مع صاحب كتاب
جذور السنديانة الحمراء

 

 

سُبحان مؤلف القلوب وواهب الأرواح الألفة والمودة، نعم، جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم، بأن: الأرواح جند مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وكلٌّ منّا يلوذ بمن يُحب. وكانت علاقتي مع الرفيق محمد دكروب -رحمه الله- من هذا النوع، فقد تابعته لأكثر من أربعين عاماً و قرأتُ له كل ما كتب تقريباً، ورأيته مرة واحدة فقط وجهاً لوجه، وتحدثنا يومها حديثاً قصيراً في المهرجان الاحتفالي الذي دعتْ إليه اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، وكلّ من الحزبين الشيوعيين السوري واللبناني، وأقيم في صالة الجلاء بدمشق يوم الجمعة 4/12/2009 احتفالاً بالذكرى الخامسة والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وقد كان الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم من ضيوف المهرجان.

شكّل هذا الاحتفال مناسبة هامة للشيوعيين وأصدقائهم لاستعادة ثقتهم بأنفسهم وبفكرهم وبعقيدتهم النضالية وبحزبهم الشيوعي، بعد سنين طويلة من الانكفاء والانغلاق والترهل والتراجع، وقد عبّر كثيرون بكلمات وجدانية خالصة عن انبعاث شعور كبير بالتفاؤل لديهم بعدما شهدوا زحف آلاف الشباب للمشاركة الفعّالة بالمهرجان، حاملين الرايات الحمراء.

كان النهار مشمساً، دافئاً، ونحن في كانون الأول/ديسمبر من الشتاء. وصلتْ الحافلة التي أقلتنا من إدلب إلى دمشق أبكر من غيرها القادمة من المحافظات السورية الأخرى-والخيرُ في البكور كما يُقال- انتشر الرفاق في الشمس على أرصفة حديقة صالة الجلاء الرياضية، تماماً كما كانت تفعل جدتي "زينب" مع قديدها، حيث تنشره في الشمس، فالشمس تُجفف القرع المفروم والباذنجان المحفور والتين والزبيب بألوانهما وأشكالهما المختلفة، وتجفف أيضاً، عصير دبس البندورة وقلائد البامية وقرون الفليفلة الحمراء والبصل والثوم. ولم تدرك جدتي أن الشمس كانت تصنع لأولادها الفيتامين "دال" اللازم لبناء العظام، ولكنها بالفطرة كانت تنشرهم في الشمس مع قديدها، فخرجوا إلى الحياة أصحاء البدن والروح.

رفيقي محمد دكروب كان صحيح الجسد والروح، على شاكلة أولاد جدتي، فعاش موفور الصحة، وروح الشباب تُرافقه حتى آخر يوم من حياته حيث فارقنا في 24أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 ولم تُكدره الحياة، فعاش متفائلاً على عكس الكثير من رفاقنا في الأحزاب الشيوعية. حين تستمع إليه وهو يحكي تشعر بذلك العمق الذي يميز الحكماء، وبتلك الجرأة التي تميز الشجعان، وبتلك السخرية الظريفة التي ميزته عن رفاق دربه.
قلتُ له بلهجة "إدلبية" فصيحة -نسبة إلى مدينتي إدلب في الشمال السوري_ وكان واقفاً في الشمس جنب الرفيق خالد حدادة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني:
أنا أعرفك يا رفيق محمد منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وأفتخر بهذه المعرفة.
حدَّق في وجهي ملياً، ثمَّ قال:
ع بتحكي عن جد؟
قلت: بكل تأكيد، ولكننا لم نلتق وجهاً لوجه إلا الساعة.
ابتسم ابتسامته المعهودة ومد يده مصافحاً ومسلّماً ومرحّباً بحرارة، فأضاءت شمس الشتاء وجهه فشعَّ كسراج في ليل بهيم. حكيتُ له بأنني أرسلتُ له مادة، أزعم بأنها جميلة، للنشر في مجلة "الطريق" عنوانها " كلام الفضَّة أغنى من سكوت الذهب" وسألته هل وصلت؟ قال: كلا، لم يمرق هذا العنوان الملفت للنظر أمامي، سأبحث عنه في بريدي الإلكتروني. سألني: من أين أنت؟ قلت: من مدينة إدلب في الشمال السوري. قال: هل تصلكم مجلة الطريق؟ قلت: "تقطيش" أحيناً تصل، وأحيناً أخرى تُصادرها الرقابة، لوجود مقال يؤرقها فتمنع توزيعها، فلا تصل إلينا، ولكن العدد الخاص الذي تحدث عن الرفيق الشهيد "مهدي عامل" وصلنا. عندي في مكتبتي بعض الأعداد المتفرقة على مرّ السنين. قلت له: كيفك أنت؟ قال: منيح. هل نشر رفيقي محمد دكروب وكان رئيساً لتحرير مجلة "الطريق" الذي يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني مقالي "كلام الفضَّة أغنى من سكوت الذهب" أنا لا أعرف، لأن مجلة "الطريق" توقفت عن الصدور ولم أجد لأعدادها توثيقاً إلكترونياً على الشبكة العنكبوتية.

ولا بد من طرح السؤال هنا: ما الذي ميّز رفيقي محمد دكروب عن غيره من الرفاق؟ في ظني رفيقي محمد دكروب من طينة شيوعيَّة مميزة وخاصة. وهل "طين" الشيوعية يختلف بين تربة وأخرى، وهل لكل تربة خواصها المميزة؟ نعم، أعتقد بأن الأمر كذلك فعلاً، فأنت لا تصنع "خابية" من رمل بحري بل تحتاج إلى طين غُضاري تصنعه الأنهار ويفيض على ضفافها فتجمعه وتذهب به إلى "الفاخورة" لتصنع منه ما تشاء من أوعية فخارية لأنه يقبل التّشكل بين أصابع الصانع الماهر. والمثل يقول: لولا الكاسورة ما عمرت الفاخورة، وهذا صحيح أيضاً.

هل كان رفيقي محمد دكروب شيوعياً جيداً؟ أزعم نعم، كان شيوعياً جيداً بكل تأكيد. تسأل: ما هو دليلك؟ يا سيدي خدني بحلمك سأعطيك الدليل على كلامي وإن أردت أُعطيتك العنوان أيضاً كي تصل إلى ما تُريد ولا تتوه في المفارق. خليك معي، ولكن قبل ذلك دعني أروي لك هذه الواقعة: في الأمس القريب شاهدت الروائي المصري الكبير خيري شلبي -رحمه الله كان أديباً فذَّاً على شاكلة إميل حبيبي وحسيب كيالي ويحيى حقي والطيب صالح—وفوق ذلك هو من طينتنا وينطبق عليه المثل: زيتنا في دقيقنا. شاهدته في لقاء متلفز يحدَّث حديثاً شجياً، كعادة النفوس الكبيرة في هذه الحياة قال: إنَّ على الإنسان في كفاحه من أجل أن يكتب رواية ناجحة أن يعمل أولاً قبل أن يكتب، أن يعيش الحياة بالطول والعرض كما يُقال، فتذكّرت رأساً رفيقي محمد دكروب الذي عمل حتى كلّ، عاش الحياة بكل ما فيها من فرح وترح، وتعلَّم من الناس الكثير حتى اكتمل وعيه المعرفي، فنضج باكراً، وأصبح شيوعياً جيداً، يعرف ما يقول مع أنه لم ينه تعليمه الابتدائي، بل التحق بدكان والده صغيراً، في صور، ليبيع الياسمين والترمس والحمص وأقراص الفلافل التي كان يحملها على رأسه، ثم عمل سمكرياً، قبل أن يجد طريقه إلى الكتابة، عصامياً شغوفاً بالكلمة والفكرة.

وقد تمّ تكريم رفيقي محمد دكروب في احتفال صالة الجلاء في دمشق وأُهدي سيفاً دمشقياً أصيلاً. وتساءلت حينها ما لهذا الشيخ والسيوف وقد بلغ من العمر الثمانين ولم يسأم، والسيف كما تعلمون يحتاج إلى سواعد فتية وقوية تحمله وتهزه في وجه الأعداء، والكاتب والمفكر والشيوعي رفيقي محمد دكروب يُحسن مسك القلم مش السيف.

جاء في الأخبار بأن رفيقي محمد دكروب ولد عام 1929 في مدينة صور على الساحل اللبناني وتلقى التعليم الابتدائي في المدرسة الجعفرية في المدينة نفسها، ثم ترك المدرسة قبل الشهادة الابتدائية بسنتين، ليلتحق بدكان والده. عمل سمكرياً، وتقلب في أشغال عدة، ودرس على نفسه، وامتهن الصحافة والكتابة، في جرائد ومجلات لبنانية وعربية عدة، في مقدمها "الطريق"، مجلة الحزب الشيوعي اللبناني التي عمل رئيساً لتحريرها، فكان خلال تلك الحقب المتلاحقة علامة فارقة في تاريخ النضال والمعرفة. ترك لنا قصص "الشارع الطويل"، و"جذور السنديانة الحمراء"، الرواية التسجيلية الوثائقية لحركة نشوء الحزب الشيوعي اللبناني وتطوره، و"دراسات في الإسلام" بالاشتراك مع حسين مروة ومحمود امين العالم وسمير سعد، وكتاباته النقدية في "الأدب الجديد والثورة"، و"شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة"، و"حسين مروة شهادات في فكره ونضاله"، و"قصة رواد يجارون العصر"، و"الذاكرة والأوراق"، و"النظرية والممارسة في فكر مهدي عامل" والعديد من المخطوطات التي تنتظر الأحوال المناسبة لنشرها في كُتب في بلد أهلكته الشدائد والمحن.