الرقص
في حقول البرتقال


عبد الرزاق دحنون
سورية


 

 

نحن الآن على شاطئ بحر إيجة, نُطلُّ من شاهق على جيراننا الاغريق في اليونان الحديثة, ننهض من نومنا في بكور صباحات شتاء باردة. نجتمع في ساحة بازار "ليمون تَبي" الحي الريفيّ الجميل, المعلَّق في السفوح الجبليَّة لمدينة أزمير. هنا, في غبش الصبح, ننتظر الحافلة التي ستحملنا صوب حقول برتقال بعيدة, ممتدة على طول ساحل بحر إيجة في ريف المدينة, فنصلها مع آذان الفجر, وصوت المؤذن التركي يحثُّنا "حيَّ على الصَّلاة حيَّ على الفَّلاح".

سوريون من شمال بلاد الشام, من كل الملل والنحل, فينا الكردي, والعربي, والشركسي, والتركماني, والآشوري, والكلداني, و السرياني, والأرمني, كلّنا عَبَرنا من حرب الشمال إلى سلم الشمال. وها هو جمعنا المكلَّل بالسلال الفارغة يعبر دروباً ضيّقة لحقول واسعة فسيحة من شجر البرتقال. الواحد منّا مثل طائر وحيد, أضاع اتجاهه, فقد أنهكته البراميل المتفجرة, و صوت أزيز الطائرات الحربيّة, وتساقط شبابيك الجيران على شبابيك الجيران، وها هو الآن بلا عشِّ, يحطُّ, منكمشاً, على غصن أجرد يابس, يضايقه البقاء هنا, ولكن إلى أين يطير؟ وما من ركن أخضر يأوي إليه, أو مكان يُقيم فيه عشَّاً مؤقَّتاً على الأقل. و يا للعجب, ما أكثر أعشاش العصافير الملوَّنة الصدَّاحة في شجر البرتقال.

نحن هنا في مدينة أزمير علَّقنا أحلامنا على مشاجبها , وتركنا بسُقُوف بيوتنا في شمال الشام, بصلاً, وبامية, ورماناً, وتيناً يابساً, وثوماً للشتاءْ, تركنا حليباً في أَضرع مَاعِزِنا, وتركنا رفَّ حمامنا المنزليّ بلا ماء, و تركنا الطائرات الحربية تُحلّق في الأجواء, وأعطينا لزغب القطا طوق النجاة, ثمَّ عبرنا جسر الموت إلى الحياة.
مجلة الكاتب -رفاق البرتقال
ها نحن بعد أسبوع من العمل نعبر دروباً ضيّقة أليفة بين صفوف شجر البرتقال, والشاويش التركي "محمد" يحثّنا على العمل بصوت رخيم "هايدي أبي" بسرعة يا أخوتي, مردداً لازمته الدائمة "الشمس تميل, والهواء عليل, والبرتقال جميل". كنّا طيِّبين وساخرينْ, لا نعرف الرَّقص والمزمار إِلاَّ في أعراس بناتنا وطهور أولادنا. كنّا تعوَّدنا زراعة النعناع في فسحة من حدائق منازلنا, و "كلُّ منزل في الأرض يألف الفتى وحنينه دائماً لأول منزل" و كنّا تعلَّمنا زراعة البنفسج في أغانينا, وفي أحواض قبور موتانا. نحن هنا في الغربة, وهي أمكنة تُغيّر أهلها وزمانها, وهي الوصول إلى السواحل فوق مركبة أضاعت شراعها. يا بحر إيجة, عُدْ بنا يا بحر, نحن الذين أكلنا من خبز أهلك. طلبنا جوارك, فأجرتنا. أتينا إليك لننتصر في معركة الحياة, حياتنا. متى تُعيدنا أيها البحر القديم إلى نباح كلابنا في بلاد الشام؟ والشام شام لكلِّ زمان, أعدّنا إلى أحلامنا التي قصفتها الطائرات, ثمَّ تابع أيها البحر القديم مغامرات البحث عمّا ضاع من زوارقنا, عن أطفال أصبحوا شجراً من المرجان في القيعان. كم كنّا نُحبك يا بحر إيجة حتى رميتَ أطفالنا غرقى على رمل سواحلك, والشاهد الشهيد أصغرنا "إيلان كردي".

كُنّا هناك, والآن نحن هُنا, في حقول البرتقال, نُعلّم الأقدام كي تألف الرَّقص الخجول مع الحجل, فالمنافي هي المنافي, هنا, و هناك. هل تذهب منافينا سدى؟ أم نتعلّم الرَّقص في حقول البرتقال, ونتعلّم البكاء على مهل لئلّا يسمع الأعداء ما فينا من دهشة الروح و هشاشة البلور المكسّر. يا بحر إيجة كم من زمان مرّ كي نجد الجواب عن السؤال ؟ والسؤال هو الجواب, من زهرة البرتقال تولد حبات البرتقال, ولا شمس تحت الشمس إلا نور قلوبنا يخترق ظلال الشجر, والبرتقال يضئ جباهنا وأكفّنا, وتقول جارتي في الشجر المجاور: أما كفانا اليوم برتقالاً؟ من نحن يا بحر إيجة؟ هذه أشياء غربتنا: سلال البرتقال, زوّادة الفقراء, مقصَّات من حديد, ابريق ماء من فخّار, أعشاب ترفض الموت, و أعجبُ من مقاومة هذه النّباتات البريّة الصامدة, العنيدة, التي تنجو حتى بعد دهسها بأقدام البشر. هل نستطيع اعادة الماضي إلى اطراف حاضرنا؟ هل نستطيع غناء أغنية ونرقص في دقيقة مسروقة من وقت الشاويش "محمد"؟.
مجلة الكاتب - كاتب المقال في حقول البرتقال
يا بحر إيجة, يا صديقي, كم في سهولك من برتقال؟. يا بحر إيجة, حمي الوطيس, ومقاريضنا تعبت, وتشنّجت أصابع أيدينا و أرجلنا, وشاويشنا التركي "محمد" يُرتّل الكلمات ترتيلا: "الشمس تميل, والهواء عليل, و البرتقال جميل" تاريخهم تاريخنا, دينهم ديننا, عاداتهم عاداتنا. لولا اختلاف الهلال في الرايات وحَّدت الشعوب دروب فكرتها, ولعلهم كتبوا على اسمائهم اسماءَنا. عُدْ بنا يا بحر إيجة, هل تُعيدنا من حيث هبُّت ريحنا. كُنّا كما ُكنّا, سليقة كل نهر لا يفتش عن ثبات, نجري في الدنيا لعلَّ الدرب يأخذنا إلى درب النجاة من الشتات, ولأننا لا نعرف من الحياة سوى الحياة كما تقدمها الحياة, غادرنا شمال البلاد إلى الشمال, لم نسأل عمّا وراء حدود بلادنا. كانت ساحاتنا أوسع من سماء لا تغطينا, وكان البحر ينسى أسماء صغارنا في كلّ حين, ولكن كنّا نعرف شمالنا من جنوبنا. نحن الآن هُنا يا بحر إيجة, نضحك كثيراً من قول صاحبي, من أهل "قامشلو" في شمال الشمال, وهو يقصُّ بالمقراض البرتقال, واقفاً على درجات السلّم الخشبي في أعلى الشجر: قد يكون السجن أرحم من بساتين البرتقال.

بأيّ أسلحة تصدّ الروح حنيناً إلى ديار تركناها معلَّقة على حبل الغسيل في عصف الريح؟ بأيّ أسلحة نكبت الشوق إلى خبز تنور أمّهاتنا؟ يا بحر إيجة, من يلمّ غسيلاً تركناه أشباحاً معلَّقة على الحبال في صحن الدار؟ نحن لم نذهب بعيداً ولم نصل, لأن قلوبنا حبات لوْز مضرَّجة في أزقة حارات شعبية منسيَّة مهدَّمة, وكلَّما قلنا وصلنا إلى آخر الدرب الطويل خَرَّ أولنا. أيها البطل ابتعد عنّا قليلا نحو نهاية أخرى, أيها البطل المضرَّج فينا من شظايا صواريخ قصف الطائرات, قُلْ لنا كم مرة ستكون غربتنا البداية والنهاية؟ وها نحن نقاوم بأسلحة الحيلة, ونتذكَّر "جيمس سكوت" في كتابه الشهير" المقاومة بالحيلة-كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم- و صاحبنا في قطاف البرتقال "حنّان" يؤلف همساً و يُتحفنا بملحة أو "نكتة" لا فرق بين الكلمتين, يقول: تشاجر كلب و شاب سوري في ساحة بازار "ليمون تَبي" كان الشاب يُقدم إذا رأى الإقدام عزماً, ويُحجم إذا رأى الإحجام عزماً. أدمى الكلب الشاب, وأدمى الشاب الكلب, كانا يتحاربان, وأُثْخِنَ كلاهما بالجّراح, وفي نهاية المعركة, تضرَّجا بسيل من دماء. أخبر الجيران سيارة الإسعاف, جاءت, حمل المسعفون الكلب على عجل, وقالوا للشاب السوري: انتظرنا لن نتأخر في العودة.
مجلة الكاتب - برتقال بحر إيجة
تُعيدنا حكاية "حنّان" في نهايتها إلى زمن الفكاهة والمسرّات الصغيرة والأوجاع الكبيرة, وعلى كلِّ حال, للكلاب في مدينة "أزمير" حكاية أخرى, وهنا, يا بحر إيجة, تدخل مأساتنا في ملهاتنا, ويقول "حنّان" وهو يرقص مع الشاويش "محمد" في فسحة بين أشجار البرتقال: "لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً, فالطير يرقص مذبوحاً من الألم". ها أنا ذا ألملم شعث دفر مسودتي المغبرّ من تراب حقول البرتقال, وأجمع ما تبقى من ذكريات عن وطن ضاع بين جنازير الدبابات. وأقول لصغيري إبراهيم حين يسمع صوت أزيز الطائرات في سماء مدينة أزمير: لا تخف يا ذا "الأنيف الأكشم" هذه طائرات مدنيَّة.

من نحن يا بحر؟ نحن المنسيّون في زمن الحرب الضروس. لنا الله يا بحر إيجة, نحن نفرح عندما يأتي نهار واحد لا موت فيه. و هُنا أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب, لو أقسم على الله لأبره" و الآن يا بحر إيجة, ها شمسك في غروب, ونوارسك مَلَّتْ من التحليق في الأفق, فدعني أجمع أوراقاً متناثرة من قصيدة محمود درويش "مأساة النرجس, ملهاة الفضّة" التي اعتمدتها لضبط إيقاع المقال, فما عدتُ أرى حروف الكلمات جيداً كي أُتابع الكتابة, فالدموع تحجب الرّؤية.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب