى صعوبة حصول شاب في عمر سعيد على تصريح عمل في إسرائيل. كما أنها تحرص على تذكير سعيد بإخبار رئيسه إلى أين يتجه لأنه، أي سعيد، كان محظوظاً بعثوره على عمل في فلسطين. ويذكر سعيد في حواره الأخير، أنه لم يسبق له أن غادر الضفة الغربية سوى مرة واحدة طوال حياته كلها، وكان ذلك لأنه بحاجة إلى عملية جراحية. لا يقيد نظام الإغلاق حركة البشر فحسب، بل يقيد أيضاً حركة وتوافر السلع الضرورية. وتنعكس صورة هذه القيود في الفيلم من خلال تكرار ذكر سعر فلاتر المياه. حيث تسيطر إسرائيل على معظم موارد المياه في الضفة الغربية، كما تتطلب المياه في العديد من المدن الفلسطينية إلى عملية فلترة. وطوال الفيلم، يتحدث الجميع عن فلاتر المياه الباهظة وأين يمكن لبحص عن الفلاتر الرخيصة، الجميع يذكر هذا تقريباً، من محطة الراديو إلى سائقي سيارات الأجرة، إلى سعيد وخالد، الذي يؤدي دوره علي سليمان. وهذا مجرد مثال من أمثلة عديدة على مظالم الاحتلال الإسرائيلي، وهدف طرح هذه المظالم هو نزع الشرعية عن الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية/ كما تعمل في ذات الوقت كأسباب لتبرير الهدف الفلسطيني المتمثل في إقامة دولة خالية من التدخل الإسرائيلي. وبهذه الطريقة، يستغني أبو أسعد عن المعتقد المجتمعي الأساسي بأن إسرائيل هي العدو وأن فلسطين غير مضطربة نسبياً. رغم أنه يواصل الطعن في اثنين من المعتقدات المجتمعية الأساسية الأخرى [ التي ذكرها روحانا وبار-تال].

ويتناول أبو اسعد هذا الموضوع مباشرة، وذلك خلال إحدى المقابلات معه، واتهامه بالترويج للعنف والإرهاب وتبريرهما، بعد عرض الفيلم، فيقول زاعماً: إذا كنت شاهدت الفيلم، فسوف يكون من الواضح، إلى حد ما، أنه لا يتغاضى عن إزهاق أرواح البشر […] ومن المستحيل عرض الثقل الكامل للوضع وتعقيده في الفيلم. لا يمكن لأي طرف أن يدعي موقفاً أخلاقياً، فليس من الأخلاق قتل البشر. الوضع برمته يقع خارج ما يمكن أن نسميه الأخلاق(7 Abu-Assad). وبينما يدعو أبو أسعد إلى التشكيك في "صحة" التصرف الفلسطيني، فإنه يقوم بذلك بطريقة متناقضة من خلال سهى وسعيد. وكما ذكرنا سابقاً، يمثل أبو أسعد، من خلال هاتين الشخصيتين، المقاربتين العامتين لمقاومة الاحتلال: العنف واللاعنف. وبدلاً من اتخاذ موقف واضح، يسمح أبو أسعد للشخصيات بالإشارة إلى المشاكل المتعلقة بكل من الأساليب العنيفة وغير العنيفة لحل النزاع. ربما يكون أفضل توضيح لهذه المقاربة، في المشهد أثناء محاولة سعيد العثور على أعضاء المجموعة الآخرين بعد فشل المحاولة الأولى في المهمة، يصلح سعيد سيارة سهى بسرعة، وتنكسر ساعته في هذه العملية. يسلم سهى الساعة التي تضعها على الغطاء، وعندما ينتهي سعيد من إصلاح السيارة يقوم، عن غير قصد، بضرب الغطاء فتتحطم الساعة، وعندها، تصر سهى على إصلاحها، وهي التي كان من المفترض أن تهتم بالساعة أثناء عمله ورغم قول سعيد بعدم أهمية ذلك، تصر سهى على إصلاحها فيذهبان إلى أحد المتاجر، وهناك تشعر، سهى، بالانزعاج من فيديوهات الشهيد والمتعاونين، فيغادران المحل دون أن يخبرا صاحب المحل بما يمكن فعله للساعة. يدفع سعيد هي خارج المحل ويركان الساعة هناك. تقول ندى يعقوب في مقالتها إن السيارات في فيلم "الجنة الآن" هي رموز المجتمع الفلسطيني المضطرب(Yaqub, 224-225). يساهم سهى وسعيد كلاهما، وهما رمزين للمقاومة اللاعنيفة والعنيفة على التوالي، في كسر الساعة، والتي يمكن تفسيرها على أنها رمز للوقت والتقدم، في حين ترمز محاولة إصلاح السيارة إلى المجتمع المضطرب. بينما تصر سهى على محاولة إصلاح الساعة بأخذها إلى ورشة تصليح، حيث يمكنهم العثور على خبير مفترض، يتشتت انتباهها، بعد وصولها إلى المحل، بسبب قلة الاحترام والسلوك الانتهازي لصاحب المحل، الذي يمكن القول إنه برمز إلى لولايات المتحدة، وبسبب من تشتت انتباهها تنسى سهى أمر الساعة، وسوف يدفعها سعيد خارج المحل دون أن يعملا على إصلاح الساعة. تمثل هذه القراءة انعكاس لعملية السلام، بشكل عام، وتشير إلى أن كلا من حركات المقاومة اللاعنيفة والعنيفة يقع عليهما اللوم في عدم أو انهيار إحراز أي تحسن في الأوضاع. فتلام حركات المقاومة العنيفة من خلال إعطائها لإسرائيل ذريعة لعدم الحضور إلى طاولة المفاوضات، أما حركات المقاومة اللاعنفية، فهي موضوع لوم، حسب البعض، لاستمرارها المشاركة في عملية [سلام] منحازة لإسرائيل فشلت في تحقيق نتائج. ويوضح باقي الفيلم هذه الأدوار.

ب) سجال المقاومة والمعتقدات المجتمعية
استخدم أبو اسعد، طوال الفيلم، الحركة القليلة للكاميرا والرمزية وحوار الشخصيات لإظهار الجمود واليأس في الحياة اليومية في فلسطين والانقسام في الشعب الفلسطيني والقيادة حول أفضل الطريقة لمواصلة الصراع أو الوصول إلى تسوية. وبدلاً من استخدام صور العنف، يتعامل أبو أسعد مع موضوع المقاومة العنيفة ككل ويتناول طرفي النقاش طوال الفيلم. وتمثل سهى، التي نشأت في الشتات، التقدم والحل السلمي للصراع، بينما يمثل سعيد العكس -الركود والعنف المديد. يتعارض أبو اسعد، من خلال هذه الشخصيات ونقاشها، مع اثنين من المعتقدات المجتمعية الأساسية التي تشكل جزءً من سردية المحاكاة الفلسطينية: دور الفلسطينيين كضحايا، وعدالة التصرفات الفلسطينية.

عادت سهى، دور المرأة الأساسي في الفيلم، إلى فلسطين بعد حياة أمضتها في الشتات. فقد ولدت في المغرب وتعلمت في فرنسا، لكن والدها أبو عزام شهيد فلسطيني شهير. خالد وسعيد يحترمانها بسبب تضحيات والدها، لكنهما لا يتفقان معها سياسياً، بشكل عام،. على الرغم من تقديمها للمُشاهد في بداية الأمر كمحل اهتمام محتمل لسعيد، إلا أن ظهورها الثاني والمحادثات اللاحقة مع سعيد تظهرها بعيدة كل البعد عن كونها مجرد وجه جميل. تجادل ندى يعقوب بأن الشخصيات الأنثوية في "الجنة الآن" تعمل كـ "حوامل للثقافة وداعمة للحياة" (Yaqub, 222) لكنه فعالية هذه الشخصيات تبدو هامشية (Yaqub, 222). وتتابع القول إن العلاقة الفاشلة بين سعيد وسهى هي "مظهر من مظاهر عقم المجتمع الذي يجب تنشأ فيه (ولكنها لا يمكنها أن تنشأ) عنه الثقافة والسياسة الفلسطينية" (Yaqub, 223). وبينما تقدم ندى يعقوب تحليلًا مقنعاً حول سبب كون أمهات الشخصيتين الذكوريتين -رمزين للثقافة، فإن تصنيفها لسهى كرمز للثقافة يمثل مشكلة أكثر صعوبة قليلاً. فسهى تعيش بمفردها، وتسافر بمفردها، ونشأت في أوروبا والمغرب - بعيداً عن الثقافة في فلسطين. يصعب وصف سهى بأنها حاملة للثقافة عندما تتصرف بشكل مختلف تماماً عن النساء الأخريات في الفيلم. ومع ذلك، فهي رمز باعتبارها داعمة للحياة لأن الحجة التي تجعلها شخصيتها، لفظاً ورمزاً، تؤيد الحفاظ على الحياة أثناء الصراع. وبهذا المعنى، ربما تكون علاقتها الفاشلة بسعيد رمزاً لفشل أنصار المقاومة العنيفة وأنصار المقاومة اللاعنفية في تقديم جبهة موحدة ضد الاحتلال.

المشهد الأول الذي يشير إليها وإلى مواقف سعيد المتعارضة هو المشهد الذي يحاول فيه سعيد، الذي علم بمهمته الانتحارية، وضع مفتاح سيارة سهى تحت بابها في منتصف الليل، لأنه يعلم أنه لن يعود إلى المحل في اليوم التالي. غير أن سهى كانت في تلك الاثناء مستيقظة ولم تنم بعد، فتفتح الباب أثناء محالة سعيد زلق المفتاح من أسفله، فتدعوه للدخول. ويناقشان بعض المواضيع قبل أن يشير إلى والدها وإلى المقاومة. لا تتفق سهى مع سياسة والدها في المقاومة العنيفة، وهذا ما يخالف موقف خالد وسعيد، وتجادل بأن على فلسطين أن تعترف بعدم امتلاكها قوة عسكرية، بالمقارنة مع إسرائيل، تستطيع بموجبها إيجاد وسائل أكثر سلمية لتسوية النزاع. تحدد هذه المحادثة القصيرة دور سهى وسعيد في بقية أجزاء الفيلم. تطرح سهى، ربما بسبب نشأتها في غرب إفريقيا وأوروبا، حجتها عن المقاومة السلمية والمفاوضات من وجهة نظر فلسطينيي الشتات، وبوصفها فرد من عائلة مقاتل ينتمي لصفوف المقاومة. وتختلف وجهة نظرها، التي لم تنشأ في فلسطين وتحت قهر الاحتلال، تمام الاختلاف عن وجهة نظر سعيد وخالد، وكلاهما يعاني بشكل يومي على يد الاحتلال، وفقدان الإيمان والأمل في المفاوضات السلمية، وينتميان إلى طبقة اجتماعية واقتصادية أقل. تدفع حججها سعيداً إلى التنازل، ولو لفترة وجيزة، عما إذا كان سوف يتابع خططه التفجيرية أم لا، بل إنه ذهب إلى حد سؤال جمال عن الجنة وسؤال خالد عما إذا كانوا يفعلان الشيء الصحيح أم لا. غير أن حججها لن تكون كافية، في نهاية المطاف، للتأثير على سعيد في مهمته. وتشرح سهى، لاحقاُ، حجة المقاومة اللاعنفية خلال محادثة مع خالد، بعد أن علمت ما يخطط الرجلان للقيام به. فتقول لخالد، "إذا كنت تستطيع أن تقتل وتموت من أجل المساواة، فيجب أن تكون قادراً على إيجاد طريقة لتكون متساوياً في الحياة"، وإذا ما استمرا في العنف "فلا فرق بين الضحية والمحتل". ثم تسأل خالد: وماذا عنا؟ نحن الذين سنبقى بعدكما. هل سننتصر بهذه الطريقة؟ ألا ترى أن ما سوف تقومان به سيدمرنا؟ وأنكما تمنحان إسرائيل ذريعة للاستمرار؟ […] علينا تحويلها إلى حرب أخلاقية "(Paradise Now). وعلى الرغم من أن خالد يجادلها، إلا أنه يستجيب، في النهاية، لكلماتها ويقرر عدم القيام بالمهمة الانتحارية. الفرق الرئيسي بين سهى والرجلين هو حفاظها على الأمل. هي لم تختبر شخصياً القيود الاقتصادية والمكانية اليومية المفروضة على خالد وسعيد، ونتيجة لذلك، ما زالت تنبض بفكرة المفاوضات السلمية الناجحة. وفي حين تبدو أنها قادرة على إقناع خالد بوجهة نظرها، إلا أن سعيد منهك في العملية للغاية، بسبب تاريخه الشخصي مع الإسرائيليين، ويشعر بالحاجة الشخصية لمواجهة أفعال والده المتعاونة [مع الاحتلال]. لا يمكن لكلماتها أن تلغي الماضي عند سعيد, وهو يشعر بالحاجة إلى تعويض عيوب والده من خلال الاستمرار في المقاومة التي قوضها والده بتعاونه مع الاحتلال. وعلى الرغم من حرص أبو أسعد على عدم المجادلة الصارخة لصالح طرف ضد آخر، إلا أن سهى، المرتبطة بالمقاومة اللاعنفية والمفاوضات السلمية، مرتبطة أيضاً بالحركة والأمل. إنها واحدة من الشخصيات القليلة التي تظهر بشكل روتيني وهي تتحرك داخل إطار الكاميرا. وعندما تتحرك الكاميرا تتحرك معها. وعندما تكون الشخصيات الأخرى من حولها، فإنهم يتحركون أكثر. ومن خلال ربطها بالحركة، يربط الفيلم سهى وموقفها السياسي بالتقدم. تبتسم وتطلق النكات. إنها، على عكس معظم الشخصيات الأخرى، مليئة بالحياة والأمل. ومع ذلك، في عدة حالات، كان تفاؤلها مقيّداً بالوقائع القاسية للاحتلال، وبينما كانت تبكي وتحدق في صورة سعيد أثناء سفره إلى إسرائيل لإكمال مهمته، يُترك للمشاهد أن يتساءل ما تأثير هذه الجرعة القاسية من حقائق الاحتلال ليها، ليأتي الجواب من عند خالد بأن هذا سوف يمنحها القليل من التفاؤل الساذج.

يستخدم أبو أسعد سعيداً في المقام الأول لتقديم الحجج لصالح المقاومة العنيفة للاحتلال الإسرائيلي. يجادل تيم كينيدي بعدم "قدرة الآباء على حماية أو حتى إعالة أطفالهم هو الذي أدى إلى تسييس جيل الشباب"، والذي يفسر، جزئياً على الأقل، وجود أعداد أكبر من الشباب في الأفلام الفلسطينية الحديثة (Kennedy, 45). يبدو أن هذا هو حال سعيد، فماضي عائلته يطارده ويهينه. تم إعدام والده كمتعاون عندما كان طفلاً، وكان على سعيد وعائلته تحمل وطأة الإذلال من أفعال والده. في المشهد الافتتاحي، يشير العميل الساخط إلى الحادث عندما قال لسعيد أن المصد [ ممتص الصدمات] "معوج مثل والدك". إنه تاريخ عائلي لا يمكن لسعيد الهروب منه مثل النكبة والنكسة، وهما تاريخان اجتماعيان منسوجان في الهوية الفلسطينية ولا يمكن الهروب منه بسهولة. وسوف يلتزم سعيد للمهمة الانتحارية أكثر من خالدـ بسبب هذا التاريخ الشخصي. وعندما تهدد حجج سهى بتغيير رأيه، تؤكد ذكرياته عن والده والإذلال الذي تعرض له نتيجة تصرفات والده قراره الأولي. والكلام الذي يقوله قبل إرساله لإتمام مهمته هو أقوى حجة له للمقاومة العنيفة، رغم أنها ليست سوى نتاج اليأس الذي أصابه بسبب الاحتلال. ويقول في حديثه هذا، إن الحياة في نابلس مثل السجن المؤبد وأن الإسرائيليين يستغلون ضعف الناس ويحولونهم إلى متعاونين، و "بفعلهم ذلك، لا يقتلون المقاومة فحسب، بل يدمّرون العائلات أيضاً، ويدمرون كرامتهم"، ويخربون شعباً بأكمله". يزعم سعيد أن على الإسرائيليين أن يفهموا أن "الحياة بلا كرامة لا قيمة لها. خاصة عندما يذكرك وجودهم، يوماً بعد يوم، بالإذلال والضعف". وعلى الرغم من أنه يعاني من عارٍ شخصي لا يشاركه فيه جميع الفلسطينيين، إلا أنه يشير إلى أن الحياة اليومية في فلسطين مليئة بالإهانة والإذلال الذي لا يمكن تحمله إلى الأبد دون عواقب وخيمة على السكان الفلسطينيين. وبينما تدعي سهى أن أعمال العنف والقتل الذي تمارسه المقاومة سوف تمزق الفلسطينيين، يؤكد سعيد أن الإذلال اليومي هو المسؤول الفعلي المسؤول عن تدمير حياتهم. ولاينفك سعيداً والأعضاء الآخرين في المجموعة عن تنظيم التفجير الانتحاري، عن القول، مراراً وتكراراً، إن الحياة في ظل الاحتلال تعادل الموت. وبالنسبة له، وهو الذي عاش في نابلس طوال حياته، فقد عانى من الإهانة بسبب أبيه المتعاون مع الاحتلال، وليس لديه أي احتمالات للارتقاء الاجتماعي أو المالي، فالحياة في ظل الاحتلال ثابتة ويائسة، ولهذا اختار أن يضع حداً لحياته على أمل، يائس، أن تستمر المقاومة على الأقل في محاربة الظلم، حتى لو كان لديهم أمل ضئيل في الفوز بحريتهم.

ارتبط سعيد طوال الفيلم بالسكون، على عكس سهى، فتظهر الكاميرة، عند تصويره، ثابتة تقريباً، ولا يتحرك سعيد كثيراً، أو يتحرك بسرعة في معظم اللقطات. ومع ذلك، هناك عدة مشاهد في الفيلم يقوم فيها أبو أسعد بتكبير الكاميرا ببطء على وجه سعيد: عندما يرقد سعيد في الفراش بعد اكتشاف أنه تم اختياره هو وخالد للمهمة الانتحارية، وهو يفكر في تفجير القنبلة. في محطة الحافلات في إسرائيل، أو عندما كان يمسح العرق من حول القنبلة الملصقة على بطنه، أو عندما كان يتحدث مع نفسه آخر مرة، وعندما يكون على وشك تفجير القنبلة في نهاية الفيلم. كل من هذه المشاهد تعتبر لحظات حاسمة على سعيد أن يتخذ فيها قراراته. يبدو ثابتاً تماماً أثناء تقريب الكاميرا نحو عينيه غير المطمشتين، مما يشير إلى أن قراراته هذه، ليست قرارات متهورة. إن ارتباط سعيد بالسكون والركود ليس مفاجئاً. فحياته، إلى جانب العديد من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي، تتدهور. ويمتد التشابك، مع ذلك، إلى موقفه السياسي أيضاً. فهو، أولاً وأخيراً، الانتحاري الذي ينجز مهمته. ونتيجة لذلك، يرتبط النهج العنيف للاحتلال أيضاً بالركود والخمول. وبينما يقوم سعيد في النهاية، بالعمل فإنه لا يفعل ذلك لإنهاء الاحتلال أو التقدم نحو حل. إنه ببساطة يتصرف على أمل استمرار المقاومة مدركاً تماماً أن موته لن يعني الكثير للنضال ككل. إنه بفجر نفسه من أجل التفجير دون أي أمل في التغيير أو التقدم.

يستخدم أبو اسعد، طوال الفيلم، سعيداً وأنصار المقاومة العنيفة الآخرين لانتقاد الأساليب السلمية لحل النزاع لفظياً ورمزياً. ويقدم الفيلم حجة مفادها أن العديد من الذين ينادون بالمقاومة السلمية لا يفهمون خطورة الوضع في فلسطين، وأن الحرية تتطلب نضالاً وتضحية، وأن هذا الظلم يجب محاربته لأن إسرائيل لن تنهِ الاحتلال ما لم تُجبر على ذلك.. عندما كان سعيد وسهى يتحدثان في السيارة بعد مغادرتهما ورشة تصليح الساعات، أخبرها أن والده كان متعاوناً مع الاحتلال، وأن العالم كله يعرف ذلك. وعندما تعتذر وتقول إنها لا تعرف، يرد عليها: "ماذا تعرفين؟ أنت أتيت من عالم مختلف. ابنة أبو عزام، تعيش في حي راقٍ". ويشير إلى أنها لم تتأثر نسبياً بالاحتلال لأنها لم تترعرع في ظله، ولأنها تنتمي إلى طبقة اقتصادية مختلفة، لذلك لن تشعر بقوة بالتأثيرات الاقتصادية للاحتلال مثلما تشعر بها الطبقات الدنيا. ولهذا فهو يرفض الخسارة التي عانت منها سهى: نشأتها بدون أب. يجادل خالد بأن العديد من المنظمات والأفراد الذين يدافعون عن المفاوضات السلمية ليس لديهم خبرة حقيقية في الحياة تحت الاحتلال وأن نهجهم يعتبر ساذجاً من قبل العديد من الذين يدافعون عن النضال العنيف. وكما قال خالد لاحقاً لسهى، "لا تكوني ساذجة. لا يمكن أن تكون هناك حرية بدون نضال". تتكرر هذه العبارة وهذا الموضوع مراراً وتكراراً طوال الفيلم وهو بمثابة اتهام لمن ينددون بالمقاومة العنيفة لعدم القيام بما يكفي لإنهاء الاحتلال. يقدم خالد وسعيد أيضاً حجة العنف القائلة بأن إسرائيل لن تنهي الاحتلال ما لم يتم إجبارهما على ذلك، وبالتالي، يجب محاربة ظلم الاحتلال. هناك العديد من المحللين السياسيين الذين يقترحون أن استمرار الاحتلال، على الرغم من كلفته، هو الخيار المفضل لإسرائيل التي ترغب في الاحتفاظ بسيطرتها على الأرض بين حدود 1967 ونهر الأردن دون منح الجنسية لسكانها الفلسطينيين، وهو عمل من شأنه أن يخلق غالبية عربية في الدولة اليهودية (Smith 250 and Shlaim 255) . الكثير من الفلسطينيين الذين يدافعون عن العنف، إنما يفعلون ذلك لأن عملية السلام لم تجلب، لهم، سوى المزيد والمزيد من البؤس، وعلى وجه الخصوصـ للسكان الذين يعيشون في الضفة الغربية وغزة (Arnon). التسوية مع الإسرائيليين، على حد تعبير سعيد، تعادل قبول مظالم الماضي. لا تؤدي الوسائل السلمية، بحسب سعيد، بما فيه الكفاية لمحاربة هذا الظلم أو لإنهاء الاحتلال. ويزعم الفصيل المناصر للعنف في المجتمع الفلسطيني، بحسب تفسير هذا الفيلم، أن الفصيل اللاعنفي للفلسطينيين ساذج، وغير قادر على إنهاء الاحتلال، ويهدد وجوده بقبول الظلم.

تنتقد سهى، من ناحية أخرى، وتستنكر الأساليب العنيفة لحل النزاع. ويرى أبو أسعد، من خلال سهى، أن أهداف الانتحاريين غير صحيحة، والعنف الذي يخلقونه يعطي إسرائيل ذريعة لمواصلة الاحتلال، واستخدام العنف يجعل الفلسطينيين ليس أقل سوءً من الإسرائيليين، والمقاومة العنيفة تلحق الضرر بالمجتمع الفلسطيني. وتزعم سهى ، في جدالها مع خالد، "إذا كان بإمكانك القتل والموت من أجل المساواة، يجب أن تكون قادراً على إيجاد طريقة للمساواة من خلال الحياة [وليس من خلال الموت فقط]". وتجادل، من خلال هذا الموقف، بأن مؤيدي المقاومة العنيفة، وخاصة الانتحاريين، لديهم هدف خاطئ. إذ لا ينبغي أن يكون الهدف النهائي للمقاومة هو إيجاد المساواة بغض النظر عن التكلفة، ولكن إيجاد طريقة للعيش على قاعدة المساواة بأقل عدد ممكن من الأرواح. كما تقول سهى في مناسبتين مختلفتين في الفيلم أن المقاومة العنيفة من جانب الفلسطينيين تعطي إسرائيل ذريعة لمواصلة الاحتلال والعنف ضد السكان الفلسطينيين. تأخذ هذه الحجة في الاعتبار أن العذر الأساسي لإسرائيل للاحتلال وجميع قراراتها العسكرية تقريباً هي أنها تصب في مصلحة أمن إسرائيل. فالجدار والحواجز ونقاط التفتيش والاحتلال ذاته كله يعمل من أجل "حماية" إسرائيل من التهديد المتصور عن العنف الفلسطيني (Smith 240). كما تشير سهى أيضاً إلى الطبيعة الدورية للعنف عندما تجادل بأنه "إذا قتلت، فلا فرق بين الضحية والمحتل". كما يسلط أبو أسعد الضوء على هذا التشابه بين التفجير الانتحاري والاحتلال في المكان الذي يفكر فيه سعيد بتفجير قنبلته في محطة للحافلات في إسرائيل بعد فشل الخطة. تقوم الكاميرا بمسح الأشخاص الآخرين الذين ينتظرون الحافلة وتركز على النساء والأطفال. هذا التضمين لصور الضحايا الأبرياء يجعل حتى سعيد يشكك في "صحة" أفعاله المخطط لها. وفي مشهد لاحق توجه سهى سؤلاها نحو خالد: "وماذا عنا؟ [...] ألا ترى أن كنت ستفعله هو تدمير لنا؟" ربما تكون هذه واحدة من أقوى نقاطها لأنها تثير التساؤل عن تأثير المقاومة العنيفة على المجتمع الفلسطيني ككل. كما يدعم أبو أسعد هذه النقطة بإدراج صور لسهى، ولوالدة سعيد، ولخالد المذهول عاطفياً قبل أن يتوجه إلى موقع سعيد، وهو جالس في الحافلة الإسرائيلية، محاطاً بالجنود والمدنيين في انتظار أن يفجر نفسه. تقوم سهى، وصور خالد لاحقاً، ببناء الحجة القائلة بأن المقاومة العنيفة تسبب الدمار داخل الأسر الفلسطينية والمجتمع ككل وأن هذا الضرر هو بنفس السوء، إن لم يكن أسوء، من الضرر الذي تسبب فيه الاحتلال نفسه. تشير هاتان الشخصيتان إلى مشاكل وأخطاء المجموعة المقابلة التي توضح أن الفلسطينيين، ككل، لم يعودوا قادرين على فعل أي خطأ فيما يتعلق بمقاومة الاحتلال. هذه ظاهرة عاشها أبو أسعد وطاقمه في نابلس أثناء التصوير. وهو يوضح ذلك باقول ، في إحدى المقابلات، كيف أنه كان علينا "إبلاغ هذه الفصائل الفلسطينية المسلحة من وراء ظهور الجيش الإسرائيلي بمكان وجودنا، دون أن يعلم الجيش الإسرائيلي أننا على اتصال بالفلسطينيين، لأن الدخول إلى نابلس والخروج منها كان صعباً بما فيه الكفاية. كان، علاوة على ذلك، التنافس بين الفصائل الفلسطينية يعني موافقة أحد الفصائل و الرفض التام من الفصيل الآخر (Abu-Assad 5).

تسببت الفصائل الفلسطينية المتنافسة في الكثير من المشاكل لأبو أسعد وطاقمه مثلها مثل مشاكل التي كان يتسبب فيها الجيش الإسرائيلي. في الواقع، بلغ الأمر بأحد الفصال أن قام بخطف أحد أفراد طاقمه مما أدى بالفريق إلى إنهاء التصوير في الاستوديو (استوديو أبو أسعد). وهذا مثال واقعي على الارتباك والفوضى الأخلاقية التي يصورها الفيلم. لم يعد يُعطى للفلسطينيين خيار اتخاذ خيارات صحيحة أو خاطئة بشكل قاطع فيما يتعلق بالنضال، بسبب الظروف القاسية للاحتلال والمقاومة، وبالتالي بات موضع تساؤل الاعتقاد المجتمعي الذي يرى أن الفلسطينيين لا يقومون بارتكاب أي خطأ . كما يتحدى أبو أسعد، أيضاً الاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم دائماً وفقط، ضحايا هذا الصراع. وكما ذكرنا سابقاً، يمتلك كل من الإسرائيليين والفلسطينيين هويات ثقافية تستند إلى تاريخ من التأذي، ويتولد هذا الإحساس بالتأذي بسبب السرديات الوطنية المحاكية الوطنية المتنافسة. وتعتبر "الهولوكوست" حدثاً تأسيسياً للهوية الإسرائيلية لأنها كانت مؤلمة للغاية وأدت إلى الهجرة الجماعية إلى فلسطين، في حين أن هذه الهجرة الجماعية لليهود الأوروبيين وما تلاها من طرد الفلسطينيين من معظم أراضيهم هو حدث تأسيسي للسكان الفلسطينيين. إن هذا الشعور بالتأذي هو الذي يخلق عدم الرغبة في الوصول إلى التسوية لدى كلا الطرفين -لأن كلاهما يشعر أنه، الضحية، وقد عانى بالفعل بما فيه الكفاية (Rouhana and Bar-Tal). في الفيلم، يذكر سعيد هذه الظاهرة بشكل صريح ويدعو للتشكيك في منطقها في حواره الأخير: "الأسوأ من ذلك، أقنع [الإسرائيليون] العالم وأنفسهم بأنهم الضحايا. كيف يمكن أن يستقيم هذا الأمر؟ كيف يكون للمحتل أن يكون هو الضحية؟ إذا قاموا بدور الجلاد والضحية، فلن يكون لدي خيار آخر سوى أن أكون ضحية وقاتل أيضاً(Paradise Now). يشير سعيد، في هذا الاقتباس، إلى فشل إسرائيل في الاعتراف بدورها في خلق الظروف التي تخلق الانتحاريين، لدرجة أنها تقضي الكثير من الوقت في الدفاع عن نفسها ضدهم، وتعترف بأن الفلسطينيين هم أيضاً ضحايا ومعتدون.

تنتج عقلية الضحية لكلا الطرفين سلوكاً دفاعياً وانتقامياً يثير سلوكاً دفاعياً وانتقامياً لدى الطرف الآخر. العنف ظاهرة دورية دائمة (Rouhana and Bar-Tal). لكن سعيد يدرك هذه الحلقة ولا يزال قادراً على الاستمرار في استدامة دوامة العنف لأنه لا يجد طريقة أخرى للتأثير على الاحتلال ولم يعد يتحمل ظلم الاحتلال. بينما يدعي روي براند أن المخرج من دور الضحية في فيلم "الجنة الآن": "ليس بمقاومة القمع الذي تتعرض له بل رضوخها، أي الضحية، الكامل لهذا القمع والاضطهاد. إن التماهي مع الضحية المحضة يؤدي إلى أعمال عنف محضة و "اكتمال إنجاز" الجنة "( Brand, 170)، لا أوافق على مثل هذا الطرح، ففي المونولوج المذكور سابقاً، يعترف سعيد بوضوح بدوره كضحية ومعتدٍ، لذلك فهو لا يرتبط بضحية ويقر بالظاهرة نفسها التي يناقشها روي براند في مقالته. يضم روي براند أيضاً خالد وسهى -اللذان يعيشان أيضاً في هذا العالم حيث "إن الفعل الوحيد المتبقي لتأكيد الذات هو اختيار موت المرء"( Brand, 170)- في مجموعة مع سعيد، ويعمل خالد وسهى بالفعل في الفيلم من أجل إبطال مثل هذه الادعاءات. يدعو فيلم "الجنة الآن" أيضاً، من خلال تعارضه مع هذين المعتقدين المجتمعيين الأساسيين، إلى التشكيك في سردية المحاكاة الفلسطينية التي تعتمد بشكل كبير على المعتقدات المجتمعية. ويرتبط هذا الرفض، لبعض المعتقدات المجتمعية، برفض الرأي العام الغربي، وخاصة الأمريكي، لهذه السردية، في حين يرتبط نقص العنف في الأفلام بعدم وجود حركة مقاومة منظمة في وقت التصوير.

انقلب الرأي الغربي على السردية الفلسطيني المحاكية نتيجة تشبع وسائل الإعلام الغربية بالصور التي تربط بين العمليات الانتحارية، من أي نوع، وبين المشاعر المعادية للولايات المتحدة والغرب والإرهاب.

ارتبط الفلسطينيون بالإرهاب بسبب استمرار استخدام التفجيرات الانتحارية من قبل الجماعات المتطرفة وتمكنت إسرائيل من كسب تعاطف الغرب.

رابعاً: "سجل اختفاء" و "يد إلهية" للمخرج إيليا سليمان
يتخذ إيليا سليمان في فيلمي "سجل اختفاء" و "يد إلهية" نهجاً أسلوبياً مختلفاً عن خليفي أو أبو أسعد. فتظهر أفلامه كأنها مجموعة من المشاهد التي تؤرخ بشكل أو بآخر للوقت الذي تمضيه الشخصية الرئيسية في الفيلمين (إيليا سليمان)، في القدس والناصرة والضفة الغربية، مع القليل من السرد، وتكون مهمة السرد الموجود، فعلاً، شرح وتبرير المشاهد الفنتازية المضمنة، وهي غالباً ما تكون عنيفة في فيلم "يد إلهية"، ونتيجة لذلك، فإن الخيوط السردية في هذا الفيلم أقوى من تلك الموجودة في "سجل اختفاء" الذي تظهر فيه خيوط السرد فضفاضة. ويتم تقديم العديد من المشاهد التي تنتج بدورها صورة ذهنية عن الحياة اليومية في فلسطين، لكن القصة الوحيدة التي ينقلها سليمان هي قصة تتمحور حول البطل (إيليا سليمان) وجهاز الاتصال اللاسلكي walkie-talkie والفتاة التي اسمها عدن، تلعب دورها عُلا طبري، التي تحاول العثور على سكن في القدس ثم تنتقم بطريقة فنتازية عبر جهاز الاتصال المسروق. يُستخدم هذا الشريط السردي لتحديد مواقع المشاهد الفنتازية وشرحها. كما يستخدم لتأكيد المعتقدات المجتمعية الأربعة لروحانا وبار- تال.

تم تصوير وإنتاج فيلم "سجل اختفاء"، في منتصف التسعينيات عندما كانت فكرة الفلسطينيين كضحايا لإسرائيل تتضاءل في الرأي العام الغربي، ويحتوي الفيلم على قدر ضئيل من العنف، ولأنه تم تصويره خلال سنوات السلام النسبي بعد اتفاقيات أوسلو، فهو يعزز بشكل ضعيف سردية المحاكاة الفلسطينية والمعتقدات المجتمعية الإيديولوجية. في حين يعمل العنف في فيلم "يد إلهية"(الذي أنتج خلال الانتفاضة الثانية عندما كان الفلسطينيون يعادلون معنى الإرهابيين بشكل عام) على تأكيد بعض المعتقدات المجتمعية الأساسية الأربعة ورفض بعضها الآخر، لكنه يقوم بذلك بطريقة مختلفة عما هو الحال في فيلم ميشيل خليفي، لأن العنف الذي يصوره سليمان في أفلامه يتضمن معنى الخصومة وروح الدعابة. وعندما سُئل، سليمان، عن أسباب استخدامه للعنف في " يد إلهية"، أوضح قائلاً: أنا أفهم الحقائق من حولي. [...] يمكنك القول أن "سجل اختفاء" يصور الهدوء الذي يسبق العاصفة [...] ولكن في هذا الفيلم الأخير [يد إلهية] انهارت الأمور. هناك انهيار كامل في التواصل، والاحتلال أكثر وضوحاً [...] إذا كان "سجل اختفاء" هو الصمت الذي يسبق العاصفة، فإن " يد إلهية" هو بواكير أوليّة للانفجار البركاني، مرحلة ما قبل قذف الحمم البركانية، رغم أنه يمكنك أن ترى الشرر وجميع علامات التحذير التي تدفعك لأن تخلي المكان فوراً"(Suleiman,64-65). ورغم أن فيلم "يد إلهية" يحتوي على مشاهد تتضمن المزيد من العنف البصري/ فإن كلا فيلمه، على عكس "نشيد الحجر" و"الجنة الآن"، من نوع الكوميديا السوداء، والعنف الذي يصوره في "يد إلهية" غريب للغاية لدرجة أنه يعارض أو يستبعد- بدل أن يؤكد-، في الواقع، وجهة النظر القائلة بأن الفلسطينيين يمكن أن يشكلوا أي تهديد حقيقي لأمن إسرائيل، ويستخدم سليمان العنف في هذا الفيلم، ووجود، أو عدم وجود، خيوط سردية لتأكيد المعتقدات بأن الفلسطينيين هم الضحايا، وأن إسرائيل غير شرعية، وأن أهداف حركة المقاومة هي أهداف عادلة ولكنه يرفض القول بأن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يخطئوا.

أ) سجل اختفاء
بدا أن توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993، أو إعلان المبادئ، سوف يمثل علامة فارقة جديدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حيث اجتمع كلا الحزبين الحاكمين، حزب العمل الإسرائيلي وحركة فتح التابعة لـ م ت ف، للتوقيع على خطة مرحلية للسلام. ومع ذلك، رفض المتطرفون الدينيون اليمينيون على جانبي النزاع الاتفاقات واستغلوا الفرصة لتنفيذ هجمات إرهابية عنيفة (Baxter and Akbarzadeh 145-6). بدأت هذه الهجمات وتدعيمها يؤثر سلباً على صورة الفلسطينيين في الغرب بدلاً من العمل على تبديل هذه النظرة. كما لم تساعد حقيقة دعم م ت ف للعراق ، في تلك الفترة، في حرب الخليج الأولى على تلميع السمعة الدولية الفلسطينية في الغرب، كما بدأت، في ذات الفترة تقريباً، حركة الجهاد الإسلامي وحماس وجماعات أخرى في شن هجمات انتحارية متواترة ومتصاعدة ضد الإسرائيليين، مما أعطى إسرائيل ذريعة لتطوير وتشديد نظام الحصار. وبينما كان هناك بعض المتطرفين اليهود يمارسون تكتيكات إرهابية مماثلة، كان العنف الرئيسي الذي مارسته إسرائيل ضد الفلسطينيين يتمثل في العنف الاقتصادي (Ajluni)، وهو ما يتطلب عدة تفسيرات. وعلى عكس التفجيرات الانتحارية الفلسطينية، لا يمكن تلخيص وتوضيح نظام الحصار الإسرائيلي والتأثيرات المدمرة على الاقتصاد الفلسطيني بسهولة من خلال الصور واللقطات الصوتية. نتيجة لذلك، بدأ الرأي العام في الغرب بالابتعاد عن تعريف الفلسطينيين بوصفهم ضحايا. يتزامن هذا الحياد، أو السلبية الطفيفة، في الرأي العام الغربي مع الافتقار إلى العنف البصري وضعف الدعم للمعتقدات المجتمعية الأساسية الأربعة لروحانا وبار- تال في "سجل اختفاء". وعلى عكس "نشيد الحجر" لميشيل خليفي، الذي يدعم أيضاً المعتقدات الأربعة، فإن فيلم إيليا سليمان يدعمها، لكن بطرق أقل قوة ووضوحاً عن فيلم خليفي. يتم تقديم النصف الأول من "سجل اختفاء"، "مذكرات القدس الشخصية" على شكل يوميات فيديو شخصية لإيليا سليمان، للشخصية الرئيسية. والجهاز الوحيد الذي يشير إلى مرور الوقت هو مقطع عرضي لشاشة كمبيوتر مكتوب عليها "اليوم التالي" باللغة العربية. ولا يحتوي هذا الجزء من الفيلم على خيط سردي يتجاوز الإشارة العرضية من شاشة الكمبيوتر اتي تشير إلى مرور الوقت والأيام. ومعظم المشاهد، التي يتضمنها سليمان، يمكن أن تحدث في أي وقت من اليوم وفي أي يوم من أيام الأسبوع، وبدلاً من العمل لإنتاج سلسلة متماسكة من الأحداث، تعمل الصور على إنتاج صورة متماسكة أكبر للحياة اليومية في فلسطين. إن مشاهد، مثل مشهد والده في العمل، ووالدته وهي تزور صديقة لها مع الأقارب، ومتجر الأرض المقدسة، وكذلك مشهد الصيادون، كلها مشاهد من صميم النشاط اليومي ولا يوجد ما هو فنتازي فيها وهي لا تتلاءم معاً بطريقة ما لتنتج أي شيء يمكن أن يطلق عليه تقليدياً خط الحبكة. الشخصية الرئيسية (إيليا سليمان)، شخصية صامتة أيضاً في كلا الفيلمين. وتزعم رشا سلطي أن مفهوم "شاهد العيان" كان يمثّل قوة دافعة للفنون الفلسطينية منذ الستينيات (Salti, 51). وتقارن إيليا سليمان بحنظلة [ناجي] العلي، الشخصية الكرتونية التي تظهر على هيئة طفل بملابس ممزقة، ويدير ظهره ،دائماً، للقارئ، وهو بالتالي بمثابة "شاهد" على أحداث مروعة، لكنعه، في المقابل، لا يعلق عليها قط، هدفه الوحيد أن يكون شاهداً على الأحداث. وتجادل رشا سلطي بأن البطل إيليا سليمان نسخة من حنظلة للكبار لكنه أكثر تعقيداً [من حنظلة] حيث تجبر المشاهد على أن يشهد ويتحدث عما يراه، لأنه، إيليا سليمان البطل، لا يستطيع فعل ذلك (Salti, 51-52). لا يتضمن النصف الأول من الفيلم عنفاً حقيقياً، على الرغم من اقتراب المشاهد أمام المقهى، وهي مشاهد تتكرر مع مختلف المركبات والركاب، تتضمن وقوف سيارة أمام المقهى وخروج الركاب من السيارة وهم يتجادلون ويتشاجرون. ورغم صراخهم ودفعهم لبعضهم البعض يخضع هؤلاء الركاب " رجلين في الواقع" للهجوم من قبل زبائن المقهى، فيعودوا إلى السيارة وتواصل السيارة مسيرها. يتم دائماً تجنب أي عنف حقيقي أو إراقة دماء، ولا تتطلب المشاجرات الصغيرة أي تفسير من السرد.

النصف الثاني من الفيلم، "يوميات القدس السياسية" هو قصة أخرى، بالمعنى الحرفي،. فلا يزال يتم تصوير الفلسطينيين في هذا النصف من الفيلم، كضحايا للسياسة الإسرائيلية. ولأن الفيلم يدور في القدس، التي لا تعتبرها إسرائيل أرضاً محتلة، فإن أكثر حالات التأذي البادية تظهر في شكل تمييز ضد العرب الباحثين عن سكن في القدس. يذهب إيليا سليمان، في بداية هذا الجزء، إلى وكيل عقارات لمحاولة العثور على شقة، حيث سمع أن الوكيل يرفض مساعدة امرأة شابة، "عدن"، ويشجعها إما على البقاء مع عائلتها أو الزواج إذا أرادت العثور على سكن لائق. يرفض الوكيل العقاري حتى تكلف عناء محاولة مساعدتها في العثور على سكن. ويتبع هذا مشهد للفتاة وهي تجري مكالمات هاتفية مع أصحاب العقارات المحتملين في محاولة للعثور على مكان للعيش فيه في القدس الغربية. تبدأ كل مكالمة هاتفية بافتراض من أصحاب البيوت بأنها يهودية، نظراً لعدم امتلاكها لهجة عربية واضحة أو حتى انعدامها، ويحاولن مساعدتها إلى حين يدركون أنها عربية فيرفضون تأجيرها المكان. وهكذا حُرمت مراراً من السكن لمجرد أنها عربية. في حين أن حالة التمييز هذه ليست صورة قوية للفلسطينين - كضحية مثل صور معاناة الفلسطينيين في فيلم خليفي، إلا أن عدن لا تزال ضحية لظروف خارجة عن إرادتها. نتيجة لذلك، تعزز الصورة الاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم الضحايا الحقيقيون في هذا الصراع. حقيقة أن الفلسطينيين لا يزالون يُصوَّرون على أنهم ضحايا في "سجل اختفاء" يعمل على تأكيد المعتقدات المجتمعية الثلاثة الأخرى التي ذكرها روحانا وبار- تال: أن إسرائيل غير شرعية، وأن أهداف الفلسطينيين عادلة، وأن الفلسطينيين لا يمكنهم فعل الخطأ. تعمل العنصرية المؤسساتية في سوق الإسكان على نزع الشرعية عن إسرائيل، التي تدعي أنها ديمقراطية تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة. في حين أن كل أمة تقصر إلى حد ما عن مثل هذه المثل السامية، فإن هذه الممارسات التمييزية متأصلة في المجتمع الإسرائيلي لدرجة أن الوكيل العقاري، الذي يُفترض أنه مصدر موثوق للمعلومات في مجاله، يرفض حتى عناء البحث عن سكن للفتاة "عدن"، وهو يدرك عدم جدوى مثل هذا البحث عن امرأة عربية واحدة في القدس ولن يضيع وقته. إن قبول مثل هذا التمييز كحقيقة مستعصية، من قبل متخصص في مجال الإسكان، يسلط الضوء على درجة تقصير إسرائيل في تحقيق المثل الأعلى حتى داخل حدودها، ناهيك عن الأراضي التي تحتلها. نتيجة لذلك، يتم تصوير إسرائيل على أنها غير شرعية إلى حد ما. ومع ذلك فإن تصوير هذا الاعتقاد المجتمعي، من جديد، ليس بذات قوة الصور التي ينتجها خليفي باستخدام العنف البصري.

يبدو أن هدف "عدن"، في العثور على شقة، هو هدف بريء وغير ضار ولا يتطلب سوى القليل من التبرير. تبحث الشابة ببساطة عن مكان تعيش فيه، وهو أمر شائع إلى حد ما في معظم أنحاء العالم. ومع ذلك، يصبح الحدث مشحوناً سياسياً في إسرائيل والضفة الغربية حيث أصبح من يقيم على أي أرض عقبة هائلة أمام السلام. يعثر إيليا سليمان، في النصف الثاني من الفيلم، على المكان الذي تعيش فيه عدن، وهو عبارة عن غرفة ملابس صغيرة في المسرح حيث تعمل وحيث يستقر جهاز اللاسلكي في النهاية، على الرغم من أنه من غير الواضح كيف حصلت عليه. ليس ثمة دوافع سياسية لدى "عدن" للانتقال إلى الجانب الغربي من المدينة، لكن السياسة العنصرية [الإسرائيلية] في قطاع السكن تحبط محاولات "عدن" في سعيها للعثور على منزل يأويها، فتبدوا أهدافها مبررة بسبب ذلك، بينما يتم نزع الشرعية عن سياسة العقارات الإسرائيلية.

يستمر السرد في المشهد الفنتازي حيث تأمر الفتاة الشرطة الإسرائيلية حول المدينة، ويبدو هذا المشهد غامض بعض الشيء حيث يبدأ تقريباً عندما تستحوذ الشابة على جهاز اللاسلكي walkie-talkie. لا يوضح سليمان من هو الفنتازي بالضبط. يمكن أن تكون الشخصية الرئيسية (إيليا سليمان) هي الشخصية الفنتازية بدلاً من المرأة (عدن)، لأن المُشاهد لم يره يعطيها جهاز الاتصال اللاسلكي قط. من ناحية أخرى، تذهب المرأة للنوم وتستيقظ من جديد قبل أن تبدأ تمثيلية جهاز اللاسلكي، لذلك يمكن أن يكون الأمر مجرد حلمها وخيالها. هذا الغموض ما هو إلا مؤشر على أهمية الفنتازيا، وليس من يتخيل. ومع ذلك، فإن الخيال له معنى فقط فيما يتعلق بالسرد الفلسطيني وصراع المرأة في العثور على سكن. بدون هذين العنصرين الأساسيين، سيبدو المشهد الخيالي على أنه مجرد مزحة صبيانية. إنها تتصرف بسبب إحباطها لعدم معاملتها بإنصاف من خلال بدء الخدعة، لكنها تسيّس الفعل أيضاً، فها هي تدلي بملاحظات عبر الجهاز مثل "أوسلو لن تأتي" و "أوسلو لا تتصل حتى" مما يشير إلى خيبة أملها من اتفاقات أوسلو وعدم قدرة عملية السلام على تحقيق نتائج. يرفع هذا التسييس من سويّة الخدعة إلى مستوى عمل مقاوم ضد إسرائيل، وكذلك ضد الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية. الذين شاركوا جميعاً في اتفاقيات أوسلو والتي لم ينتج عنها سوى استمرار الاحتلال وتدهور الظروف المعيشية أيضاً. يشير حاييم بريشيث إلى أن عدن تستمد قوتها من تجاوز الخطوط الحدودية -من خلال رفع صوت وموقف المحتل. وبينما يختفي إيليا سليمان في الصمت، فإنه يجد القوة في الاستيلاء على اللهجة الإسرائيلية والنشيد الوطني (Bresheeth 76, 80) وعليه أن يتبنى بعض أساليب العدو من أجل القيام بعمل (81-82 Bresheeth). وعلى الرغم من أنه عمل مقاوم غير عنيف في المقام الأول، إلا أن لايزال، مثل هذه الفنتازيا، يحمل تبريراً يقدمه سليمان قبل المشهد الخيالي من خلال نضال الشابة للعثور على سكن. لا يؤيد الفيلم الاعتقاد المجتمعي الأخير بأن الفلسطينيين لا يخطئون، غير أنه لا يتعارض معه أيضاً. الشخصيات الفلسطينية لا ترتكب أي جرائم ضد بعضها البعض أو ضد إسرائيل في "سجل اختفاء". فكل ما تسببه المرأة، حتى في المشاهد الفنتازية، مجرد بعض الارتباك فقط - فلا أحد يتأذى ولا تحدث أية أضرار دائمة. وبالتالي، يدعم الفيلم، عموماً، القناعة الإيديولوجية، ولو فقط عن طريق عدم التعارض معها بأي شكل من الأشكال.

ب) يد إلهية
بينما يتجنب "سجل اختفاء" استخدام لقطات عنيفة بصرياً، يستخدم "يد إلهية"، الذي تم إنتاجه في العام 2002، العنف في لقطات الفيلم المختلفة. تم إنتاج "يد إلهية" خلال بعض أعنف سنوات الانتفاضة الثانية. وكما ذكرنا سابقاً، كان لهجمات 11 سبتمبر في نيويورك تأثير عميق على صور وسائل الإعلام والرأي العام الدولي لكل من وسائل الإعلام الأمريكية والدولية. فأي تفجير انتحاري، بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يعتبر عملاً إرهابياً شنيعاً، دون الحاجة إلى تقديم التفسيرات أو قبولها. ونظراً لأن الجماعات الفلسطينية استخدمت التفجيرات الانتحارية بشكل متكرر ضد إسرائيل قبل وأثناء الانتفاضة الثانية، فقد بات يُنظر إليهم كأعداء في الولايات المتحدة -"الحرب على الإرهاب"، دون عناء طرح أي نوع من الأسئلة أو التشكيك. ورغم أن الرأي الدولي الأوسع لم يكن بهذه القسوة، غير أن الصورة العامة لفلسطين قد تعرضت للتشويه، والتصقت صفة الإرهاب العنيف بالفلسطينيين . وتمكنت إسرائيل، بسبب هذا التحول في الرأي العام الغربي، من تبرير تشديد نظام الإغلاق والحصار في الضفة الغربية بذريعة الأمن القومي والحرب على الإرهاب (Baxter and Akbarzadeh 150). كما تمكنت إسرائيل، على عكس فلسطين، من خلق جو من التعاطف مع الولايات المتحدة، وبدرجة أقل مع أوروبا. وهذا ما سمح لوسائل الإعلام بخلق واقع مفرط يتعاطف مع مفهوم إسرائيل كضحية للإرهابيين الفلسطينيين. يتزامن هذا الرفض لمفهوم الفلسطينيين كضحية، ورفض سردية المحاكاة الفلسطينية، مع رفض فيلم "يد إلهية" لأحد المعتقدات المجتمعية الأساسية لروحانا وبار- تال التي ترى بأن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يخطئوا.

يحتوي "يد إلهية"، الذي يتضمن المزيد من المشاهد الخيالية والمزيد من العنف، على خيوط سردية أقوى من تلك التي يظهرها النصف الثاني من "تاريخ الاختفاء". فثمة في "يد إلهية" نوعان من الخيوط السردية السائدة التي تتضمن إيليا سليمان: مرض والده وموته وعلاقته بالمرأة. ويتم تصوير مرض والده على أنه نتيجة لاستيلاء الحكومة الإسرائيلية على متجره وممتلكاته. ويخصص إيليا سليمان، المخرج/ النصف ساعة الأولى من الفيلم لمتابعة الأنشطة الدنيوية لوالد إيليا سليمان وتدقيق أعماله وسيارته وممتلكاته الأخرى واستعادتها، وبعد ذلك يعاني من نوبة قلبية أو سكتة دماغية. وهي أمراض يمكن أن تتفاقم بسبب الإجهاد. يتكون الجزء المتبقي من هذا الخط الروائي من زيارات إيليا سليمان لوالده في المستشفى، ووفاة والده، والمشهد الأخير من الفيلم حيث يظهر جالساً مع والدته، يشاهد قدر الضغط البخاري. المحور السرد الآخر المهيمن يتعلق بعلاقة إيليا سليمان مع امرأة شابة، تؤدي دورها منال خضر، والتي التقى بها عند حاجز الرام بين رام الله والقدس. لا تستطيع الشابة عبور الحدود لزيارة إيليا سليمان في القدس، لذلك يجتمعان على جانب الحاجز قرب رام الله ويقضيان بعض الوقت معاً. يبتكر إيليا سليمان في نهاية المطاف خطة لتسللها عبر الحدود، ولكن بمجرد وصولها إلى منزله، تشعر بالاشمئزاز من جاره، المتعاون مع الشرطة الإسرائيلية، فتغادر المكان ليواصل إيليا سليمان، بعد ذلك، الذهاب إلى الحاجز، لكنها لم تعد تقابله هناك.

في حين أن هناك الكثير مما يمكن له أن يحدث في فيلم "يد إلهية"، إلا أن هذين الخطين السرديين، المتشابكين مع صور أخرى وروايات مصغرة، يوفران الأساس لمشاهد الخيال العنيفة الثلاثة: الدبابة المتفجرة، والبرج المنهار، وميدان الرماية. هذه المشاهد الثلاثة مسيّسة للغاية ولكنها تعتمد على السرد لإضفاء الطابع الشخصي وتبرير العنف وتأكيد أو رفض المعتقدات المجتمعية. ويصادف أن يكون أول مشهد من هذه المشاهد هو أول مشهد يظهر فيه إيليا سليمان، وهو يتبع مباشرة المشهد الذي أصيب فيه والده بنوبة قلبية أو سكتة دماغية، ويفتتح المشهد مع لقطة لإيليا سليمان وهو يقود سيارته يقود إلى المستشفى لزيارة والده. يجلس في السيارة ويأكل ما يبدو أنه ثمرة برقوق، وعندما ينتهي من الأكل يلق نواة ثمرة البرقوق من النافذة حيث تصيب دبابة ويندلع انفجار هائل بسبب ذلك. يظهر هذا المشهد في حوالي ثلث مسار الفيلم، وبعد أن أثبت ظلم الحكومة الإسرائيلية في الناصرة، حيث يعيش والده. رغم عدم وجود دماء أو أجزاء متناثرة من الأجساد البشرية، فإن الانفجار بحد ذاته هو عمل مقاوم عنيف. ومع ذلك، فإن هذا الخيال العنيف له ما يبرره في الفيلم إذا علمنا احتمال وجود إيليا سليمان، في طريقه لزيارة والده الذي يحتضر بعد تعرضه للاضطهاد من قبل المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين. يعمل المشهد، أيضاً، على التأكيد على عدم شرعية اسرائيل. ومن الواضح أن هذا المشهد لا يُقصد به أن يكون واقعياً، مع الأخذ في الاعتبار أن نواة ثمرة البرقوق لا تملك أي قوة تفجيرية من تلقاء ذاتها. ويمكن تفسير النواة، والتي تسمى حجراً أيضاً، على أنها رمز لفلسطين نظراً لأن شجر البرقوق يزرع بكثرة في المنطقة، كما يعتبر الحجر رمزاً راسخاً لفلسطين في الأدب والشعر (Parmenter) . ويمكن رؤية صورة نواة البرقوق، التي تسببت في تدمير دبابة إسرائيلية شديدة التحصين، وقذف إيليا سليمان لها، كرمز للمقاتل الفلسطيني من أجل حريته (Salti, 48-49) كما يمكن أن يُنظر لها، سطحياً، على أنها رمز لفلسطين وهي تدمر إسرائيل. ومع ذلك، فإن عبثية الصورة والاستحالة المادية لرد فعل كهذا بين دبابة ونواة برقوق تدفع المشاهد إلى افتراض أن سليمان يسخر من فكرة أن فلسطين، يمكنها بالقوة العسكرية لنواة البرقوق، أن تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، التي تمتلك القوة العسكرية مثل الدبابات المدرعة. إن المبالغة في التفاعل بين الدبابة ونواة البرقوق، تشكك في شرعية مزاعم إسرائيل الأمنية ضد فلسطين. إذا كانت حاجة إسرائيل إلى حماية نفسها من الفلسطينيين خاطئة، فإن وجود إسرائيل على الحدود وفي الضفة الغربية غير شرعي بذات الدرجة من الخطأ على حد سواء.

يحدث العمل العنيف الفنتازي الثاني بعد زيارة إيليا سليمان والده في المستشفى لأول مرة وينقل تركيز الفيلم إلى حاجز الرام وعلاقة إيليا بالمرأة التي هي امرأة عربية تعيش في الضفة الغربية، وباعتبارها كذلك، فهي لا تستطيع المرور بحرية إلى القدس، حيث يعيش إيليا. ولعل هذا المشهد يشكل جزء من حلم إيليا في التغلب على عقبة الحاجز. وفي هذا المشهد، تخرج المرأة من سيارتها وتمشي بجرأة عبر الحاجز دونما إبطاء، على الرغم من أن أوامر جنود الاحتلال لها بالتوقف وهم يشهرون أسلحتهم إليها. ينهار برج المراقبة أثناء عبورها الحاجز المغلق. تشير آنا بول إلى أن قوة بطلة سليمان لا تنبع من قدرتها على التكاثر أو من رمزيتها "للأرض المغتصبة والمنهوبة"، وهي مصادر القوة التقليدية للمرأة في الأفلام والأدب الفلسطيني، ولكن تأتي قوتها من "استعادتها الحازمة للأراضي" (Ball, 20)، لكنها لا تزال موضوع التخيلات الذكورية الحالمة الوطنية (Ball, 24). يظهر هذا المشهد الخيالي في الفيلم قبل أن يدرك المشاهد هوية المرأة وأهمية الحاجز. وتتطور، في المشاهد التالية، قصة العاشقين عند الحاجز، ويستطيع المشاهد أن يفهم سبب رغبة إيليا في تدميره ومروره عبره. ويبدو المشهد اعتباطياً إلى حد ما، بدون هذه الرواية المضافة، على الرغم من أنه لا يشير إلى أي شيء أقل من ذلك. يشير غيرتس وخليفي إلى أن أفلام الحواجز Roadblock ، مثل فيلم "يد إلهية"، تسعى جاهدة للتغلب على التجزئة والتفكك، من أجل "سرقة الحدود" ("Roadblock" 325) ومن خلال هذا المشهد الخيالي تستطيع البطلة أن تفعل ذلك تماماً.. من خلال هذا المشهد ورواية العشاق، يوضح الفيلم أن أهداف الفلسطينيين للسيطرة على حدودهم والتنقل بحرية داخل أراضيهم هي أهداف عادلة. تصبح نقطة التفتيش هي العائق الأساسي لوجود علاقة طبيعية مع صديقته، وهو هدف معقول في أي جزء من العالم.

ولكن أعنف لقطة خيالية في الفيلم تأتي بعد مغادرة المرأة لإيليا وبعد أن أمضى أمسيتين في انتظارها عند الحاجز. ويرتبط المشهد أيضاً بإعلان على لوحة طرقية يتابعه إيليا أثناء قيادته للسيارة، ويتحدث الإعلان عن حقل رماية مع عبارة تقول "تعال واطلق النار، إن كنت مستعداً" ويظهر وجه مقاتل فلسطيني يرتدي كوفية، وتدور أحداث مخيلة إيليا في ميدان الرماية هذا ويفتتح المشهد مع عدة رجال إسرائيليين يطلقون النار على أهداف عليا رسوم لفلسطينيين. ويظهر الرجال وهم يطلقون النار على جميع الأهداف باستثناء هدف واحد، وبينما يصوبون على الهدف المتبقي، يخرج مقاتل فلسطيني من خلفه.

وبعد بعض الإثارة والاستفزاز، يشرع الرجال في إطلاق النار على المقاتل الفلسطيني، الذي يواصل، بدوره، القضاء عليهم، بالإضافة إلى طائرة مروحية، باستخدام الحجارة والقنابل اليدوية ونجوم النينجا ودرع على شكل فلسطين. وقرب نهاية المعركة، تنفتح الكوفية لتكشف أن المقاتل من أجل الحرية هذا ليس سوى المرأة حبيبة إيليا. وبعد أن تنتهي من قتل الرجال، تلتفت نحو الهدف المتبقي وتخطو خلفه لتنسحب من المشهد. ربما يكون هذا المشهد الخيالي هو الأكثر عنفاً والأكثر اعتماداً على الحبكة السردية لأهميتها. فبينما تحتوي المشاهد الخيالية الأخرى على أعمال عنيفة أو تخريبية، يتضمن هذا المشهد مقاتلاً من أجل الحرية يقتل إسرائيليين. لن يكون لهذا المشهد أي معنى مع باقي أجزاء الفيلم، بدون السياق السردي. يدرك المشاهد أن إيليا قد رأى لافتة ميدان الرماية وأغضبه. يدرك المشاهد أيضاً من خلال هذه النقطة، أن إيليا يرى صديقته في تخيلاته كرمز للمقاومة، وبالتالي فإن وجودها يمكن تفسيره ولا يكن اعتباره مفاجئاً بطريقة ما. تمنح الرموز السياسية المختلفة التي يشملها هذا المشهد أهمية سياسية خارج نطاق القصة، ولكن لا يمكن تبرير العنف والموقع إلا من خلال الخيط السردي. حقيقة أن الجنود الإسرائيليين يطلقون النار على المقاتل الفلسطيني ببرود ويستخدمون صور الفلسطينيين كهدف لتدريباتهم، تؤكد أيضاً على الاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم ضحايا للعدوان الإسرائيلي غير المبرر.

بينما يؤكد فيلم سليمان على المعتقدات المجتمعية التي ترى بأن إسرائيل غير شرعية، والفلسطينيون هم الضحايا، وأهداف الفلسطينيين عادلة، فإنه يبدي شكوكاً يقاوم في الاعتقاد بأن الفلسطينيين لا يمكن أن يرتكبوا أي خطأ، وبذلك يسلط الضوء على التوتر الذي ينشأ بين السكان الفلسطينيين.

تظهر العديد من المقاطع طوال الفيلم أن الفلسطينيين يفقدون أعصابهم بسبب الأشياء الصغيرة. فيقوم رجل بتمزيق لوحة ترخيص سيارة لأن صاحبها رفض تحريكها، وآخر يمزق كرة قدم لأن صبياً ركلها على سطح بيته، ويظهر المشهد الافتتاحي والد إيليا يستخدم كل أنواع البذاءات في وصف جيرانه وهو يقود سيارته إلى العمل.

تشير هذه الحالات، بالإضافة إلى المشهد الأخير من الفيلم، الذي يشاهد فيه إيليا ووالدته طنجرة البخار إلى وجود توتر عنيف يشتمل على سلوك الفلسطينيين ويتجلى من خلال عدم الاحترام، بل حتى استخدام بعض العنق تجاه جيرانهم الفلسطينيين. يجادل غيرتز وخليفي إل تحول الحياة اليومية في فيلم "يد إلهية"، "إلى روتين ثابت مليء بالكراهية والغضب والاحتكاك" ("Roadblock" 323) ويوضح سليمان أن الإحباط الذي يظهر في الفيلم هو نتيجة الركود والشلل الناجم عن كونك عربي تعيش في إسرائيل وما يتبعه من يأس (Suleiman 70) . في حين أن كل من المشاهد التي سبق ذكرها تحتوي على أفعال فردية، فإن تجاور المشاهد وتكرارها يوضح مدى انتشار هذه التوترات، وهذا الانتشار هو الذي يربط السلوك بالنزاع ككل. وهذه الحوادث ليست منعزلة بصورة خاصة، بعكس أحداث فيلم "نشيد الحجر"ـ بل هي نتيجة القيود المكانية والاقتصادية للاحتلال واليأس من العيش كعربي في إسرائيل. لكن هذا التوتر في فيلم سليمان، خلافا للعنف في فيلم أبو اسعد، ليس موجهاً الى اسرائيل. فقط المشاهد الخيالية تتضمن عنفاً موجهاً لإسرائيل. هذا الاعتراف بأن الفلسطينيين ليسوا دائماً لطيفين مع بعضهم البعض ولا يتفقون دائماً، هو خطوة صغيرة نحو القفزة الإيديولوجية التي يقوم بها فيلم "الجنة الآن" من خلال إظهار أن القتال الداخلي الفلسطيني لعب دوراً في ركود أي تحسن في الوضع، وأن الفلسطينيين يمكنهم أيضاً أن يكونوا المعتدين في الصراع.

على الرغم من أن أسلوب فيلم إيليا سليمان واضح في كل من "سجل اختفاء" و "يد إلهية"، بسبب المشاهد الخيالية العنيفة والموقف الإيديولوجي الأكثر دقة في "يد إلهية"، كان ينبغي أن تتضمن أفلام سليمان روايات أقوى. وتعتبر الخيوط السردية ضرورية لدمج المشاهد الخيالية في كلا الفيلمين ولإعطاء المشاهد الخيالية أهمية شخصية وسياسية. كما أن الخيوط السردية ضرورية، خاصة في فيلم "يد إلهية"، من أجل تبرير وتفسير عنف المشاهد الخيالية، والتي تبدو المشاهد بدونها اعتباطية وفي غير محلها. يرتبط حجم العنف في "يد إلهية" بوجود حركة مقاومة منظمة في فلسطين، بينما يرتبط التحول الإيديولوجي في الفيلم بالصورة السلبية للفلسطينيين من خلال الواقعية الفائقة التي تنتجها وسائل الإعلام ومن رفض الغرب لمفهوم الفلسطينيين بوصفهم ضحايا.

يظهر هذان الفيلمان، إلى جانب أفلام خليفي وأبو أسعد، علاقة شيقة بين الرأي العام الغربي والإيديولوجيا في الأفلام، وكذلك بين وجود العنف في الأفلام ووجود حركات مقاومة منظمة على الأرض.

خامساً: الخاتمة
وافق الرأي العام الغربي، في أي وقت من الأوقات، على الرواية الفلسطينية، عموماً، ونظر إلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا للاحتلال الإسرائيلي، أو رفض مثل هذه السردية واعتبر الفلسطينيين هم المعتدون في الصراع. ويبدو أن هذا عمليات القبول أو الرفض لوجهة نظر الفلسطينيين كضحايا، ،بناءً على تحليلي هذا، ذات علاقة قوية بكيفية عرض صانعي الأفلام الفلسطينيين ومعاملتهم للمعتقدات الفلسطينية الأساسية الأربعة التي تزعم دراسة روحانا وبار- تال أنها ضرورية في إطالة أمد الفيلم. والتي تدعم سردية المحاكاة الفلسطينية التي قبلت على مدى 17 عاماً، من عمر هذه الأفلام الأربعة، من قبل وسائل الإعلام، ونتيجة لذلك، قبل الرأي العام الغربي بها ، ولكن تم رفضها تدريجياً على مر السنين.

وعندما بدأ الرأي العام الغربي يرفض هذه السردية، بدأت المعتقدات الأساسية التي تدعم السرد تكون موضع تساؤل في هذه الأفلام الأربعة.
فضّل الرأي العام الغربي السردية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى، عندما كانت الواقعية الفائقة في الغرب مشبعة بصور الفلسطينيين الذين يعانون على أيدي الجنود الإسرائيليين. أكد فيلم خليفي، الذي تم إنتاجه خلال هذه الفترة الزمنية، بقوة جميع المعتقدات المجتمعية الأربعة التي تعزز هذه السردية من خلال استخدام العنف التصويري في فيلمه. ومع أوائل التسعينيات، أشبع الإعلام من خلال الواقعية المفرطة بالصور والقصص التي أشارت إلى أن اتفاقيات أوسلو قد حلت أخيراً الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما خلق جواً من الحياد النسبي فيما يتعلق بتأذي الفلسطينيين. ويؤكد فيلم إيليا سليمان "سجل اختفاء"، التي تم تصويره خلال أوائل التسعينيات، بشكل ضعيف المعتقدات المجتمعية والسردية الفلسطينية المحاكية. أما ف فيلمه اللاحق، "تدخل إلهي"، يؤكد فقط على ثلاثة من المعتقدات المجتمعية الأربعة، علماً أن الفيلم تم تصويره بعد هجوم 11 سبتمبر، وتأثر الراي العامي الغربي بذلك من خلال رفضه نشاط أي مجموعة من الأشخاص تستخدم التفجيرات الانتحارية باستمرار. لقد تم الخلط بين الفلسطينيين ككل وبين الجماعات المتطرفة التي استخدمت أساليب إرهابية أضرت بسمعتهم الدولية. أما فيلم أبو أسعد فقد ظهر في زمن الانقسام الفلسطيني، ومع اكتساب المقاومة العنيفة الدعم الشعبي داخل المنطقة، وكان عرفات، الذي كان منذ فترة طويلة وجه السلطة الفلسطينية، يعاني من الإذلال السياسي. يتعارض، في الواقع، فيلم "الجنة الآن"، الذي تم تصويره خلال هذا الوقت المضطرب، مع نصف المعتقدات المجتمعية التي تدعم السردية الفلسطينية.

وثمة اتجاه تطوري آخر يظهر، خلال تحليلي هنا، وهو يعبر عن ارتباط ظاهري بين وجود العنف البصري في الأفلام ووجود حركة مقاومة منظمة في الضفة الغربية. ففي "نشيد الحجر"، الذي تم تصويره خلال الانتفاضة الأولى، وفي "يد إلهية"، الذي تم تصويره خلال الانتفاضة الثانية، هناك كميات أكبر من المشاهد البصرية العنيفة. بينما يحتوي كل من "سجل اختفاء" و"الجنة الآن"، اللذان تم تصويرهما بعد انتهاء الانتفاضات أو انهيارها، على القليل من العنف البصري نسبياً. لا يمكن رفض هذا الاتجاه بسهولة باعتباره مسألة تتعلق بأسلوب الفيلم الشخصي للمخرج، لأن كلا الفيلمين "سجل اختفاء" و "يد إلهية" كانا من عمل مخرج واحد هو إيليا سليمان. ويبدو الارتباط القائم على هذا التحليل جديراً بالملاحظة ويستدعي مزيداً من التدقيق فيما يتعلق برغبة المخرجين متعددي الجنسيات في جذب الجماهير الغربية والشرقية، على الرغم من صعوبة رسم روابط سببية بين الرأي العام الغربي وبين قبول أو رفض المعتقدات المجتمعية الفلسطينية في الفيلم الفلسطيني أو بين وجود العنف البصري في الأفلام ووجود مقاومة منظمة على الأرض، بالنظر إلى الطبيعة العابرة للحدود الوطنية للفيلم الفلسطيني. في الأفلام والمخرجين.

غير أن هذا التحليل تعتريه بعض المشاكل التي تجعل من استخلاص استنتاجات نهائية أمراً صعباً. فأولاً، وربما الأكثر وضوحاً، هذه الأفلام الأربعة هي عينة صغيرة من الأفلام الفلسطينية، وكان استخدامي لها بسبب توفرها أكثر من كونها عينة تمثيلية للأفلام الفلسطينية ككل. إن تأكيد ألكسندر على أن الأفلام الفلسطينية التي تم إنتاجها خلال الانتفاضة الأولى تميل إلى أن تكون أقل عنفاً (“Is There a Palestinian Cinema?” 156) تثير التساؤل حول مدى تمثيل "نشيد الحجر" كأول فيلم يعبر عن أحداث الانتفاضة الأولى. وعند محاولة تحديد موقع الأفلام التي تم إنتاجها خلال الانتفاضة الأولى، كان فيلم "نشيد الحجر" الفيلم الوحيد التي تمكنت من الوصول إليها من اجل استكمال هذه الدراسة لهذه الورقة، ونتيجة لذلك، قد لا يكون تمثيلاً مفيداً لأفلام أخرى تم إنتاجها في ذلك الوقت. تستشهد ألكسندر بفيلم رشيد مشهراوي، "حظر التجول"، عام 1993، كمثال جيد لأفلام الانتفاضة الأولى (Is There a Palestinian Cinema?)، لكنني لم أتمكن من الحصول على نسخة من الفيلم مع ترجمة باللغة الإنجليزية، ولم تكن لغتي العربية كافية بعد كي أشاهده بدون ترجمة. كما تستبعد هذه الدراسة أيضاً عدداً من المنتجين الفلسطينيين البارزين وغزيري الإنتاج، أبرزهم رشيد مشهراوي وعلي نصّار، وكلاهما ناقشهما غيرتز وخليفي باستفاضة في كتابهما كمخرجين مهمين. نتيجةً لذلك، تعد هذه الدراسة أولية ويجب فحص الاتجاهات التي اقترحتها في مجموعة أوسع من الأفلام. كان لاستخدام المعتقدات المجتمعية لروحانا وبار- تال كإطار لهذا التحليل أيضاً صفاته الإيجابية والسلبية، وقد منحتني دراستهم، كإطار لتحليلي، صورة عن معتقدات مجتمعية محددة ذات أهمية نفسية لفحصها، ولذلك فإن حصر نفسي في تلك المعتقدات المجتمعية الأربعة قد يكون مفرطاً في التبسيط. فأسباب استمرار الصراع تتجاوز هذه المعتقدات المجتمعية الأربعة. وعلى الرغم من صعوبة استخلاص استنتاجات نهائية دون مزيد من البحث والنظر في الأفلام الأخرى، والعلاقة المحتملة بين الفيلم والرأي العام الغربي والواقعية الفائقة للصراع الذي خلقته وسائل الإعلام يمكن أن تكون مهمة، فيما لو كان صحيحاً كل من تأكيدات غيرتز وخليفي أن السكان الفلسطينيين يستخدمون الفيلم تقليدياً كوسيلة لتأسيس هوية وطنية أكثر واقعية، وكذلك حجة تلمساني بأن "السينما الفلسطينية تشكل موقعاً للتفاوض وتداول القيم والسلوكيات التي تساهم في تأكيد الهويات الثقافية والوطنية الفلسطينية "(70 Telmissany). يُحرم الفلسطينيون من حق التعريف، ليس فقط تمثيلهم الإعلامي، (Alexander “Palestinian Films” 325) ولكن أيضاً قصتهم بشكل عام. يجادل بريشيث بأن "التجريد من الملكية الذي أحدثه الاحتلال هو أعمق وأكثر إيلاماً من مجرد خسارة الوطن والبلد". الخسارة النهائية هي فقدان قصتك وهويتك وفقدان الحق في سرد قصتك وتاريخك الخاص"(79 Bresheeth). عند مناقشة فيلم "حكاية الجواهر الثلاث"، يجادل ميشيل خليفي بأن تكوين الهوية للأطفال يتطلب كلاً من الواقع والخيال لبناء هوية موحدة كاملة (Khleifi and Alexander 31). يمكن تقديم حجة مماثلة عند مناقشة دور الفيلم في تشكيل الهوية الفلسطينية. لأن الحق في تعريف أنفسهم، ورواية قصتهم، قد حُرموا منه لفترة طويلة، ومن هنا يأتي دور الفيلم في "ملء الفراغات"، إذا جاز التعبير، والمساعدة في إنشاء هوية موحدة هو ، في الواقع ، مهمة على درجة عالية من الأهمية. ومع ذلك، نظراً للطبيعة العابرة للحدود الوطنية للإنتاج السينمائي الفلسطيني الحديث، من المهم أيضاً فهم الاهتمامات والتأثيرات المختلفة التي تؤثر على هذه الأفلام المهمة. إذا كان تفسير الإعلام للصراع يؤثر على الرأي العام الغربي وإذا أثر الرأي العام الغربي على الإيديولوجية المقدمة في الأفلام الفلسطينية وإذا تم استخدام هذه الإيديولوجية، كما يدعي غيرتز وخليفي، لتأسيس هوية وطنية فلسطينية متماسكة، فإن الفيلم الفلسطيني في بعض المستويات، يتم إزالته، بأبعاده كافة، من واقع الصراع وأي هوية وطنية ناتجة عن الأفلام يتم إزالتها بأضعاف هذا. ومع ذلك، هناك العديد من "الشروط" في هذه المقولة/ كما أن تشكل الهوية تعد عملية معقدة ومركبة بحد ذاتها.

العنوان الأصلي:Palestinian Film: Hyperreality, Narrative, and Ideology
المؤلف: Sarah Frances Hudson
الناشر: University of Arkansas - 2011
.....
مراجع البحث


• Abu-Assad, Hany. “Q&A with Director Hany Abu-Asad.” Interview. 2005.
• Ajluni, Salem. “The Palestinian Economy and the Second Intifada.” Journal of Palestine Studies. 32.3 (2003): 64-73.
• Alexander, Livia. “Palestinians in Film: Representing and Being Represented in the Cinematic Struggle for National Identity.” Visual Anthropology. 10(1998): 319-333.
• ---. “Is There a Palestinian Cinema? The National and Transnational in Palestinian Film Production.” Palestine, Israel, and the Politics of Popular Culture. ed. Rebecca L. Stein and Ted Swedenburg. Durham: Duke University Press, 2005. 150-172.
• Arnon, Arie. “Israeli Policy Towards the Occupied Palestinian Territories: The Economic Dimension, 1967-2007.” Middle East Journal. 61.4(2007): 573-59.
• Ball, Anna. “Between a Postcolonial Nation and Fantasies of the Feminine: The Contested Visions of Palestinian Cinema.” Camera Obscura. 23.3(2008): 1-33.
• Baudrillard, Jean. Simulacra and Simulation. Trans. Sheila Faria Glaser. Ann Arbor: University of Michigan Press, 1995.
• Bornstein, Avram. Crossing the Green Line Between the West Bank and Israel. Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2002.
• Brand, Roy. “Identification with Victimhood in Recent Cinema.” Culture, Theory &Critique. 49.2(2008): 165-181.
• Bresheeth, Haim. “A Symphony of Absence: Borders and Liminality in Elia Suleiman’s Chronicle of a Disappearance.” Framework. 43.3 (2002): 71-84.
• Canticle of the Stones. Dir. Michel Khleifi. Arab Film Distribution, 1990. VHS.
• Chronicle of a Disappearance. Dir. Elia Suleiman. International Film Circuit, 1996. VHS.
• Divine Intervention. Dir. Elia Suleiman. Avatar Films, 2002. DVD.
• Fawcett, Louise. International Relations of the Middle East. New York: Oxford, 2009.
• Gana, Nouri. “Reel Violence: Paradise Now and the Collapse of the Spectacle.” Comparative Studies of South Asia, Africa, and the Middle East. 28.1(2008): 20-37.
• Gertz, Nurith and George Khleifi. Palestinian Cinema: Landscape, Trauma and Memory. Bloomington: Indiana University Press, 2005.
• --. “A Chronicle of Palestinian Cinema.” Film in the Middle East and North Africa: Creative Dissidence. Ed. Joseph Gugler. Austin: University of Texas Press, 2011. 187-197.
• ---. “Palestinian „Roadblock‟ Movies.” Geopolitics. 10(2005): 316-334.
• Gross Stein. “War and Security in the Middle East.” Fawcett 208-227.
• Kennedy, Tim. “Wedding in Galilee (Urs al-jalil).” Film Quarterly. 59.4 (2006): 40-46.
• Khleifi, Michel and Livia Alexander. “On the Right to Dream, Love and be Free: An Interview with Michel Khleifi.” Middle East Report. 201 (1996): 31-33.
• Mearsheimer, John and Stephen Walt. “The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy.” Middle East Policy 13.3 (2006): 29-87.
• Paradise Now. Dir. Hany Abu-Assad. Warner Independent Pictures, 2005. DVD.
• Parmenter, Barbara. Giving Voice to Stones: Place and Identity in Palestinian Literature. Austin: University of Texas Press, 1994.
• Rouhana, Nadim and Daniel Bar-Tal. “Psychological Dynamics of Intractable Ethnonational Conflicts.” American Psychologist 53.7 (1998): 761-770.
• Roy, Sara. “The Palestinian-Israeli Conflict and Palestinian Socioeconomic Decline: A Place Denied.” International Journal of Politics, Culture, and Society. 17.3(2004): 365-403.
• Said, Edward. Orientalism. New York: Vintage, 1979.
• Salti, Rasha. “From Resistance and Bearing Witness to the Power of the Fantastical.” Third Text. 24.1(2010): 39-52.
• Shlaim, Avi. “The Rise and Fall of the Oslo Peace Process.” Fawcett 254-271.
• Smith, Charles. “The Arab-Israeli Conflict.” Fawcett 231-253.
• Suleiman, Elia. “The Occupation and Life Through and Absurdist Lens: An Interview with Elia Suleiman.” Journal of Palestinian Studies. 33.2(2003): 63-73.
• Telmissany, May. “Displacement and Memory Visual Narratives of al-Shatat in Michel Khleifi's Films.” Comparative Studies of South Asia, Africa, and the Middle East. 30.1 (2010): 69-84.
• Yaqub, Nadia. “Paradise Now: Narrating a Failed Politics.” Film in the Middle East and North Africa: Creative Dissidence. Ed. Joseph Gugler. Austin: University of Texas Press, 2011.219-227.
 


   

 

لطفاً إشترك في الصفحات التالية   




 

قراات نقدية في العدد 63