النزق الجائر
 

 

"يظهر معدن الإنسان الحقيقي عند الغضب"
علم النفس

"إذا كان الجهاد الأعظم هو جهاد النفس
فإن العدو الأكبر هو الغضب"

فيجاي إسواران

كثيراً ما نسمع من المحيطين بنا عبارات تبرِّر انفعالات الأشخاص النزقين، وربما ردَّد بعضهم في أكثر من مكانٍ ومناسبة جملة: أن من يغضب بسرعة يكون محقاً، أو أن من كان سريعاً في إبداء التشنج والعصبية يكون على صواب، علماً أن علم النفس يشير إلى ما هو مخالف تماماً لهذا التصورالذي تم تعميمه وتسويقه لكي تبرَّر تصرفات مَن كانوا أسرع من الطلقات في كشف ما يستبطنونه.

ويبدو أن فريقاً من القراء أو المستمعين استساغ كلام الشاعر السوري الراحل نزار قباني "إني لا أؤمنُ في حب، لا يحملُ نزقَ الثوار، لا يكسرُ كلَّ الأسوارِ، لا يضربُ مثلَ الإعصارِ" الواردة في قصيدة (إختاري) لذا أحبوا تعميم معناه واستخدامه في مساحات لا تتناسب ربما لا مع مقصد القصيدة ولا مع الرسائل التي أراد إبلاغها الشاعر من خلال تلك الكلمات التي تحث المرأة على الجرأة في اتخاذ القرار.

كما أن كلمة النزق التي التصقت بكلمة الثوار من قِبل الشاعر قد تكون مستهجنة باعتبار أن معظم مرادفات النزق قاموسياً هي سلبية بالجملة كالطيش، الغلواء، الهوج، الحمق، الرعونة، السفه، الخفة، الجهل، العجالة، الخرق والحمق و..الخ، إلاَّ أنه من خلال ربطها بالثائر حمّلها بقيمة معنوية عالية، ونزع عنها كل الإيحاءات السلبية، بما أن صورة الثائر ما تزال لها ذلك الوقع الجميل في نفوس أغلب الفتية في مجتمعاتنا، ولكن هذا لا يعني بأن المتصف بالطائش والمعروف عنه ككائن نزق مقبول من قبل العامة، بالعكس تماماً فالشخص النزق قليلاً ما يكون مرحباً به سواء في محيطه الضيق أو من قبل البعيدين عنه، هذا إن لم يكن ممقوتاً من قبل معظم معارفه على ما يصدر عنه من ردات الفعل اللامحمودة.

عموماً إذا كانت سرعة الفوران وانفجار الإنسان بوجه أخيه الإنسان لأتفه سبب عمل مبرر له، ومستساغ من قبلهم، لكي يشرعنوا إندلاقاتهم السلوكية من قيعانهم بسبب وبلا سبب، فلماذا نلوم الطغاة على القرارات الدموية نتيجة غضبهم،وحيث أن الطاغية عندما يغضب يدمر، يقتل، يفتك بالناس، يحرق الأخضر واليابس،كما أن المجرم كثير الغضب والسارق يغضب وقد يضرب من يقوم بسرقته أو ربما قام بقتله أيضاً لأنه كشف أمره، والاستغلالي يغضب كذلك الأمر لأنه لم ينل مراده فيما كان يرسم ويخطط له مع ضحيته،إذن فهل كل هؤلاء محقون فقط لأنهم يعلنون عن غضبهم تجاه مسألة ما؟ أم أن كل واحد منهم يعبّر عما يكنه كفرد، وعما يفكر به، وعما يتضارب مع مصلحته الشخصية أو العائلية أو الحزبية أو العشائرية أو الدينية أو القومية، وأن غضبه بالأصل لا علاقة له البتة بقيم الحق والعدل والإنصاف، فهو لم يغضب لأنه ظُلم إنما عبّر عن مكنونه بطريقة نزقة لأنه شعر بأن ثمة مَن يزاحمه في الموقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو العسكري، انفجر لأنه شعر بأنه ما كان معمراً في مخياله غدا قاب قوسين من التلاشي.

كما أنناواقعياً إذا ما اقتربنا من ذلك الغضوب وقرأنا أسباب الإمتعاض لديه على الأغلب سيظهر بخلاف تصور العامة حول صوابية المستنفر لأيّ سبب، باعتبار أن هناك من يغضب منك لأردأ الأسباب التي تخصه ولا تتعلق بك، ويعلن عن اهتياجهه من شيء ليس له أي مبرر، وعلى سبيل المثال:
فالذي ينزعج من زميل له بكونه يمشط شعره بطريقة ما تخالف نظرتهلآلية تسريح الشعر، فهل ثمة كائن بشري سيعطي الحق للممتعض على انزعاجه ذاك، أليس إنزعاجه عائد لخلل سيكولوجي لديه قائم على جعل البشرية كلها متماشية مع ذوقه الشخصي؟ ومثال آخر: فالذي يتضايق من شخص ما لأنه ينهض بأشياء عظيمةأويقوم بأعمال لا يقدر على القيام بها الآخر أليس دليل قاطع على أن نفور الشخص مبني على الحسد لا غير؟ ما يعنيبأن غضب الشخص منه بكونه لا يقدر على أن يقوم بما قام به الآخر دليل علة نفسية لدى الشخص الغضوب؟

حقيقةً يبلغ المرء منتهى الحيرة أمام بعض المواقف الصادرة من لدن إخوانه البشر في هذا الإطار، باعتبار أن أية مشكلة ينبغي أن يكون فيها طرف قام بتصرف يضر الآخر أو أن فيه شيء من علامات التطاول على ما يخص الغير حتى يكون سبباً مقنعاً لاهتياج الآخر، ولكن بماذا يرد المرء على شخص يعلن تذمره بلا أي سبب سوى أسبابه ومراميه الكامنة والخاصة به، كغضب جارٍ على جار آخر والانفجار الممقوت في وجهه لأن الأخير قام بشراء قطعة أرضٍ جديدة أو أضاف سيارة أخرى إلى سياراته أو بلغ رؤوس قطيعه الألف، أو قام بتوسيع دكانته أو بتلوين الأشجار الواقعة على الحدود بينه وبين جيرانه وذلك لئلا يُخطئ العمال يوماً أثناء القطف فلا يقطفوا شيء من ثمار الجيران، أو قيام أحدهم بترسيم حدود أرضه التي هي له بالتمام والكمال، فماذا يرد صاحب السيارة أو الدكان أو القطيع أو الأرض على جاره الممتعض من زيادة أو إنشاء ما يخصه،فيزبد ويرعد لأن جارهلوّن جذوع أشجاره أو سوّر أرضه، ففي الواقع يحتار صاحب الأرض مع هكذا جار لأن تذمره ليس مبني على أي منطق عقلي أو فكري أو قانوني، باعتبار أن الأرض له وهو حر التصرف بها قانونياً أمام مؤسسات الدولة واجتماعياً على النطاق الشعبي والعرف العام، فماذا إذن يرد صاحب الأرض على جارٍ مهتاج وكلتذمره وغضبه مبنيان على أساسٍ جائر؟ وماذا يفعل الجار مع هكذا جار هل يلجأ للمحاكم أم يستفتي الجيران الآخرين حيال الموقف؟بينما الكل يؤكد بأن الممتعض لا يحق له الامتعاض أو الاعتراض طالما أن الشخص لم يقترب ولو مسافة شبر من حدود جيرانه، وبيان المساحة كذلك الأمر يؤكد بأن الذي لوَّن أشجاره لم يقترب من أشجار الجيران، والذي سور أرضه لم يتقدم سنتيماً واحداً نحو تخوم جيرانه، إذاً غير موضوع الانشغال بإيجاد الطريقة المُثلى للرد على هذا الممتعض، أليس هذا التصرف الذي لا يمت للحق والعدالة بصلة يدفعنا للتفكير بسبب انزعاج ذلك المجاور، وطرح التخمينات التي دفعته لإعلان التذمر ومنها أنه كان يُفضل في سره أن تبقى أشجار الجار على حالها مباحة للرايح والغادي، وأن تكون أرض الجار مفتوحة وغير مسيجة لأنها كانت ملعباً لدجاجاته ومربط أو مكان استراحة دواب جيرانه من الخرفان والحمير والبغال، إضافةً إلى ما كان يدور بخَلَدهفي أن يوسع حدوده في المستقبل ويضم شيء من مساحة أرض الجيران إلى عقاره، وقد يقول قائل وكيف خمّنت ذلك؟ فنقول التخمين لم يأتي من فراغ إنما جاء بناءً على التصرف وما تفوه به الممتعض بعد تفكيك ما قاله إلى وحدات صغيرة وتفسير أبعاد تلك الكلمات مع المشكلة التي اختلقها يظهر لنا بأن الحسد والأحلام التوسعية للجار هي وحدها كانت وراء غضبه الجائر.

إذ في بعض الأحيان لا يحتاج المرء لوقوع عظائم الأمور حتى يدرك كوامن بعضهم، إنما ثمة مَن يعبِّر عن مكنونه في أصغر المواقف، وسرعة الغضب والانفعال المباشر معيار مهم ليس حيال كشف مستطبنات الآخرين من خلال قيح الانفعالات وحسب، إنما هو مهم أيضاً حيال موضوع اتخاذ الأصحاب والأصدقاء وحيث يقول الأحنف بن قيس لابنه: "يا بُني، إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فاغضبه، إن أنصفك فصاحبه وإن لم ينصفك فاحذره".