ماذا قال المغني في حضرة البياض؟


 

المقال


عبد الرزاق دحنون
سورية
للكاتب أيضا

 

إلى الأحبة:
 سميح شقير، الشيخ إمام، وليم نصار، مرسيل خليفة، فيكتور جارا.


فتحتُ باب الغرفة رقم ثمانية، في أحد أجنحة المستشفى الوطني، أبحث عن صديق مُصابٍ بطلقٍ ناريّ في إحدى المظاهرات التي عمَّت المدينة، فلمعَ في وجهي بريق نصل سكّين، يقطع تفاحةً شرائح رقيقة.

جَلَسَتْ صاحبة التفاحة الحمراء، والبسمة لا تفارق ثغرها، على حافة سرير مريض في مقتبل العمر، يسند ظهره إلى وسادتين، فتراه العين مرتاحاً في جلسته تلك. كانت الأنامل التي تمسك مقبض السكّين بيضاء ظريفة القوام، الأظافر مهذّبة، مثقّفة، نظيفة، والكفّ التي تجمع تلك الأنامل رقيقة البشرة تكاد تشفّ من فرط حُسنها وجمالها.
مجلة الكاتب :: الشيخ إمام :: للتشكيلي السوري قحطان طلاع
لو تأمّلتَ المشهد جيداً لرأيتَ تلك الأنامل تدنو بلطف من فم الشاب، فيقضم بأسنان سليمة بيضاء لامعة تلك الشرائح النديّة، ثم يمضغ على مهلٍ ويضحك. نظرتُ في وجه الشاب، يا الله! ما أحسن خلقه بدعة من بدع الرحمن! كان ساكناً، يداه مسبلتان فوق بياض الشرشف، وأصابع كفَّيه نائمة في قبضتيه كأنها ليست منه، الخنصر والبنصر والوسطى والسبابة والإبهام مشلولة في كفَّيه.

أُطيل النظر في الشاب وأتساءل في سرّي: ماذا حدث لهاتين اليدين الجميلتين؟ فقد شاهدتُ يدين لم يسبق لهما مثيلٌ على الإطلاق، يداً يمنى ويداً يسرى، كانتا يدين نادرتي الجمال، يغمرهما بياض شديد، وفي طرفيهما أظفار لؤلؤية رقيقة الاستدارة.

لقد سقطتا معاً ميتتين فعلاً، لا منهكتين فقط، سقطتا بتعبير واضح من الانهيار والخيبة، محطّمتين وخائرتين بشكل تعجز الكلمات عن وصفه. فلم يسبق لي من قبل أن رأيت يدين على تلك الدرجة من الفصاحة. وهذه الفصاحة ارتسمت على وجه الشاب وهو يأكل شرائح التفاحة تلك من يدين هي الأخرى غاية في الفصاحة والنبل. هل هو الامتنان تجاه هذا الملاك الذي يمسك بيده السكّين؟ نادراً ما نرى الناس يظهرونه، وحتى أكثر الممتنّين لا يجدون العبارة المناسبة، بل يكتفون بالصمت مرتبكين، ويبدون الخجل والحرج لإخفاء مشاعرهم. لكن هذ الكائن الذي حباه الله بكلِّ الحركات القادرة على تبليغ المشاعر بإحساس وجمال وليونة، كان تعبيره عن الامتنان يشعّ بشغف من كل جسده الساكن.

كانت صاحبة التفاحة في عمر الشاب أو أصغر قليلاً. أتكون زوجته؟ لا أعتقد أن أحداً في هذا العالم يرفض أن تكون هذه المخلوقة له زوجة. لا، ليست زوجته. هذه الكياسة في التصرف أمام الناس لا تقوم بها زوجة شابة علناً في غرفة مشتركة على سرير مريض. فمن تكون؟
مجلة الكاتب :: المغني التشيلي فيكتور جارا
نعم، كانت الغرفة التي أبحث عنها، دلفت إليها، فإذا أنا في بياض، أردية الممرضات بيضاء، جدران الغرفة بيضاء، النوافذ بيضاء، الشراشف بيضاء، الإضاءة بيضاء، كوب الحليب أبيض، قرص المنوّم أبيض، أربطة الشاش بيضاء والقطن أبيض. ما أجمل هذا البياض! وتذكّرت حينئذٍ أن الغرفة التي عاش فيها الشاعر المصري أمل دنقل مريضاً بالسرطان كانت تحمل رقم ثمانية- يا محاسن المصادفة- وفيها كتب بعضاً من قصائد ديوان شعره الأخير، وكانت بيضاء أيضاً. نظرتُ صوب صديقي، كان نائماً في خدر جميل، بعد عملية خطرة وشاقة في معدته وأمعائه مكان الرصاصة المتفجرة القاتلة. ولكنه عاش، فمن له عمر لا تقتله شدّة. في هذه الغرفة البيضاء تعطَّلت لغة الكلام، فكلّ الأحاديث تدور في همس. لا يمكن لامرئٍ أن يكون صاخباً في مكان يُروَّض المرض فيه بهذه الرقّة والحنان، لذلك كان الكلام يتدفق مثل بياض السكر في كفة ميزان.

جلستُ على حافة سرير صديقي أنتظر يقظته، وأهله يُحيطون سريره. فجأة، التقت نظراتنا، فقال الشاب الذي يقضم التفاح بعد أن حدَّق بعينين كليلتين في وجهي: أنتَ كاتب، مدينتنا صغيرة ونعرف بعضنا، أليس كذلك؟ قلتُ: نعم، يمكنك أن تعتبر الأمر كذلك. قمتُ وجلست على حافة سريره، فمضى ينسج من خيوط المساء الزاحف نحونا نسيج مأساته. كان صوته ينخفض ويعلو، وأحياناً يغيب فتغرق كلماته في حزن مقيم، وكان يخيّل إليَّ أحياناً أن عناصر الطبيعة كلها تصمت وترهف السمع لما يقول:مجلة الكاتب :: المؤلف الموسيقي والمغني السياسي وليم نصار
يا صاحبي، كنتُ معصوب العينين، مقيّد اليدين، عارياً في مكان ما، ولكن سرعان ما انتزعتني أيدٍ ثقيلة من مكاني وساقتني لا أعرف إلى أين، إنسان قوي بسلطته أو بسلاحه أو بماله أو بعضلاته، وبين يديه، إنسان آخر ضعيف، وقد كنت أنا هذا الإنسان الضعيف، ثمَّ جاءت سواعد قاسية تناولتني من كل اتجاه فرفعتني عن الأرض، وتولّت أيدٍ أخرى جذب ساعدي للأعلى. وفي لحظة واحدة أفلتني الجميع، فوجدتني مشبوحاً كالذَّبيحة في سقف دكّان جزَّار، ورجلاي تخبطان الهواء. وبدأت أولى حفلات التعذيب.

كانت عملية الشبْح وحدها كافية لتمزق أعصابي وتتلف جَلَدي وتُفقدني الوعي بعد عشر دقائق. غير أن الأمر ما كان كذلك وحسب، فسرعان ما انطلقت تُناوشني مجموعة من الكبلات والعصي تجلدني كأسياخ النار، تبعتها من حيث لا أدري لسعات الكهرباء من أطراف أصابع أطرافي. انفجرت بالصياح من شدَّة الألم المتفجر، فكأنما ازداد الجلادون انتشاء بذلك. كنتُ أسمع وسط الألم صياحهم وهياجهم من غير أن أبصر شيئاً ومع كلِّ ضربة كانت تطرق أذني شتيمة جديدة، ولم ألبث أن وجدتني أغيب عن الوعي تماماً، فقد فاق الألم قدرتي على الاحتمال وحتى على الصياح. ثمّ أصحو، لا أدري متى، فأجدني في زنزانة منفردة ينهش الألم أطرافي وتشتعل الأوجاع نيراناً في كلِّ ثنية من ثنيات بدني. لقد شلَّ الشَّبْحُ أطرافي وفقدت القدرة على تحريك أصابعي، لا ريشة عزف ولا أوتار ولا عود.
مجلة الكاتب :: مرسيل خليفة
لماذا اعتقلوك، أنتَ مُغنٍّ؟
الاعتقال يا صاحبي هو القذف اللَّحظي الصاعق، هو الرَّمي، والانقلاب من حالة إلى أخرى في دولاب الحياة. عندما تسمع جأرةً قوية تقول: أنتَ معتقل، شرارة تصعقك، صدمة تأتيك من الماضي الذي يشدّك إليه أبداً، دون أن يتحرك إلى الأمام مرة واحدة حيث زمن العدل الكلي المطلق. لا يمكنك استيعاب الأمر لا في الساعة الأولى ولا في اليوم الأول، نعم، لا يمكنك ذلك. يجتاحك الموج الطاغي فتغرق في لجَّة عميقة من القهر. ستون يوماً والشبح المُهلك يتكرّر وأنا أُقاوم الحتَّ والتعرية، إلا أن هذا المشهد المألوف راح يتغير ويميل برمته نحو لوحة سريالية من لوحات سلفادور دالي. هذه الرياح العاصفة الهوجاء التي تهبّ من كلِّ فجِّ عميق تفعل فعلها في التفتيت المدمّر، وتزداد عوامل الصمود وهناً على وهن أمام هذا القصف والعسف المسلَّح بكل أنواع الوحوش الضارية. تسونامي من الرعب الحيواني، فأنت، في تلك الزنزانات، حيوان مهان، أنت لا شيء، أنت الرَّقم ثمانية, لا تعرف أين أنت، ولا تعرف الوقت ولا اليوم، أنتَ المعذَّب في الجحيم الوطني.
مجلة الكاتب :: سميح شقير
سأشرح لك الأمر بطريقة أخرى:
عندما تتعرض أنتَ للتفتيش على الحواجز الأمنية، تتساءل أحياناً عما قد يحدث لو كان بالإمكان قراءة الأفكار، لا لأن أفكاركَ تدور حول العصيان والتمرد والثورة المسلحة - لا سمح الله- بل لأنه تخطر ببالكَ أفكاراً غير قانونية كلما رأيتَ على شاشة التلفزيون صورة الرئيس المنتخب بطريقة مشكوك في نزاهتها. واختلاف الرأي، بدرجاته المتفاوتة، مثير للجدل، ولا يكسب صاحبه شعبية واسعة. ففي تلك اللحظة التاريخية التي أطلق فيها المغنّي سميح شقير أغنيته "يا حيف" انشقّ القمر، وتهشّمت الصورة النمطية لهذا الفنان في وسائل الإعلام الرسمية، وتحولت صورته لتأخذ شكلاً آخر تماماً عما كانت عليه. لقد تحوَّل الرجل في لحظة شقيرية إلى خائن للسيادة الوطنية. وصارت الأغنية تصادَر على الحواجز الأمنية كمنشور سرّيّ يقضّ مضجع ذلك الحصير في القصر الجمهوري. ماذا فعلتُ أنا كي أُعتقل؟ لا شيء، كُنتُ أُغنّي ع العود أغنية "يا حيف" ع البرندا، مع أختي هذه التي تُطعمني التفاح.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك،
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب