قوى اليسار الفلسطيني
بين صراع البقاء
وفرصة القوة الثالثة المؤثرة

 

 

يُعد المرسوم الرئاسي الصادر في منتصف شهر كانون الثاني/يناير الماضي، أولى الخطوات العملية لإجراء انتخابات عامة تبدأ بإجراء انتخابات المجلس التسريعي لجهاز السلطة الفلسطينية في 22 أيار/مايو القادم. بعيداً عن مدى جدية وإمكانية إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثالثة، التي تأخرت أو أُخّرت لمدة أكثر من عشر سنوات، فإن على قوى اليسار الاستعداد لتلك الانتخابات وان تحدد ما تريد: هل هو مجرد البقاء أم العمل، رغم حجمها الصغير نسبيا، لتكون قوة ثالثة مؤثرة وفاعلة في النظام السياسي الفلسطيني.

تهدف هذه الورقة لمناقشة خيارات اليسار الراهنة في التعامل مع قضية الانتخابات التشريعية. تغطي الورقة ثلاثة خيارات هي: أن تخوض قوى اليسار الانتخابات التشريعية المقبلة ضمن قائمة وطنية مشتركة لمكونات منظمة التحرير الفلسطينية مع أو بدون حركة حماس، أو ضمن قائمة يسارية موحدة، أو بقوائم يسارية منفردة. ستقوم الورقة بإبراز بعض إيجابيات وسلبيات الخيارات المذكورة. وتنتهي بتقديم اقتراح استنهاض شمولي ووحدوي لقوى اليسار الفلسطيني.

خلفية
إذا تم اجراء انتخابات تشريعية جديدة في شهر أيار/مايو القادم، فستكون الانتخابات الثالثة خلال 27 عاماً من تأسيس جهاز السلطة الفلسطينية، بعد انتخابات 1996 و2006. ستجري هذه الانتخابات حسب نظام مختلف عن الانتخابات السابقة وهو نظام التميل النسبي الكامل (القوائم). تشير نتائج استطلاع الرأي العام رقم (77) للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، إلى أنه لو جرت انتخابات تشريعية جديدة بمشاركة كافة القوى السياسية، فإن 61% يقولون بأنهم سيشاركون فيها، ومن بين هؤلاء المشاركين تحصل قائمة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس على 34%، وفتح على 38%، وتحصل كافة القوائم الأخرى التي شاركت في انتخابات عام 2006 مجتمعة على 8%، وتقول نسبة من 20% أنها لم تقرر بعد لمن ستصوت. وفي التفاصيل، يُلاحظ أن 3 كتل (منها كتلتان تمثل 4 أحزاب/جبهات) من الكتل التي اجتازت نسبة الحسم في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، يُلاحظ أنها لن تستطيع اجتياز نسبة الحسم لو جرت انتخابات تشريعية اليوم مع مراعاة نسبة الخطأ +/-3% وتحول النظام الانتخابي لنظام التمثيل النسبي الكامل. في المقابل، قالت نسبة من 39% بأنها لن تشارك في الانتخابات.

كما يُستدل من نتائج الاستطلاع المذكور، فإن أحزاب وجبهات ما يُسمى "اليسار الفلسطيني" قد تخسر نصف مقاعدها التي حصلت عليها مجتمعة في الانتخابات التشريعية عام 2006 وقد كانت 9 مقاعد فقط من أصل 132 مقعداً. هذه الخسارة المتوقعة ناتجة عن فشل تلك الأحزاب والجبهات بالوفاء لمبادئها وبرامجها وقواعدها الجماهيرية. وبالرغم تنبهها إلى ذلك ومحاولتها تشكيل جسم يعبّرعن الحد الأدنى من وحدتها لتشكيل قوة ثالثة مثل "التجمع الوطني الديمقراطي" ما بين أيلول/سبتمبر 2018 وكانون الثاني/يناير 2019، إلا أن حسابات المصالح الضيقة خاصة لقيادات تلك الأحزاب والجبهات جعلتها تخسر فرصة أخرى لحمايتها من الاندثار والخروج من المشهد السياسي الفلسطيني. كما أن تجربة قائمة "البديل" في انتخابات عام 2006 والمكونة من ائتلاف الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب وفدا، لم تكن تجربة ناجحة من حيث إقناع الجماهير بالتصويت لها لأنه كان ائتلافاً مؤقتاً ينتهي مع إعلان النتائج، حيث حصلت على مقعدان فقط في تلك الانتخابات.

على قوى اليسار أن تدرك بأن التقارب والاتفاق الحمساوي-الفتحاوي يعبر عن عمق الأزمة التي وصلت اليها الحركتان في قطاع غزة والضفة الغربية اللتين تحكمهما الحركتان بحكم الأمر الواقع، ولا يعبر عن الوحدة المزعومة لمواجهة التحديات التي يواجهها الفلسطينيون، وهذه ربما تكون فرصة للقوى الثالثة أو قوى جديدة لتقدم نفسها بديلاً لهما. فعٌمق أزمة حركة حماس يمكن التدليل عليه بموافقتها على مشروع حركة فتح القائم على حل الدولة الفلسطينية على حدود 1967 في الوقت الذي أصبحت فيه كثير من قيادات حركة فتح ذاتها ترى بأن هذا الحل قد بات مستحيلاً بل وقد شبع موتاَ، كذلك تراجع شعار مقاومتها المسلحة وحصرها من كونها استراتيجية إلى مجرد تكتيك، وهذا بدى واضحاً منذ دعمها ومن ثم تحكمها بمسيرات العودة التي بدأت في شهر آذار 2018، وكذلك حقيقة أن آخر مواجهة مسلحة حقيقية مع اسرائيل كانت في عام 2014 عوضاً عن الخلافات الواضحة بينها وبين حركة الجهاد الاسلامي حول ضبط وتوقيت استخدام السلاح.

في المقابل، تبدو أزمة حركة فتح أكثر عمقاً وتعقيداً وعلى وشك التشظي بعد فشلها المدوي على مدار أكثر من ربع قرن في تحقيق برنامجها القائم على حل الدولتين، وفشلها كذلك في بناء مؤسسات قابلة لأن تكون نواة لمشروع الدولة، أما شعارات التدويل وتغيير وظيفة السلطة لم تسقط فحسب، بل جاءت بنتائج معاكسة ليأتي التطبيع العربي-الإسرائيلي ويضع فتح وسلطتها في زاوية المناورة المحدودة والرضوخ أو الثورة التي لم تعُد مؤهلة لها. أما استراتيجية المقاومة الشعبية التي تبنتها كافة فصائل منظمة التحرير بالإضافة لحركتي حماس والجهاد الاسلامي في اجتماع "الأمناء العامين" بتاريخ 3 أيلول/سبتمبر 2020 الذي عقد، كما قيل، للتصدي لصفقة القرن وموجة التطبيع العربي-الاسرائيلي. لقد مضى أكثر من ستة شهور على بيان قيادة المقاومة الشعبية الأول دون صدور البيان الثاني، وهذا دليل بأن هناك عجزاً في توصيف المرحلة والبرنامج والأدوات المناسبة لها ونتيجةً لهذا العجز لم يلقى البيان الأول ودعوات كافة الفصائل لتفعيل المقاومة الشعبية أي تجاوب من الجمهور. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه حسب استطلاعات المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، فإن برنامج الحل القائم على حل الدولتين قد تراجع تأييد الفلسطينيين له من 55% عام 2011 إلى 39% فقط في 2020، بل أن 62% يرون أنه لم يعُد حلاً عملياً بسبب التوسع الاستيطاني الاسرائيلي. بالرغم من تأييد كل الأحزاب والحركات الفلسطينية له (بما فيها حركة حماس وعدم معارضة الجهاد الإسلامي). في المقابل، ارتفع تأييد حل الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية بحقوق متساوية لكل مواطنيها من 27% عام 2011 إلى 37% في 2020 بالرغم من عدم تبني أي حزب أو حركة فلسطينية لهذا الحل.

إن الثنائية الحمساوية-الفتحاوية القائمة على المحاصصة والمصالح الحزبية، والتي نسيت أو تناست أنها حركات تحرر وطني، ليست ثنائية حقيقية قائمة على قناعة الجماهير بهما، ولكنها ستبقى كذلك باستمرار غياب قوة ثالثة حقيقية. الفلسطينيون اليوم متعطشون لحزب أو حركة قادرة على استنهاض طاقاتهم وآمالهم بمخاطبة عقولهم وتقديم رؤى وبرامج ثورية وواقعية.

الخيارات المتاحة والفرصة السانحة:
حسب نتائج الاستطلاع المذكور أعلاه، وبعد جمع نسبة الذين لن يُشاركوا في الانتخابات (39%) ونسبة الذين لم يقرروا بَعد لمن سيصوتون (20%من نسبة 61% الذين قالوا بأنهم سيشاركون) تكون نسبتهم 51% من مُجمل الفلسطينيين الذين يحق لهم الانتخاب. إذن، هناك فرصة حقيقية لحزب أو تيار أو حركة جديدة لإقناع 39% عن العدول عن قرارهم بعدم المشاركة حيث يُعتقد أن السبب الرئيسي في عدم رغبة المشاركة لدى نسبة كبيرة من هؤلاء هو عدم ثقتهم بالأحزاب والحركات الموجودة، وربما أيضاً لعدم قناعتهم ببرامجها. وكذلك هناك فرصة لإقناع 20% من الذين قالوا بأنهم سيشاركون في الانتخابات ولكنهم لم يقرروا بعد لمن سيصوتون (12% من مجمل من يحق لهم الانتخاب)، وحتى هناك فرصة للتنافس أيضاً على أصوات الذين قرروا لمن سيعطون أصواتهم إذا ما كان الحزب أو الحركة الجديدة قادرة على تقديم برنامج جديد ومختلف وربما ثوري من حيث البرنامج والأدوات، وبذلك قد تصل نسبة الذين يمكن العمل على اقناعهم إلى أكثر من 50% من مُجمل الفلسطينيين الذين يحق لهم الانتخاب. بكلمات أخرى، إذا استطاع حزب أو حركة جديدة إقناع 25% فقط من مُجمل الفلسطينيين الذين يحق لهم الانتخاب، سيتفوق هذا الحزب على حركتي فتح وحماس ويكون القوة الأولى في المجلس التشريعي.

أمام اليسار الفلسطيني خيارات ثلاثة تتراوح بين خيار بقاءه الرمزي في النظام السياسي كما في خيار القائمة الوطنية المشتركة، إلى خيار احتمال دور مؤثر محدود ومشروط بعدم تحالف حركتي فتح وحماس كما في خيار القائمة اليسارية الموحدة. وأخيراً خيار يخاطر به اليسار بزيادة ضعفه وربما يُغيبه عن المشهد السياسي تماماً كما في خيار القوائم اليسارية المنفردة:

(1) القائمة الوطنية المشتركة
بالإشارة إلى مخرجات الحوار بين حركتي حماس وفتح بشكل خاص والفصائلي بشكل عام، الذي كان آخرها في القاهرة في الثامن والتاسع من شهر شباط/فبراير الماضي. يبدو أن فكرة خوض الانتخابات التشريعية المقبلة بقائمة مشتركة تضم حماس وفتح وباقي فصائل منظمة التحرير، تُدرس بجدية من قبل الهيئات الرسمية لحركتا فتح وحماس.

ربما تريد فتح من خلال هذه القائمة المشتركة محاولة حماية الحركة من التشظي شبه المؤكد في صفوفها بمحاصرة قياديين بارزين فيها بحيث لا يقوموا بتشكيل قوائم خارج القائمة الرسمية لفتح (قائمة الرئيس). تشير نتائج استطلاع لرأي العام الفلسطيني للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، بأنه إذا ما قام القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي بتشكيل قائمة خارج القائمة الرسمية لفتح، ستحصل قائمته على 25% من الأصوات مقابل 19% للقائمة الرسمية لفتح، وكذلك إذا ما قام القيادي محمد دحلان بتشكيل قائمة خارج القائمة الرسمية لفتح، تحصل قائمته على 7% من الاصوات مقابل 27% للقائمة الرسمية لفتح. وفي الحالتين، ستخسر قائمة فتح "الرسمية" مقابل قائمة حركة حماس التي ستحصل على حوالي 33% من الأصوات. أما حماس، فقد تكون خضعت لفكرة تقاسم السلطة والمحاصصة، فلم تكن وفية للأصوات التي منحتها الأغلبية في الانتخابات التشريعية الماضية. ربما ترى حماس في القائمة المشتركة فرصة لبداية انضمامها وتمثيلها الفاعل في مؤسسات منظمة التحرير وفرصة للتخلص من أعباء الحكم في غزة، وكذلك فرصة لاعتراف المجتمع الدولي بها، الذي قاطع الحكومة التي شكلتها بعد فوزها بأغلبية المجلس التشريعي عام 2006.

أما قوى اليسار (الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، المبادرة الوطنية، حزب الشعب والاتحاد الديمقراطي- فدا)، فيبدو أنها عاجزة وترى في "القائمة المشتركة" طوق نجاة للبقاء الرمزي لها كما هو حالها الآن في المشهد السياسي، بعد الفشل المتراكم لأدائها وانفضاض معظم كوادرها وقواعدها الشعبية عنها. وستخاطر بعدم حصولها على نسبة الحسم وبالتالي خروجها من المشهد السياسي إن خاضت الانتخابات التشريعية المقبلة بشكل منفرد. إذا أرادت قوى اليسار الفلسطيني الحفاظ على وجودها الرمزي الحالي والاستغناء عن طموح القوة البديلة أو المؤثرة. عليها الانضمام إلى القائمة المشتركة مع حركتي فتح وحماس إن تم التوافق على مثل هذه القائمة. أو الانضمام إلى قائمة مشتركة مع فتح وكل فصائل منظمة التحرير.

من ايجابيات هذا الخيار بأنه الأسهل لتسويقه بأنه خيار وحدوي تطلبه المرحلة، ليبقي قوى اليسار في المشهد السياسي واعطائها فرصة زمنية لمحاولة إصلاح أوضاعها. كذلك من المتوقع أن تساهم حركتا فتح وحماس بالجزء الأكبر من تكلفة الحملة الدعائية الانتخابية لهذه القائمة وبالتالي سيعفي ذلك قوى اليسار من تكاليف مالية هي بأمس الحاجة لها. ولكن، من سلبيات هذا الخيار بأنه يبقيها قوى غير مؤثرة وتابعة لسطوة الحزبين الكبيرين حيث من غير المتوقع أن توافق حركتا حماس وفتح بإعطاء هذه القوى حجما ً (عدد مقاعد) أكثر مما أحرزته مجتمعة في انتخابات 2006. وبالتالي أيضاً حضورها وتأثيرها في حكومة الوحدة الوطنية المرجحة بعد الانتخابات سيكون محدوداً، فتوافق حركتي حماس وفتح، ربما سيلغي حاجة فتح لاستخدام هذه الفصائل مثل إعطاء كل من تلك القوى حقيبة وزارية كما كان يجري في السابق. كذلك يحرم هذا الخيار قوى اليسار من التميز (إن وجد) في برامجها.

(2) قائمة يسارية موحدة

يوجد فرصة كبيرة للقوى الثالثة الموجودة أو لقوى جديدة خاصة إذا كانت قائمة على قيادة شابة جديدة لم تتلطخ بفساد السلطة والأحزاب. وهذه دعوة إلى كل شباب وشابات اليسار الفلسطيني بشكل خاص وكافة شباب وشابات فلسطين بشكل عام (الذين بفئتهم العمرية بين 18-39 سنة تزيد نسبتهم عن أكثر من 60% من مجمل أصحاب حق التصويت وأن أكثر من نصف الناخبين سيكونون من الناخبين الذين يحق لهم التصويت لأول مرة في حياتهم وهم من الفئة العمرية 18-32 سنة) بأن يثقوا بأنفسهم وعدم التردد من تقديم رؤى وبرامج تحررية نضالية جديدة تخاطب عقول الجماهير ليس على الطريقة "البراغماتية" الاستسلامية أو العسكرية المدمِرة، بل على طريقة الإيمان بأن إرادة ووحدة الجماهير الملتحمة والتي تثق بقيادتها قادرة على صُنع المعجزات.

على قوى اليسار أن تدرك بأن جمهورها لم يعُد يقبل بأي عذر لاستمرار وجود هذا الكم من الأحزاب والجبهات اليسارية غير الفاعلة. خاصة أن أسباب الفشل الرئيسية لكل محاولات جهود توحيد قوى اليسار، يرجعها الكثيرين لأسباب ومصالح خاصة بقيادات تلك الأحزاب والجبهات. وكذلك لا يوجد سبب برامجي أو أيديولوجي يعيق هذه الوحدة.

من ايجابيات خيار تشكيل قائمة يسارية موحدة بأنه قد يسترجع بعض الثقة المفقودة في أحزاب وجبهات اليسار الفلسطيني. وقد جرت على هذا الخيار حوارات عدة لإنجازه، وبالتالي يمكن البناء عليها ليسهل الوصول له في زمن قصير (قبل انتهاء فترة الترشح في 31 آذار القادم). كذلك، هذا الخيار يضاعف من فرص حصول هذه القائمة على عدد مقاعد يؤهلها لبناء تحالف مع فتح أو حماس إذا ما خاضتا الحركتان الانتخابات بشكل منفصل ولم تحصل أي منهما على أغلبية في المجلس التشريعي. ولكن من سلبيات هذا الخيار بأنه إذا تحالفت حركتا حماس وفتح قبل أو بعد الانتخابات سيبقي هذه القوى ضعيفة. فلو ضاعفت هذه القوى من عدد مقاعدها مقارنة بانتخابات 2006، لن ترقى لمستوى القوة المؤثرة خاصة إذا لم تُحسن قراءة الوضع الراهن وتقديم برامج تتجاوز أسباب الفشل في تحقيق برامجها، وكذلك إذا لم تأتي بوجوه جديدة في قائمتها، وسيكون من الأفضل التحالف مع قوى اجتماعية وشخصيات مستقلة قريبة من اليسار ولها حضور مثل حراك "وعد" من أجل الوطن والعدالة والديمقراطية، الذي أعلن عن تشكيله في مؤتمر صحفي بتاريخ 27/2/2021 في مدينة رام الله، وقد أعلن الحراك بأنه ليس "كتلة انتخابية"، بل سيدعم كتلاً يراها قريبة من القضايا والمبادئ التي يتبناها الحراك. ومن الواضح أن معظم المبادرين لتأسيس هذا الحراك هم من أعضاء وكوادر ذات خلفيات يسارية. وبالحديث عن الحركات الاجتماعية، لا بد أن نستذكر بُعد الحركات اليسارية عن هموم وحاجات المواطنين، وبالتالي العجز عن قراءة المشهد بشكل صحيح، نستذكر الحراك الشعبي لإسقاط "قانون الضمان الاجتماعي" في عامي 2018/2019 الذي كان أحد أهم أساب الاطاحة بالحكومة السابقة، فقد أيدت أو لم تعارض معظم قوى اليسار القانون المذكور، بل إن القيادة دفعت بقيادات يسارية إلى الواجهة للدفاع عن قانون الضمان الاجتماعي ومحاولة اقناع الجماهير به وعدم معارضته، قبل أن يُجبر الحراك الرئيس التراجع عن مرسوم القانون ووقف تنفيذه.

(3) قوائم يسارية منفردة

في حال فشل التوصل إلى الخيارات السابقة، وبالإشارة إلى عدم حدوث تغيير في معظم أو كل صانعي القرار في قوى اليسار منذ انتخابات 2006، قد تختار قوى اليسار خوض الانتخابات القادمة بقوائم منفردة أو ائتلافات شبيهة بائتلاف قائمة "البديل" في انتخابات 2006. من ايجابيات هذا الخيار يتيح لقوى اليسار الفرصة لتقديم برامج ورؤى خاصة بها دون الحاجة للمساومة عليها كما في الخيارات السابقة. كذلك يتيح لها هامش حرية ومناورة أكبر لائتلافات محتملة بعد الانتخابات. فقد تحصل واحدة أو أكثر من هذه القوى على عدد مقاعد يجبر حركتا فتح أو حماس للائتلاف معها حيث من غير المرجح بأن تحصل أي من الحركتين على أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة لوحدها. أما من سلبيات هذا الخيار بأن بعض القوى ستخاطر بعدم حصولها على نسبة الحسم وبالتالي مضاعفة ضعفها وربما التلاشي، باستثناء "الجبهة الشعبية" التي ربما تعتقد بأنها ما زالت تحتفظ بحضور وقاعدة شعبية تمكنها من تجاوز نسبة الحسم، ولكنه لن يكون كافياً لجعلها قوة مؤثرة. كذلك إن الحملات الدعائية الانتخابية المنفردة لكل قائمة ستضاعف وتستنزف الموارد المالية لتلك القوى التي هي بأمس الحاجة لها، وهذا سيكون ثمن خضوع قوى اليسار وعدم الدفاع عن حقها غير المشروط في حصتها المالية من الصندوق القومي، والسماح لحركة فتح ورئيسها بالاستفراد بها وابتزازها في أكثر من مناسبة. وربما سيقود تلك القوى للمساومة على مبادئها بعد لانتخابات.

ما العمل؟
لتكون قوة ثالثة فعالة فإن قوى اليسار مطالبة اليوم بأن تضاعف جهودها ليس فقط للحفاظ على ما يُبقيها في المشهد السياسي الفلسطيني كما في الخياران الأول والثاني، بل لتسهم في تحديد التوجه الفلسطيني القادم داخلياً وفي العلاقة مع إسرائيل. على أحزاب اليسار وجبهات القوى الثالثة في منظمة التحرير أو حركات جديدة، إن كانت تريد بأن تكون قوة بديلة أو قوة ثالثة مؤثرة، مراجعة ودراسة أسباب أزمة "المشروع الوطني" وواقع ومستقبل منظمة التحرير وبرنامجها التحرري. كذلك على أحزاب وجبهات القوى الثالثة دراسة أسباب فشل الاستراتيجيات (الشعارات) سابقة الذكر وإعادة النظر في قراءة وتوصيف الوضع الراهن لتكون قادرة على تقديم برنامج وأدوات حقيقيه بعيداً عن الشعارات. وهذا يتطلب إعادة النظر في ركائز الوضع الراهن وكيفية التعامل معها. فمثلاً، تصف الكثير من قيادات هذه الأحزاب والجبهات الوضع القائم بين النهر والبحر بأنه واقع دولة واحدة تحكمه اسرائيل ب “نظام أبارتهايد"، وهذا صحيح، ولكن كيف يمكن تسويق هذا الواقع للعالم لإنهائه باستمرار وجود جهاز السلطة الفلسطينية؟! وهنا لابد من التذكير من أن غالبية الجمهور الفلسطيني (55%) يرى في استمرار وجود السلطة الفلسطينية عبئاً عليه وعلى قضيته.

على قوى اليسار إن أرادت بأن تكون قوة بديلة أو قوة ثالثة مؤثرة، أن تقوم بتغيير دراماتيكي يُعيد ثقة كوادرها وقواعدها الشعبية بها. عليها أن تقوم بخطوات عملية وسريعة مثل أن تقوم كل جبهة/حزب من قوى اليسار بانتخاب أو اختيار لجنة للوحدة والانتخابات من خارج الهيئات القيادية لكل جبهة/حزب لأن هذه الهيئات أثبتت أنها جزء من المشكلة ولا يمكن أن تكون جزءاً من الحل. إن الجمهور متلهف لرؤية وجوه جديدة وشابة. يمكن أن يكون كل أعضاء هذه اللجان مرشحين للانتخابات التشريعية المقبلة في قائمة يسارية موحدة. على هذه اللجان أن تختلي بنفسها لعدة أيام لتنتخب لجنة قيادية من بينها من 21 عضواً (تسمى اللجنة العليا للوحدة) على أن يكون ممثل واحد على الأقل من كل حزب/جبهة وتحسم هذه اللجنة قراراتها بالأغلبية المطلقة (50%+1)، لتقوم بإعداد البرنامج الانتخابي وكل ما يتعلق بالحملة الانتخابية وتكون قراراتها ملزمة للأحزاب والجبهات المشاركة.

من سلبيات هذا الاقتراح ضيق الوقت (قبل انتهاء فترة الترشح في 31 آذار القادم). كذلك قد لا توجد إرادة حقيقية لدى قيادات القوى المستهدفة للتنازل عن الامتيازات التي تحظى او حظيت بها وتسعى للتمسك بها. في المقابل، من ايجابيات هذا الاقتراح أنه قد يكون قادراً على استعادة ثقة واستنهاض طاقات كافة كوادر وقواعد قوى اليسار، بل ويكون انطلاقة جديدة قادرة على استقطاب فئات عريضة من مجمل المجتمع كما ذكر سابقاً. يضاعف العمل بهذا الاقتراح من احتمال حُسن قراءة الوضع الراهن وتقديم برامج تتجاوز أسباب الفشل للاستراتيجيات (الشعارات) المذكورة سابقاً. إذا حصل ذلك، سيكون لقوى اليسار بواقعها الجديد حضور قوي ومؤثر في النظام السياسي سواء كانت جزء من الحكومة أو المعارضة.