وللطاغية أحلام مدهشة


 

خلسة … يتسلل الموت الجبان إلى شرفة القلب، وبهدوء تام وأعصاب باردة كالمشرط يطعنه ويمضي.

تارة يكون على هيئة صديق، وتارة على هيئة رسالة الكترونية، ومرة على هيئة حمامة أو غصن زيتون، أو حبك لعبة ما في مؤتمرحزبي أو اجتماع مخابراتي، سري أو علني، داخل الوطن أو خارج حدوده.

الموت..
الموت المدجج بالرغبات والخطط الخائنة للتاريخ والذاكرة..
الموت الخائن الذي يأخد في النهاية شكل المقصلة أو المجزرة أو كتابة تقرير ما… وفي أحسن الحالات تخوينا وتشهيرا وتلفيقا، وفي أسوءها مسدسا كاتما للصوت.

هذا الموت .. يترصدنا في الوطن وفي المنافي، في احتجاجاتنا المعلنة وفي صمتنا الغاضب، في المطارات وحواجز التفتيش، في الشوارع والمعتقلات “الوطنية والقومية والاشتراكية والجماهيرية واليسارية واليمينية وما بين بين”، إلى ما هنالك من شعارات لا أحد يقدر على ابتداعها غيرنا نحن العرب “خير أمة أخرجت للناس”.
هذا الموت .. يترصدنا خلف أقلامنا وأوراقنا وقصائدنا وأوتار قيثارتنا.

إلا أن الولد المشاغب الذي اعتاد أن يدفع ضريبة حبه للحياة وتوقه إلى الحرية، يواجه الموت ولا يفر منه.يواجهه بقوة الحلم وعنفوان النشيد.. يواجهه في المدارس والقرى .. في المدن الكبيرة وفي زوايا الأزقة.. في عيون الأمهات المنتظرات عودة أحبة لن يعودوا أبدا.

هذا الولد الشقي يواجه الموت في دفاتر التلامذة وفي جدائل الطالبات.. يواجهه في السنين التي مضت والسنين الآتية إن قدر له أن يعيشها.
ولأنه يدافع عن حقه في الحياة وعن حريته المستلبه، فهو يطعن تارة في القلب وتارة في الظهر ومرارا في الذاكرة.
يطعن بخناجر الأعداء وبأيدي العملاء والمرتزقة، وأحيانا بخسة رفاق ..
أحيانا يطعن بخيانة صديق أو بغدر حبيبة.

الكل ينتظر منه أن يكف عن الحلم..
لكن نكاية بالكل يظل يحلم..

منذ عز الدين القسام وحتى وديع حداد وعمر القاسم مانديلا فلسطين .. ومنذ غسان كنفاني وحتى معروف سعد .. ومنذ كمال خير بك إلى غارسيا لوركا .. ومنذ فيكتور غارا وحتى ناجي العلي فالشيخ إمام….
ومنذ استعارة وليم شكسبير فكرة روميو وجولييت من تاريخ العشق العربي.
ومنذ مجزرة الدامور إلى مجزرة تل الزعتر، فمجازر البنية وعبيه وكفرمتى حتى مجزرة حلبا إلى إهانة أضرحة الشهداء في كفر رمان … ما زال الولد المشاغب يعيش محاصرا بين انكسارات عديدة وشاهدة ..وبين موت يمضي وآخر يجيء… يسيل حلمه على أرصفة المنافي .. لكن ذاكرته تبقى ندية .

ونكاية بالجميع يظل يحلم
يحلم .. ويحلم .. ويحلم .. وباتساع أحلامه تتسع المجازر وتمتد ساحات القتل.

ينظر حوله فلا يرى غير الخرائب
يرفع صوته فلا يعلو إلا الغدر أو المزايدات أو الصمت أواللهاث وراء سراب.
لكنه نكاية بالكل … يظل يحلم.

قد تنكسر أحلامه .. لكنه لا ينكسر
وقد ينكسر، لكنه نكاية بالكل لا يكف عن الحلم..

إنه الحلم … هذه اللعنة الجميلة المقدسة في وجه هذا العصر القبيح، سارق نار الآلهة وإكسير الحياة في صراعهما المستمر ضد الموت مهما تنوعت أشكاله وتعددت أساليبه.

تلك هي معجزة الولد .. وتلك هي قضية موته اليومي .. فما أبأس المراثي !!

ومثلما للولد المشاغب أحلامه، كذلك القاتل المرتزق المتلطي بثوب الثقافة، والذي يوافق على قضم قلوب الأطفال كما يقضم قطعة من الشوكولاتة، أحلامه المدهشة أيضا.

بكوفية الثوار المضحكة، ولحية تثير الغثيان ... أو بربطة عنق سينييه حمراء ولكن بروليتارية. أو… بيدين مثقلتين بالقتل المعنوي، وصدر طافح بالأحقاد، يتمدد طاغية ما، رخيص السعر والضمير، على عرشه الزائل قريبا ويحلم.

يحلم بدولارات قليلة، أو بنظرة من رجل مخابرات ما، حتى ولو كان ثمن تلك النظرة لعق نعل وبيع ضمير.
يحلم بأن تتحول الأشجار إلى هراوات والعصافير إلى جلاوزة، ورسائل الحب إلى عبوات ناسفة، والمدارس إلى معتقلات، والقصائد إلى أحذية، ودور السينما إلى قاعات محكمة ... وتجريم كلمة “لا” كونها تخالف الوصايا العشر الماركسية أو القومية أو الناصرية.

يحلم المتثاقف المرتزق بقصور وجماجم وشعوب وفتية متحمسون يمجدون مغامراته الخاسرة ليل نهار، لكنها تزيد من أرصدته في البنوك.
يحلم في يوم تكون فيه الخيانة انتصارا، والغدر شجاعة، والدسائس بطولة.

وبين حلم المتثاقف المرتزق الرخيص وحلم الولد المشاغب تبرز قيمة أن تكون مع الحياة أو مع الذين يتسابقون إلى قطف زهرتها وسحقها بأحذيتهم ومسدساتهم اللامعة وجلسات السمر في أوكار التحشيش في أفخم الأوتيلات.

بين الخائن المهووس دوما بالدفاع عن أحلامه الخاصة ومشاريعه الرخيصة حتى الرمق الأخير، والولد الذي يدافع عن حلم، تبرز قيمة أن تنحني وتذل، أو أن تتمسك بالحلم.

واحد هو الخائن والعميل، المرتق والمتسلق والانتهازي، أيا كان دينه ومعتقده وحزبه ولون الباسبور الذي يحمله، لكن أشباهه يتماهون فيه ويتقمصونه. لذا فهم يتكاثرون تكاثر الذباب .. ويتبارون في إثبات مهاراتهم في إطلاق المكائد وكتابة التقارير، وإن اختلفت الأدوار بين واحد وآخر وتعددت الأساليب والأشكال.

من هنا، فإن المعركة قاسية ومريرة بين الولد وبينهم .. قاسية لأنها معركة أن تكون جديرا بالحياة أو لا تكون.

فسلاما لمن يمنحوننا القدرة على الحلم.
سلاما لمغتالي أحلامنا وأقلامنا وأغانينا، الذين يمنحوننا القدرة على تجاوز مدارات الموت.. مهما امتد وطال