إرهاصات ومفاعيل حرب الخليج الأولى
 

 

في الواقع وعلى عكس ما تم تغطيته في وسائل الإعلام المتسيد إبان حرب الخليج الأولى، فإن نظام صدام حسين كان قد استشعر بأنه لم يتفهم بشكل جيد مستوى الضوء الأخضر الذي اعتقد بحصوله عليه من سفيرة الولايات المتحدة April Glaspie في العراق قبل بضعة أيام من غزو العراق للكويت، والذي انطوى إلى إشارة ضمنية بالموافقة على تصعيد الخلاف العراقي مع الكويت باعتباره «شأناً عربياً لا دخل للولايات المتحدة فيه»، والذي يحتمل أنه كان بمثابة الضوء الأخضر لعملية عسكرية محدودة يسيطر فيها العراق على كامل حقل الرميلة الحدودي المتنازع على سبل استثماره تقنياً مع الكويت، وهو ما قد تم المبالغة في تفسير حدوده من قبل نظام صدام حسين، فتجاوز به الخطوط الحمراء عبر تحويله إلى إذن بغزو شامل لكل جغرافيا الكويت.

وفي محاولة واضحة من نظام صدام للتراجع عن خطئه في فهم حدود الضوء الأخضر الأمريكي الممنوح له آنذاك لتصعيد الخلاف مع الكويت فإنه كان قد تقدم بعدة مشاريع تنطوي جميعها على انسحاب كامل من حدود الكويت، مشفوعة باشتراطات لحفظ ماء وجهه من قبيل المشروعين في 12 و19 أغسطس من العام 1990، بالإضافة إلى ذلك المشروع الذي تم الإعلان عنه في 23 أغسطس من العام نفسه، والذي لم تقم وسائل الإعلام المتسيدة حتى بالإشارة إليه، وتضمن انسحاباً غير مشروط من كل الحدود الكويتية، وعدم اعتراض على وجود قوات التحالف في شبه الجزيرة العربية، وحصر مطالبه وشروطه كلها ببند واحد هو السيطرة على حقل الرميلة النفطي بشكل كامل والذي يقع 95% منه في الحدود العراقية المتفق عليها دولياً، و5% فقط منه في داخل الحدود الكويتية التي قام بترسيمها المستعمرون الإنجليز من قبل، وتم اعتمادها كحدود دولية للكويت لاحقاً، كما لو أنه تراجع من نظام صدام عن سوء الفهم الذي حصل في استيعابه لرسالة السادة الأمريكان، والعودة إلى تنفيذ ما استبطنه لاحقاً بأنه الفهم الصحيح للرسالة التي بالغ في فهم فحواها الدبلوماسية من قبل. وكان يكفي لقوات التحالف أساساً الموافقة على ذلك العرض العراقي آنذاك، والذي كان كفيلاً بتحرير الكويت دون أي تكاليف بشرية أو مادية تذكر بالمقارنة مع تلك المهولة التي حصلت في سياق تراجيديا حرب الخليج الأولى.

وفيما يرتبط بالمآلات التي أفضى إليها غزو الكويت، فإنه من المحتمل أن تكون عدة عوامل قد تفاعلت وتآثرت فيما بينها وأدت إلى ما أدت إليه من كوارث سوف تبقي العرب مرهونين للتعامل مع مفاعيلها الصادعة والخبث الناتج عنها وإلى أمد طويل. ومن جملة تلك العوامل الغلواء الوحشية للانتقام والتي قادها بعض العرب للانتقام من الغزاة العراقيين، وهم في الحقيقة أبناء عمومتهم المباشرين إن لم يكونوا من لحمهم ودمهم حتى لو أخطأوا، بالإضافة إلى نشاط مجموعات الضغط الصهيونية التي رأت في ذلك الزلل لنظام صدام حسين فرصة تاريخية لتهشيمه بعد أن تم تقديم كل أشكال الدعم له سابقاً ليقوم بما عجزت الولايات المتحدة عن القيام به مع إيران الخميني، عبر محاولة تدميرها بدماء العراقيين وأموال نفطهم، بالتوازي مع ما قد تبدى بأنه فرصة سانحة لوضع اليد على ما وصلت قيمته السوقية بعد تعديلها حسب معدل التضخم التراكمي إلى ما يقارب 300 مليار دولار تم سدادها من احتياطيات الدول الخليجية التي كانت رأس الحربة في قرع طبول الحرب والانتقام من العراقيين الذين أصبحوا شياطيناً لا بد من استئصالهم من وجه البسيطة بعد أن كانوا ولردح طويل «حصن العرب والخليج العربي في وجه التمدد الفارسي» على حد تعبيرهم أنفسهم.

وقد يكون العامل الأهم هو المبدأ الثابت في سياسة الولايات المتحدة في معاداة كل نماذج «الاستقلال الوطني» التي قد تعطي أمثلة سيئة لدول الجوار ومجتمعاتها بأنه قد يحق لتلك المجتمعات التمتع بفضائل ثرواتها الطبيعية، وهو خطر كان من المحتمل تحققه بعد فراغ صدام حسين من حربه العدمية مع إيران، والتفاته للقيام بدوره كديكتاتور يعنيه بناء مجده عبر تطوير البنى التحتية والفوقية في بلاده بشكل يعكس ويخلد عظمته، في نهج يتفارق عن الدور المحدد لكل القائمين بدور النواطير على النفط العربي الذين ينحصر دورهم في تسهيل عمل الاستثمارات الغربية في بلادهم، وحصولها على النفط العربي بشكل شبه مجاني، وتخزين أي فوائض يحصلون عليها من الفتات التي تتبقى من أرباح استخراج النفط من أرضهم بعد استحصال الشركات الغربية العابرة للقارات على حصة الأسد منها، في سندات خزائن الولايات المتحدة، و التي ليس لهم حق في التصرف بها إن أرادوا ذلك، كما تبدى جلياً في سياق قانون جاستا الأمريكي، وهو ما يعني بشكل عملي استحصال السادة أصحاب الحل والعقد من أولياء أمور النواطير العرب على كل عوائد النفط فعلياً بمسارب متباينة تقود إلى نفس الموئل، وعدم استثمار أي منها في تطوير البنية التحتية أو الفوقية الهشة في تلك المجتمعات النفطية التي لا زال الكثير من بقاعها حتى اللحظة الراهنة لا ينعم بشبكة للصرف الصحي أو شبكة لإمداد الكهرباء عدا عن عدم وجود أي بنية تحتية زراعية أو صناعية أو سكك حديدية تربط بقاعها فيما بينها. وهو نموذج كان من المحتمل ألا يسير في نهجه صدام حسين عبر تحويل عوائد النفط لبناء العراق المنهك بعد حرب السنوات الثمانية العجاف مع إيران. وهو احتمال كان لا بد من وأده لكيلا يعطي إيحاءً خاطئاً للنواطير الآخرين بإمكانية انعتاق أي منهم من اشتراطات دوره الوظيفي كناطور مكلف بحفظ مصالح أصحاب الحل والعقد والتمتع على نطاق محدود أسري أو قبلي ضيق بالفتات التي يتلقفها هنا وهناك بينما تظل حصة الأسد شبه المطلقة من نصيب السادة أولياء الأمر في لندن وواشنطن أساساً.

وتلك الاحتمالات كلها أسهمت بدرجات متفاوتة في تعزيز خيار الحرب التي كانت لا تهدف إلى تحرير الكويت وإنما لتهشيم العراق دولةً ومجتمعاً وشعباً و وإجهاض أي ممكنات لتحقق احتمال أي استقلال وطني في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا والتي يفضل المستشرقون تسميتها الشرق الأوسط، بشكل لا يختلف كثيراً عن الانقلاب الذي قادته المخابرات الأمريكية والبريطانية على حكومة مصدق الوطنية العلمانية في العام 1953 في إيران، والتي فتحت الباب لعودة الشاه المستبد البربري والذي كان لبربريته وتهشيمه للتيار الوطني العلماني المستقل في إيران مشخصاً بإعدام محمد مصدق ومن والاه المقدمة الموضوعية التي أدت إلى انزياح المجتمع الإيراني باتجاه التطرف الديني الذي لم يعد سواه حاضاً في الساحة السياسية الإيرانية آنذاك، وهو ما أدى في المآل الأخير إلى ثورة الخميني وتحول إيران إلى جمهورية دينية لم يجد المسؤولون الحقيقيون عن تحققها الوجودي في واشنطن ولندن خيراً من الدماء العراقية لفت عضدها، والانقلاب على تلك الدماء وأهلها حينما تغيرت الظروف وأملت الأحوال المستجدة ضرورات تهشيم العراق والذي لا زالت مفاعيل تهشيمه ومفاعيل دفع إيران تجاه التطرف الديني أحد أهم الأسباب في حالة النزيف الذي لا ينقطع في العالم العربي وإدمان الأخوة على قتل بعضهم في كل أرجائه الهشيمية الحطامية.