سلسلة عاشق من زمن اليسار
الطفل العاشق


هشام موكادور
المغرب


 

مجلة الكاتب كنت صغيرا، طفل يتدحرج في الحياة، أحلامه ضئيلة بحجم هيكله الصغير. وعقله نير بأفكار أحلام اليقظة، وقائع لأناس يراها في الواقع والمسلسلات والأفلام المصرية، فيجد لها حيزا يشبع بها رغباته المجهضة تحت غطاء الفراش، كم مرة كانت أمي تؤنبني "ما مزياش تغطي راسك" لكنها لم تكن تعرف، أي صور جميلة كنت أنسجها تحت الغطاء. ولم تكن تدرك أنني كي أتمكن من أحلامي جيدا، يجب وضعها بين كماشة الخيال فأروضها كما أريد. أصنع منها ما أحب أن أكون عليه، فكان الغطاء المكور تحت الرأس، هو الحاجز الحقيقي الذي يعزلني عن الواقع، حتى لا يتسلل إلي فيكدر صفو الصور والأصوات والأحداث المنسوجة تحته.

كان ل "خديجة.م "، وهي طفلة تدرس معي في نفس القسم، وإبنة لرجل أمن تقطن بحي راق يدعى "حي الحسني"، حيز كبير في أحلامي. بل كانت كل الاحداث ترسم لأجلها. طريقي من بيتي الى المدرسة قصير، لكنني كنت أطيله باستدارة كبيرة حتى أمر من أمام بيتها، فأراها تخرج معية طفلة أخرى تقطن بجوارها، فأمشي خلفها أتبعها من بعيد، لم تؤت لي الفرصة لخجلي بالحديث إليها، فقط كانت رؤيتها في القسم أو من بعيد تكفي لأصنع لها بطولة أخرى في أحلام اليقظة. عندما كانت تتكلم مع طفل آخر، أشعر بحيف في حقي، وقد أنعتها بالخائنة، وأصر ألا أكلمها منذ اليوم، مع أنني لم أتحدث إليها مطلقا بشكل مسهب، سوى تلك العبارات القصيرة حول أقلام الحبر والدفاتر.

كان طفلا ضئيل الحجم " بركوش حاتم" يلاصق ظلها أينما ذهبت، يشتري لها "جبان" و "حمص كامون" يرافقها إلى بيتها ثم يعرج الى طريق بيته. ذات يوم وبعد دوام المدرسة رأيته يجالسها بجوار بيتها، عندما مررت بجوارهما، قال شيئا لم أسمعه جيدا، لم يكن يعنيني، لكنني عدت إليه وصرخت فيه "تتسبني.." قال: "والله ما هضرت عليك" صفعته بكفي، ثم ركلته على بطنه، وسقط أرضا، سمعت خديجة تصرخ "ماما.. ماما"، تركتهما وأطلقت سقاي للريح. عدت الى البيت وجلا مما قد يحدث غدا، لم أنم تلك الليلة، لم تزرني أحلامي الجميلة، كانت هواجس السجن تخيم عليّ، والندم يمسكني من خناقي. كيف ولا وأبوها رجل أمن، رغم أنني اعتديت على حاتم وليس عليها. في الغد لم أذهب الى المدرسة، لعبت دور الطفل المتمارض، عندما عدت في اليوم الموالي، لم أقف في طابور المطعم المدرسي لتناول الفطور، كنت أجلس بعيدا أرقبها من بعيد، وأرقب حاتم الذي كان معيتها.

لم يكن معها رجل الأمن. فتنفست الصعداء. اطمأن قلبي الصغير. وحرمت من وجبة الصباح. ولجت الى القسم وهي ترمقني بنظرات غاضبة وخائفة، أما حاتم فقد تكور على نفسه ومنح ذاته المتوجسة مسافة بعيدة عني. لم تكن تعلم قاتلتي أن الغيرة هي من دفعتني لفعل ذلك. ذلك الحب الطفولي البريء الذي كنت أرسمه وأشكله كل ليلة في منامي هو المذنب وليس أنا. وأن أكياس البلاستيك التي تعبر عن احتياجي وعوزي، وسروالي المرقع من الركبتين، وشعري الذي طال حتى حجب الأذنين، والمطعم المدرسي، الفاصل بين طبقتين اجتماعيتين؛ من يقفون فيه بطابور طويل من أجل بضع ثمرات وخبز وحساء هي الطبقة المسحوقة، ومن يتجاوزونه مباشرة الى قاعة الدرس هي تلك الطبقة اللعينة المسيجة بسياج سميك بيني وخديجة. ورغم ذلك كتبت لها رسالة قصيرة، ورميتها على دفترها، رسالة بخط رديء وكلمات بسيطة وقد تكون فيها أخطاء إملائية، فماذا فعلت معذبتي؟ سحقت براءتي، حطمت كبريائي، مزقت هذا الطفل الصغير ابن القاع الاجتماعي، عندما دخل معلم الفرنسية، منحته له "شوف اشنو كتب ليا".

امسك المعلم الورقة قرأها بصوت عال، قهقه الفصل، ثم نادى علي "أجي الحرايمي" لم أنهض من مكاني، تقدم نحوي وجذبني من شعر ناضري نحو الصبورة، ثم أحضر عصا خشبية "أرى يديك"، منحته يدي. ضربني على راحتي عدة ضربات، كنت أصرخ، وأتلوى كغصن طري على نفسه، بعد كل ضربة كنت أفرك يدي بمؤخرتي وأمنحها له، كان الدمع مشرفا على الأهداب، كنت محتاجا للبكاء، وكان كبرياء الموقف يمنعني. ثم عدت الى مقعدي.. وباشرت الدرس وأنا في عالم آخر.. عالم الانتقام منها.. وكيف سأنتقم من أبنة رجل أمن.. لكنني انتقمت منها شر انتقام عندما عدت الى البيت ووضعت رأسي تحت الغطاء، وأطلقت لأحلام اليقظة فعل ما تريد لعلها تطفئ لهيب الروح..روحي... انتقمت من حاتم، انتقمت من المعلم، انتقمت من خديجة.. انتقمت من الذين ضحكوا على موقفي.. ولم أستطع الانتقام من انتمائي الطبقي عنما تبزغ الشمس في الصباح فيرفع عني الغطاء.