سمير أمين ..
المنتج للتمرد

 

هيفاء أحمد الجندي

سورية

أولا: لا أُخفي القارئ سراً، أن الكتابة عن سمير أمين تحدٍّ يطال مستويات عدَّة. المستوى الأول: أن تلمّ بمختلف جوانب مشروعه الفكري القديم ـ الجديد، وأن تكون قادراً على محاورته، مجادلته والاختلاف معه رغماً عن التوحُّد الفكري الذي يجمعك به،وألا يمنعك هذا بعد معرفة ولو متواضعة بفكره؛ أن تبقى لذَّة الحب حاضرة عند تناول كتبه وكأنك تقرأه وتحتضن كتابه للمرة الأولى، إنها دهشة دائمة.

هو مفكَّرٌ متطلِّب، بمعنى أنه يدفع قارئه إلى إعمال العقل والتفكير والتزوُّد بمعارف متعددة، وهذا ليس بغريب عن مفكر يستحق وبجدارة لقب الماركسي النقدي المجدد والتجديدي.

إنَّ استحضاره، والكتابة عن فكره، هذه الأيام، أكثر من ضرورة وهامة لأن صحفنا ومجلاتنا لم تحتفل وتحتفي به كما يجب، سيما وانه كُفِّر سابقاً، من قبل "كهنوت" اليسار الجامد وبعض شخصياته القيادية واللامعة، لأنه لم يرَ بالتجربة السوفييتية أكثر من (رأسمالية دولة) وإدارة دولتية للمجتمع، وستصل ذات يوم حدودها التاريخية، وتنقلب إلى رأسمالية برأسماليين.. وهو يُدان أيضاً من قبل جماعات "اليسار الجديد" لأنه ما يزال يتمسَّك بحلمه الاشتراكي كبديل عالمي، إنساني يحمل الخلاص للشعوب في الشمال كما في الجنوب.

جديّته، كمفكِّر نقدي، وكمغاير عن السائد من المفكرين والمثقفين، أنه لم يتعامل مع النص الماركسي بعقل فقهي، ميتافيزيقي وانتهازي، إنما اعتبر الماركسية بناءً غير مكتمل فرأى أن المطلوب اتخاذ موقف نقدي إزاء الأطروحات التي افترضتها الماركسية وذلك على ضوء المنهج الماركسي عينه، وما علينا إلاَّ التحرر من الدوغمائية التي جمَّدت الأطروحات وحوَّلتها إلى حقائق مطلقة ونهائية بسبب الكسل الذهني الذي يُحلُّ التجمُّد الفكري في قراءة النصوص محل المجهود المستمر لتطوير النظرية، ولا يمكن تعميم ما توصَّل إليه ماركس على كل زمان ومكان وإنما كل مرحلة تاريخية لها خصوصيَّتها وتفرز تناقضاتها وصراعاتها وتحوُّلات قواها.
عن أطروحته حول:

"نمط الإنتاج الخراجي"


هذا الرأي الجريء، أغضب بعض الذين كانوا وما زالوا يتعاملون مع النظرية بصنمية وقدسية مما دفع البعض إلى أن ينقلب مع الانقلابات ويتحوَّل عند التحولات، على العكس من تماسك سمير أمين الفكري ونقديَّته المستمدة من وفائه للمنهج المادي ـ الجدلي و"خيانته" للنص هذه الخيانة وهذا الوفاء ، جعلاه يطلق على جميع أشكال الإنتاج في المجتمعات الطبقية السابقة على الرأسمالية ما سًمِّي (بنمط الإنتاج الخراجي)، حيث المستوى الأيديولوجي هو المهيمن في هذه المجتمعات واستخراج الفائض خاضع لهيمنة البنية الفوقية حيث السلطة هي التي تتحكَّم بالثروة على عكس المجتمعات الراسمالية حيث الثروة هي التي تتحكم بالسلطة.

والأيديولوحيا المهيمنة في هذه المجتعمات هي الميتافيزيقيا التي تعطي شرعية لهذا الوضع من خلال اعتمادها على احترام المقدس، وهذا ما يفسِّر الشفافية في مجالات عدم التكافؤ في توزيع الثروة والسلطة. لم يكتفِ سمير أمين فيما بعد بمفهوم (نمط الإنتاج الخراجي) الذي ينقض من خلاله الأطروحة الثقافوية الأوروبية التمركز، والتي ترى أن هناك تعارضاً بين التتابع (عبودية ـ إقطاع ـ رأسمالية) الخاص بالغرب، والمنفتح على التقدم اللاحق، ودوران نمط الإنتاج الآسيوي الذي سدَّ باب التقدم، بل قدَّم نظريته المعروفة حول (النمو والتطور اللامتكافئ) حيث أن مرحلة معيَّنة من التطور تبدأ عادة من أطراف النظام "الأطراف المتخلِّفة" بالمقارنة مع المراكز المتطورة، لأن الأطراف تتمتع بمرونة يندر أن تنواجد في المراكز المتقدمة والمتجمدة. وحتى الأيديولوجيا الخراجية تتخذ أيضاً شكلاً مكتملاً في المراكز وغير مكتمل في الأطراف مثل الصين حيث المجتمع الخراجي المكتمل تجمد وتخلَّف بينما الياباني الطرفي، المتأخر والأقل نمواً أنجز القفزة إلى الراسمالية.

التطور اللامتكافئ يفسّر ظاهرتين اثنتين وهما:

أ ـ ظاهرة إنجاز القفزة الكيفية من النظام السابق إلى الراسمالية في الأطراف الأوروبية الإقطاعية.
ب ـ ظاهرة الثورة ضد مقتضيات التوسع الراسمالي التي فتحت مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية والتي بدأت من أطراف المنظومة الرأسمالية.

هذا التطور لا يقتصر على مجال دراسة اشكال نمط الإنتاج ومميزات البناء التحتي بل يشمل تأملات حول البناء الفوقي، ولذلك توقف المجتمع العربي في تطوره عن المجتمع الأوروبي، وهذا لا يعود إلى سمات خاصة بالعقائد الدينية، على الرغم من إقرار أمين بمرونة بعض الأديان، وقابليَّتها للتكيُّف والتطور، إنما هذه المجتمعات بحاجة إلى النضال من أجل تقدم الأوضاع الاجتماعية من جانب، وإلى التحدي على جبهة الفكر والتي تزداد تعقيداً بتنامي المدّ السلفي والصحوة الإسلامية التي تغزو العالم العربي، وهؤلاء يصرّون على خطابهم الثقافوي الذي يتلاقى ولا يتعارض مع نظرية الثقافة الأوروبيّة التمركز القائمة على التباين (غرب/ شرق) وأن كل مجتمع له خصوصياته الثابتة! وهذا يذكَّرنا بالمستشرقين الذين اعتبروا أن تفوُّق الغرب هو ناتج خصوصياته الأصلية.

ويُعتبر إدوار سعيد واحداً من المفكرين الذين قدَّموا نقداً لنظرية الثقافة الأوروبية. لكنه لم يطرح بديلاً عالمي الطابع ليحلَّ محل الرؤية الأوروبية، بل اكتفى بإبراز عناصر التشوه على أنه سمة دائمة في الثقافة الغربية. مما دفع سمير أمين ومعه صادق جلال العظم لمحاورته والاختلاف معه وليعلنا أنها وحدها الماركسية اكتشفت طبيعة النظام الحقيقية وفكَّت رموز الرأسمالية.

في نقد بيروقراطية الدولة السوفياتية


أولى ملاحظات سمير أمين النقدية التي وجهها للماركسية التاريخية "المبتذلة" على حد تعبيره " أنها تواطأت ووقعت في فخ التفسير الأوروبي التمركز (عبودية/ إقطاع/ رأسمالية) والطريق الاسيوي الذي جمد التطور" وهذا التواطؤ من قبل الماركسية التاريخية كان نتاجاً للتحولات التي طالت الدولة السوفييتية البيروقراطية التي مهَّدت الطريق للديكتاتورية التعسفيّة باسم البروليتاريا ولانفراط التحالف الشعبي العمالي ـ الفلاحي، وأصبحت الدولة غير ديمقراطية مما شجَّع تبلور الطبقة الجديدة "البيروتكنوقراطية" التي انفردت في صنع القرار، وقتها قام النظام بترويج صورة مبتذلة للماركسية مفادها أن الدولة السوفياتية أنجزت فعلاً أهداف الاشتراكية في الوقت الذي يجري فيه استغلال الفلاحين ضمن إطار التعاونيات التي تديرها الدولة.

ولذلك فإن الأحزاب الشيوعية آنذاك، والتي كانت تعيش حالة من التبعية المطلقة والذيلية للأم الحنون "الدولة السوفياتية"، هاجمت سمير أمين على كشفه وجرأته وتحليله للنموذج السوفياتي.. ولن نقول أن التاريخ أثبت صحة وجهة نظره وإنما أثبت فهمه العميق للمرجعية الفكرية وتألُّق منهجه الماركسي (المادي ـ الجدلي) اللذان أوصلاه إلى هذه الاستنتاجات الهامّة والعميقة في سياق عرض مكامن التجديد في فكر سمير أمين وملاحظاته النقدية على الماركسية التاريخية والأحزاب الشيوعية.

في هذا السياق لا يمكن أن نتخطَّى ونتجاوز ما ابتدعه مهدي عامل بخصوص (نمط الإنتاج الكولونيالي). إذ لم يمنعه التزامه الحزبي وإعلائه من شأن الفكر ونصوصيَّته الناتجة عن صرامة منظومته الفكرية، أن يغفل التناقضات ويدير ظهره لخصوصية التركيبة اللبنانية والبناء الاقتصادي ـ الاجتماعي لها، وذلك في معرض تحدُّثه عن الشروط التاريخية لتكوُّن الرأسمالية في لبنان بمعنى أن الشروط التاريخية التي تحقَّقت فيها عملية تكوُّن الراسمالية في لبنان (طور التكوُّن) هي الشروط التي دخلت فيها الرأسمالية كنظام عالمي وكنمط مسيطر في طور أزمتها. والمأساة في لبنان أن الرأسمالية فيه لم تعرف الطور الصاعد بل عرفت طوراً واحداً وهو طور أزمتها بدخولها في طور تكوينها، فكان هذا الطور هو طور الأزمة وبنيتها أزموية وتطورها ملجوماً، ولذلك كانت (راسمالية كولونيالية).

في تحولات ظاهرة "الاستقطاب"


وبالعودة إلى موضوعات الدكتور أمين التجديدية والتي تجلَّت بتحليله وتناوله لظاهرة (الاستقطاب)، والتي تُعتبر من أهم تناقضات الرأسمالية الملازمة لها منذ اكتمال شكلها وتتمظهر بالفجوة بين البلدان الراسمالية وبلدان العالم الثالث، وتزايدت هذه الفجوة بعد انهيار المنظومة المسمّاة اشتراكية وتراجع وتآكل دول الرفاه مما ساهم في تفاقم التفاوت على صعيد إنتاجية العمل ومستويات المعيشة، فكانت الفوضى المطلقة واتخاذ (الاستقطاب) أشكالاً جديدة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تناول سمير أمين ظاهرة (الاستقطاب) التي ميزت طرحه عن "طروحات" الماركسية التاريخية؟

يعتبر الدكتور أمين أن الاستقطاب ناتج عن ممارسة "قانون القيمة" على الصعيد العالمي، ولكن أي قانون للقيمة؟ .. هنا يميز أمين بين (قانون القيمة) المجرد والعام والذي يحدد الراسمالية كأسلوب إنتاج و(قانون القيمة المعولم) الذي يعطي للرأسمالية شكلها الملموس والمترافق مع انتشارها العالمي. والفرق بين الإثنين: الأول، أي المجرَّد، يقوم على اندماج السوق بكل أبعاده (سوق منتجات العمل الاجتماعي، وسوق الرساميل، وسوق العمل) أما (المعولم) فهو مبتور ومجتزأ في السوق العالمية لأنه يستبعد (قوة العمل) وبالتالي يلجأ (قانون القيمة المعولم) إلى تفتيت نظام الإنتاج في الأطراف وتعزيز التبعية وإعادة إنتاج الأشكال المشوهة والقديمة والخاضعة لمنطق التراكم. ويعتبر هذا القانون تعبيراً مكثفاً عن هذه الشروط التي تعطِّل تصنيع الأطراف وتبخس العمل المشيَّأ في منتوجاتها، في حين أنها تبالغ في تثمين القيمة المضافة المرتبطة بنشاطات الاحتكارات الجديدة لمصلحة المراكز، فهي تنتج تراتبية جديدة في توزيع الدخل على المستوى العالمي الأكثر تفاوتاً من الماضي وتُخضع صناعات الأطراف وتحولها إلى نشاطات من الدرجة الثانية.

والمعروف أن أجر العامل يتساوى عند تساوي الإنتاجية. أما (قانون القيمة المعولم) فهو يحقِّق أجوراً غير متساوية عند تساوي الإنتاجية، في حين أن أسعار المنتجات وربح رأس المال يتجها نحو التساوي على المستوى العالمي ونتيجة لهذه الأوضاع ينتج (الاستقطاب).

لم تتوقف اجتهادات سمير أمين هنا، بل كان له الفضل والريادة في التمييز بين الراسمالية القائمة بالفعل والرأسمالية الخيالية التي تتحكَّم فيها قوانين اقتصادية محضة مثل: (السوق ذاتي التضبيط والأسواق الغير مقننة، السوق يدير نفسه بنفسه ويحقق التوازن الدائم). أما الرأسمالية القائمة بالفعل، فلا يمكن الفصل بين صراع الطبقات (السياسة ـ الدولة) ومنطق التراكم الرأسمالي، لأنَّ الرأسمالية نظام تتكرر فيه حالات الاختلال بسبب المواجهات الاجتماعية السياسية التي تكمن فيما وراء السوق، وحتى التنافس بين رؤوس الأموال فهو يلغي إمكانية تحقيق توازن عام. إذاً، لا يمكن قيام الراسمالية خارج إطار صراع الطبقات أو الصراع بين الدول، وما يبرهن على ذلك، الأزمة المالية التي عصفت بالعالم والتي دفعت بالدول إلى التدخل لإدارة الأزمة واستلهام "كينز" دون "سميث"، و"كينز" المعروف بنقده للراسمالية دون الاهتمام بطبيعتها ولا بالاستقطاب والاستلاب الاقتصادي اللذان تولداه، إنما كان اهتمامه منصباًُ على إدارة النظام لتجاوز الأزمات وإحدى مخارجه لإدارة الأزمة: دفع الدول للإتفاق العام كحلِ لفيض الإنتاج عدا عن اقتراحه تضبيط الأسواق.

بعد اكتشاف أمين لقانون القيمة المعولم المولِّد للاستقطاب، تعود الماركسية التاريخية وتعاود مطباتها النظرية، وتحديداً عندما فسَّرت انتشار الرأسمالية كمرادف لتوسُّع أسلوب الإنتاج الرأسمالي ومغفلة دور قانون القيمة المعولم المولِّد للاستقطاب والذي يتم تفسيره بقوانين التراكم الرأسمالي وليس بمقاومة الواقع السياسي والثقافي لهذا التراكم، وبذلك تكون، أي الماركسية التاريخية، وقد قبلت الفكرة وفسٍّرتها بفرضية منافية لما هو اقتصادي ليأتي الأمر وكأنه انتصار لمقاومة ما هو سياسي أو ثقافي

وبما أن التراكم عن طريق النهب، يتطلَّب حروباً دائمة لإخضاع شعوب التخوم والتي بدأت، ولن تنتهي، بالاحتلال الأميركي للعراق، وتزامناً مع هذا الحدث، انبرى بعض الليبراليين العرب الذين غادروا مواقعهم الماركسية، لأنهم ناطقون بالماركسية وبالليبرالية زوراً وبهتاناً، ويتطابق ذلك مع الوعي الزائف، الانتهازي المهووس بالوصول، حينها بدأوا يمطروننا بشتى النظريات والوصفات السحرية والكلية القدرة لإخراج المجتمعات العربية من تخلُّفها ومواتها التاريخي، وأهم هذه الوصفات أن الليبرالية السياسية رفيقة درب الليبرالية الاقتصادية، أما الديمقراطية فلا تعدو كونها مسألة سياسوية لمقارعة الاستبداد. والبعض الاخر وتحت مسمى التجديد والاجتهاد، بدأ يستلهم من قيم الثورة الفرنسية والحداثة الأوروبية، وهذا ما يفسر إعلائهم لقيمة الحرية دون المساواة وهم يدركون أن الحداثة مرتبطة بصعود الراسمالية في الغرب، وإنها قامت في البداية على الفصل بين المجال السياسي والاقتصادي. ولوقت ليس بالبعيد، كان الاقتراع حكراً على الذين ينعمون بملكة العقل أي الأغنياء دون الفقراء والرجال دون النساء.

وسط هذه الفوضى من الآراء والطروحات الأقرب إلى التعميم والاختزال من جانب، والضبابية الفكرية من جانب آخر، كان لسمير أمين رأي واجتهاد بما يخص الديمقراطية ميَّزته عن رفاقه النيو نقديين والنيوتجديديين، ومن موقعه النقدي هذا ابتدع ما اسماه: (الديمقراطية المنخفضة التوتر). وتعني هذه المقولة أن المرء يقترع لمن يشاء والجميع متساوون أمام صندوق الاقتراع! ولكن ضمن ظروف السوق الناشئة يبدأ التفاوت لأن الديمقراطية خاضعة لمتطلبات الراسمالية المتوحشة والليبرالية الاقتصادية التي هي عدو الديمقراطية، وعندما تُطرح ببعدها السياسي تُفرغ من مضمونها الحقيقي إذ لا منجزات ديمقراطية، ولا ديمقراطية سياسية دون تقدم اجتماعي، وعندما تطرح ببعدها السياسوي أيضاً تقدم أكبر خدمة لقوى ثلاث: (النيولبراليون ـ المستبدون ـ والسلفيون) لأن عددهم واحد وهو: الطبقات الشعبية.

إذاً، الديمقراطية الحقيقية وغير الزائفة، تبدأ بالاعتراف بحقوق الطبقات الشعبية والمضطهدة.. وأن التنكر لمصالح الشعوب، كما اسلفنا، ليس حكراً على أمريكا وإنما تشاركها في هذا التنكر الأنظمة الكومبرادورية والتي تقتصر وظيفتها على إدارة السوق، وتحديداً في ظل تعميق العولمة الاقتصادية والتي تتزامن وتترافق مع تفتيت الدول والدول ـ الوكالات إلى اشكال ما قبل دولتية، لأن الممارسات التفتيتية والإحساس بالتضامن الإثني ـ القبلي يفرغ الديمقراطية ويجعلها عاجزة أمام آليات السوق. بهذا الخصوص، فإنَّ سمير أمين لا يقف موقف الضد والرافض للحداثة وهو الذي اعتبرها انقلاباً فكرياً وسياسياً وأيديولوجياً، وجعلت من الإنسان صانع تاريخه، ولكنه يقترح تطويرها كي تساهم الشعوب وتشارك في صياغتها وصياغة قيم عالمية ـ إنسانية مرتبطة حتماً بتجاوز الهيمنة الرأسمالية.

وأمام انسداد الآفاق وقتامة الواقع يستعين سمير أمين بالإرادة المتفائلة للماركسي الإيطالي غرامشي، ولكن ما الذي يمكن أن تبثّه هذه الإرادة المتفائلة أمام تحالف رأس المال المعولم والممثل بالهيمنة الأمريكية ومن ورائها المراكز الرأسمالية والأنظمة الكومبرادورية والإسلام السياسي متشابكة مع بعضها البعض. وبالرغم من تبايناتها وتناقضاتها الثانوية يبقى هدفها واحداً ووحيداً وهو خنق وحصار قوى التغيير الحقيقية: "البديل الوطني التقدمي" الذي يمكن أن يساهم، إن وجد، في تعديل ميزان القوى ليفرض خياراته.

ثانيا: تناول القسم الأول من هذا المقال جوانب من مفاهيم سمير أمين حول "نمط الإنتاج الخراجي وظاهرة "الاستقطاب" في النظام الرأسمالي، وكشفه تشوُّهات "الماركسية المبتذلة" التي تبرر بيروقراطية "الدولة السوفياتية"، وتطلّعه إلى تكوُّن "البديل الوطني التقدمي" ـ هنا القسم الأخير من المقال: رؤية نقدية لمفهوم: "البديل الوطني التقدمي

إنَّ التفاؤل المفرط عند سمير أمين، بما يخص "البديل الوطني التقدمي" يوقعه في الرغبوية والإرادوية، وهذه الإرادوية ناتجة عن إيمانه العميق، النبيل والأصيل، بالشعوب والطبقات الشعبية. وهنا نجدها فرصة لعرض اجتهادات وقراءات سمير أمين، وكذلك للخوض في عرض نقائص وأخطاء الأشكال والمشاريع السابقة التي صاغها، حيث نرى أن سمير أمين سيحاور سمير أمين من المنطق ذاته، ولا يُعتبر هذا هرباً من ادعاء اختلاق الاختلاف معه وإنما لكشف بعض التناقضات.

وحول مسألة الانتقال الطويل إلى الاشتراكية العالمية والاستراتيجيات البديلة للقرن الحادي والعشرين يقترح أمين التالي:

أ - تتمازج خلال هذه المرحلة منظومات اجتماعية ـ اقتصادية ـ سياسية ناتجة عن الصراعات الاجتماعية لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي وعناصر تطور اشتراكية ـ منطقتان متنازعتان ـ في مزيج وتناقض دائمين.
ب - الإنجازات على هذا الطريق ممكنة وضرورية في كل مناطق النظام الرأسمالي العالمي في مراكزه الإمبريالية كما في أطرافه.
ج - هناك قوى اجتماعية ـ ايديولوجية ـ سياسية تُعبِّر من خلالها المصالح الشعبية عن نفسها ولو في حالة من الغموض، بدأت تفعل في هذه الاتجاهات، إلاَّ أنَّ هذه الحركات تقطّر خيارات مختلفة بعضها تقدمي وأخرى حاملة أوهام رجعيّة مثل الإجابات شبه الفاشية على التحديات.
د - تشكل ضحايا التوسع الرأسمالي أكثرية في كل مناطق العالم، وعلى الاشتراكية أن تكون قادرة على تجنيد هذه الفرصة التاريخية وهي لا تستطيع ذلك إلاَّ إذا أخذت في الاعتبار التحولات الناتجة عن الثورات التكنولوجية التي غيَّرت في العمق هندسة البنى الاجتماعية. ويجب على الشيوعية ألاَّ تظلّ علم الطبقة العاملة الصناعية بالمعنى القديم للكلمة لأنها تستطيع أن تصبح راية المستقبل لأكثريات واسعة من العاملين من يتمتع منهم بوضعية مستقرة في النظام ومن هم مستبعدون، وهذا يشكل تحدياً رئيسياً للفكر الإبداعي للتجديد الشيوعي.

وللخروج من المأزق نحو نظرية للثقافة عالمية الآفاق ومن الاستقطاب ومن التشوّه الأوروبيِّ التمركز وأيديولوجيات الرفض باسم الخصوصية، لا بد من التفكير بالاشتراكية التي تستند إلى التحرر من الاستلاب الاقتصادي ومطورة للديمقراطية وذلك عبر التصدي لتحديات ثلاث:

أ - تحدي السوق عبر تأطيره ووضعه في خدمة إعادة إنتاج اجتماعي يؤمن بالتقدم الاجتماعي ويتم تحقيق أكبر قدر من المساواة.
ب - تحدي الديمقراطية وهذا لا يعني رفض الديمقراطية الحديثة واستبدالها بشعبوية سلطوية بل يتعلق الأمر بتعزيز ديمقراطية سياسية وتطوير الحقوق الاجتماعية وتحكُّم الطبقات الشعبية في إدارة الاقتصاد.
ج - تحدي الاقتصاد المعولم عبر القدرة على تحديد مساحة الهامش لإنماء سياسات مستقلة ذاتياً للتنمية الوطنية ـ الشعبية وقلب علاقة الداخل / الخارج لصالح الداخل.  

ولكن: من يبني الاشتراكية؟


من الواضح وبعد عرض أهم قراءات أمين، يمكننا الاستنتاج بأنه يرسم استراتيجيات للانتقال دون تحديد فعلي وواقعي للقوى الاجتماعية القادرة والمعنية ببناء الاشتراكية، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنَّ أمين يرسم استراتيجياته وكأنَّ الاشتراكية قد تمَّ إنجازها وتحقُّقها واقعياً، في الوقت الذي تجابه فيه بعقبات أشد فتكاً وضراوةً. فليبدأ الحوار مع ذاته ومع تعليقات لنا على فكرة هنا أو فكرة هنا.

خلال هذه المرحلة ستكون الغلبة لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي، وهذا بديهي بالنسبة لسمير أمين، وبالنسبة لنا أيضاً، في ظل غياب القوى الاجتماعية أي قوى التغيير ممثلة بالقوى التقدمية الديمقراطية، لأسباب تتعلق بالهيمنة الأمريكية وذيليّة البلدان الأوروبية للمشروع الأمريكي ولديهم طبعاً المؤسسات والهيئات المجندة لخدمتهم ومراكز الفكر التي تخترع الموضات، والهدف هو ضمان استمرار النهب خدمة للتراكم وضرب أي محاولة لتنمية مستقلة عدا عن التحالف مع الطبقات القائدة في العالم الثالث، وهذه قادرة على احتواء وقمع الانفجارات الشعبية المحتملة لأن مصلحة هذه النظمة تكمن بصداقتها وتحالفها مع الرأسمالية المسيطرة عالمياً بالرغم من الخطاب العروبي والقومي الذي نسمعه من هنا وهناك، ولكنها جميعها تعمل على إلحاق شعوبها وليس لديها الاتساق الاجتماعي ـ الإيديولوجي ولا الثبات السياسي الكافي ولا القدرة الاقتصادية ـ السياسية التي تؤهلها لمواجهة هذه الاستراتيجية باستراتيجية لها طابع الاستقلالية الخاصة. تبلور قوى تغيير حقيقية مرتبطة بفك الارتباط مع الرأسمالية أي مرتبطة بالتناقض الأساسي. ولكن ما نشهده هو التعمق في الاندماج العالمي وبالتالي اشتداد التبعية، وما يبرهن على ذلك هو البدء بتطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية وتحرير الأسواق، وبذلك تقدم أكبر خدمة للجماهير الشعبية المعنية بالتحرير والتغيير والمقاومة عبر تحريرها اقتصادياً. والميل الوطني لبعض الأنطمة بما يتعلق بتحسين وضعها وتعديل شروط تنميتها وقواعد التوزيع العالمي للعمل في صالحها.

ومن بين العقبات التي تقف حائلاً بوجه تبلور بديل معني بالتغيير هو تنامي تيار الإسلام السياسي الذي يتواطأ مع الاستعمار الجديد "النيوكولونيالية" ويسهِّل مهماته ويعطيه الحجج والذرائع، لأن الإثنان ينقلان الصراع إلى سماوات الأوهام الثقافوية وهذا يفيد استراتيجيا الاستعمار عدا عن التهميش المتزايد ـ الإفقار ـ القمع ـ فشل التنمية وانعدام الحرية والديمقراطية وغياب الدولة الوطنية، هذه الأسباب مجتمعة، دفعت بالحركات الإسلامية إلى الظهور بقوة وأثبتت قدراتها على استقطاب جمهور المهمَّشين الجدد أكثر من قوى اليسار التي يطالبها سمير أمين باستثمار هذه الفرصة التاريخية، أي استقطاب ضحايا التوسع الراسمالي، ولكن ضعف اليسار وتراجعه والفراغ الذي أحدثه فتح الطريق أمام الإسلام السياسي، وبالمناسبة قلَّما نجد تحليلاً منهجياً يطال اسباب تنامي هذه الظاهرة، وأغلب كتَّاب الفكر السياسي يقعون في فخ التوصيف والوصفات الفكرية المعلَّبة وتلتبس عليهم التناقضات ليصبح العدو الأوحد والأكبر هو الحركات السلفية والحل لمواجهة هذه الحركات هو ببناء دولة مدنية علمانية، وبذلك تبرّأ الأنظمة العربية وتحديداً أنظمة الريع العربي والبترودولار، والإمبريالية المريكية، اللتان تعملان على دعم هذه الحركات، لحصار قوى اليسار التي تقرن التحرير السياسي بالتغيير الاجتماعي. وبالمحصلة فإنَّ الحركات الإسلامية، لا تعدو كونها ردّ فعل رجعي وحل طوباوي لا أكثر، لأنها تدير ظهرها للمطالب الشعبية ولا تملك برنامجاً وإجابات للمشاكل الاقتصادية ـ الاجتماعية، برنامجها الدائم والوحيد هو: "الإسلام هو الحل"، في الوقت الذي تمتنع فيه عن نقد الوضع الكومبرادوري للاقتصاد وتعوِّض عن نقصها بطرح "بديل حقيقي" بالخطاب الأخلاقي العام والمائع، وبخطاب ثقافوي يبالغ في الحديث عن الهوية وفلكلور العودة إلى الاهتمام باللغة العربية وما هو تقليدي في التراث، وما إلى ذلك.

وفي رأينا أن القوى القادرة على صياغة وطرح مشروع مجتمعي ينشد التغيير لصالح الطبقات الشعبية هي: قوى اليسار. ولكن أي دور يمكن أن يلعبه اليسار هذه الأيام وفي هذه الظروف ؟ .. وهل هو قادر على جذب جموع المهمَّشين ووصل ما انقطع مع الجمهور، مستفيداً من أخطاء الماضي؟!  

عن اليسار ودور اليسار بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة


أعتقد أن الكلام عن اليسار ودور اليسار وهمومه ما يدعو إلى كثير من التشاؤم وليس إلى التفاؤل، على طريقة مفكِّرنا سمير أمين!. هذا اليسار الذي يعيد تحالفات الأمس ببقائه جناحاً للأنظمة العربية، مما يذكِّرنا بالملاحظات النقدية التي وجَّهها سمير أمين للأحزاب الشيوعية فترة حكم الأنظمة الشعبوية الوطنية، هذه الأحزاب التي لم تخرج آنذاك عن الإطار الأساسي للمشروع القومي الشعبوي، متجاهلة أنَّ هذا المشروع يندرج ضمن رأسمالية صرفة، إضافة إلى جهل هذه الأحزاب بالطبقات الشعبية التي كانت مدعوة للدفاع عن مصالحها... ولم تقترح هذه الأحزاب بديلاً يتجاوز هذه الشعبوية القومية!. فما أن بلغت الأنظمة القومية حدودها التاريخية حتى فقد الشيوعيون مصداقيَّتهم. وهذا يحيلنا إلى الوضع الراهن لليسار حيث يزداد سوءاً ويعاني من الأمراض التاريخية نفسها، ويعيد إنتاج التحالفات نفسها، متواطئاً بين الحين والآخر، مع الخطاب الرسمي العربي، إضافة إلى التهتك الذي ينخر بنيته والترهُّل والعجز عن إنتاج ما هو جديد، في الرؤى والمواقف، على مختلف الأصعدة.  

الصين الرأسمالية والابتعاد عن الاشتراكية


وبمثابة جسر وصول لبناء عالم متعدد الأقطاب يُفضي إلى الاشتراكية فيما بعد، يعقد أمين آماله على التقارب الروسي ـ الصيني ـ الآسيوي، لتعديل موازين القوى كمقدمة لإلحاق الهزيمة بالمشروع الإمبريالي الأميركي..وقتها تتوفَّر الإمكانية لتبلور بديل تقدمي ـ يساري ـ شعبي، تحديداً في أوروبا، مرتكزاً على مقولته الرائجة: إما أن تكون أوروبا يسارية أو لا تكون.

سنبدأ بالصين، سيَّما وأننا لا نملك معلومات موثقة إلاَّ من خلال قراءة سمير أمين لها، هذه القراءة إما أن تدبّ التفاؤل فينا أو تجعلنا نتحفَّظ، وهو الأدرى بتحولاتها الاقتصادية والسياسية.

فبعد دراسة مطوَّلة له عن الصين، وعرضه نقاط الضعف والقوة، يخلص أمين إلى أنها تتجه نحو الراسمالية، وبذلك تكون اشتراكية الصين مجرد طريق مختصر نحو بناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها في ظلّ التحالفات التي تجمع سلطة الدولة والطبقة الجديدة من كبار الراسماليين من القطاع الخاص، والفلاحين الذين زاد ثراؤهم، والطبقات الوسطى المزدهرة، على الرغم من أن (الحزب ـ الدولة) ما زال يحتفظ باسم "الحزب الشيوعي": فالذين يديرون الشؤون الاقتصادية يتَّجهون نحو اليمين، والذين يمارسون السلطة السياسية يعتبرون أمريكا العدو الأكبر!...

إذاً، فالاختيار الراسمالي للصين بدأت معالمه تتضح بقبول الحزب إحلال الملكية الخاصة محل الملكية الجماعية، على الرغم من أن الرأسمالية غير قادرة على حلّ المشكلة الزراعية لأن توسُّع رأس المال في الزراعة هو تدمير لمجتمعات بكاملها، وحلّ المشكلة الزراعية يقتضي بالتأكيد تجاوز الرأسمالية. ويؤكِّد أمين أنَّ البرجوازية الصينية لا تقلّ ابتذالاً عن البرجوازية العربية على الرغم من أن الثورة نقلت الصين إلى الحداثة. إنَّ تفاؤل أمين بما يخص الصين ناتج عن ثقته بالطبقات الشعبية التي تتمسَّك بقيم الاشتراكية وقيم الثورة، لأنها تعرف كيف تناضل لانتزاع حقوقها. ولكن: هل الطبقات الشعبية قادرة أن تفرض على الطبقات الحاكمة الصينية تنازلات تجعل (اشتراكية السوق) مرحلة نحو الاشتراكية، في الوقت الذي يزداد اندماج هذه الطبقات الحاكمة في النظام الرأسمالي العالمي، وما يترتَّب عن هذا الاندماج من تنازلات في غير صالح الطبقات الشعبية؟؟.. الإجابة برسم مفاعيل الصراعات والتناقضات داخل المجتمع الصيني نفسه!  

إفراط بالتفاؤل بصدد: أوروبا... يسارية!


يتابع سمير أمين نبله الماركسي وتألُّق منهجه، مع جرعة زائدة من التفاؤل، عندما يقدِّم قراءته لأوروبا التي إما أن تكون يسارية أو لا تكون!... يستمد أمين رؤيته حول إمكانية يسارية المشروع الأوروبي من ان الطبقات الحاكمة تدافع عن النيوليبرالية المعولمة في حين أن الشعوب لديها رؤية مختلفة. وهناك قوى في أوروبا تؤيد بشكل واضح رؤية أوروبا مختلفة، حيث يتبلور بديل يساري يسمح لرأس المال الأوروبي بخوض المنافسة الاقتصادية في ميدان خالٍ من الألغام وتفرض على الطبقات الحاكمة أن تستثمر أموالها أو فوائض أموالها، التي دأبت على استثمارها في الولايات المتحدة، لتموِّل من خلالها المشروعات الاجتماعية، وهذا بحد ذاته سيؤدي إلى تدهور الاقتصاد الأمريكي الطفيلي. وبعدها يتساءل أمين: إلى متى ستبقى الأحزاب اليسارية سجينة الرؤية اليمينية؟ ومتى تتمكَّن من طرح بديل سياسي ـ اجتماعي ـ مندمج؟!

أما من جهة الحركات الاجتماعية المتواضعة فيرى فيها بذرة لتأسيس مجتمع مدني عالمي يساهم بالتغيير وتصبح هذه الحركات الفاعل الحاسم في إنتاج مشروعات مجتمعية خلاَّقة وفاعلة. أعتقد أنه يبالغ في قدرة هذه الحركات، على أهميتها، وهو يقرّ بذلك أيضاً، ولكن ما ينقصها هو وعي سياسي بالتغيير، والأحزاب التي تصنع السياسة. ولكن هذه الحركات يمكن أن تشكِّل رديفاً هاماً للأحزاب. وعلى الأحزاب أن تستثمر هذه الحركات لأن تطلعاتها تبقى إصلاحية ولا تربط الظواهر بأسبابها العميقة والحقيقية لأن الرأسمالية قادرة على تفتيت وتمييع هذه الحركات. التسييس يخلق وعي التغيير ووعي التغيير يُفرَض على أرضية الصراع ضد الرأسمالية.

ونصل إلى النقطة الحاسمة والأكثر أهمية وهي تعقيدات الأوضاع في الأطراف، والمعروف أنَّ التراكم عن طريق النهب وقوى الاحتكار وإدارة الأزمات يتطلب حروباً دائمة وتدخلات دائمة وغالباً ما تتحمل شعوب الأطراف، وتحديداً الشرائح الدنيا، وزر هذه الأزمات. ومن هنا يعقد أمين آماله على أن التغيير والثورة والتحول الاشتراكي سيبدأ من الأطراف ويؤجل في المراكز على الأقل لأن التنمية في المراكز خلقت ظروفاً جعلت من الممكن تبلور لنوع من الإجماع والاجتماع وتوزيع فوائد التنمية الاقتصادية على مختلف طبقات الأمة ولو أن الأزمة المالية القائمة على خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر برهنت عكس ذلك.  

عن اشتراكية الأطراف وحالات "موت الأحزاب"


السؤال المركزي والجوهري: إلى أي مدى التحول الاشتراكي ممكن التحقيق في الأطراف في ظل العقبات الآنفة الذكر؟ أعتقد أنَّ هذا التساؤل لا يعدو كونه طوباوي ومسألة التحول ليست مؤجلة بقدر ما هي مستحيلة وتحديداً في الأطراف، ولكن أمين يقترح كمرحلة انتقالية (تحالف وطني ـ شعبي ـ ديمقراطي) للإنتقال الطويل إلى الاشتراكية وتتصارع خلال هذه المرحلة قوى متعددة تساهم في تبلور سياسات مناهضة للكومبرادورية.

لا أدري إلى أي مدى تسمح الظروف الواقعية والموضوعية بتبلور قوى قادرة على مناهضة الكومبرادورية وتلزمها بفك الارتباط في ظل موت السياسة والأحزاب في العالم الثالث.

موت الأحزاب القادرة على تنظيم الطبقات الشعبية للدفاع عن مصالحها وممارسة نضالاتها من أجل تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية التي لا تُمنح وإنما تُنتزع انتزاعاً وتكسب من القاعدة عبر النضال وتكوين وعي اجتماعي مسيَّس وفعَّال. لأنَّ الأحزاب تصنع السياسة ولكن أين الأحزاب التي تنشد التغيير والقادرة على احتواء غضب وتنظيم الطبقات الشعبية واحتضان المثقفين النقديين والمتصالحة مع الأنتلجنسيا المسؤولة وحدها، وعبر الأحزاب، عن نهضة الوعي الشعبي وارتقاءه إلى مستوى الفاعل في التاريخ، لأن طبيعة البنيان والتركيب الاجتماعي ـ الاقتصادي المتعدد والمتداخل يفترض وجود هذه الكتلة التاريخية النهضوية لتنتج مشروعها المجتمعي القادر على فرض التغيير. إلاَّ أنَّ موت الأحزاب (ونقصد هنا بموت الأحزاب اختيارها أن تكون جناحاً للأنظمة الكومبرادورية ومحافظتها على التراتبية الهرمية والبنى التنظيمية المترهلة والغير الديمقراطية). وهذا لا يسمح لها أن تتصالح مع العقل النقدي، وحتى المثقفين يتحمَّلون مسؤولية ويساهمون في تردي الأوضاع إذا أداروا ظهرهم للفكر النقدي وهمّ التغيير.  

عن التفاعل الضروري مع رؤى غرامشي


وهنا الاستعانة بالمفكر الماركسي الإيطالي غرامشي تجد مبرِّرها التاريخي وتحديداً عند كلامه عن "المثقف العضوي"، وأن كل طبقة أساسية تفرز مثقفيها، ويبدو أن البرجوازية الطفيلية لا تتوقف عن تفريخ وفرز مثقفيها المقاولين والمتلبيرلين في ظل انحسار المثقف النقيض، أي المثقف النقدي ـ الثوري الطامح للتغيير لعدم تبلور الطبقة النقيض أصلاً، ما أراه ملحاً هذه الأيام أن تعيد أحزابنا ارتباطها بغرامشي أساساً وتستلهمه كمرشد ودليل عمل هذا الحالم الكبير الذي أكَّد على الصلة واللُّحمة بين المثقفين والبسطاء، واعتبر هذه الوحدة هي ذات الوحدة بين النظرية والممارسة، وعلى المثقفين أن يصوغوا المبادئ والقضايا التي تثيرها الجماهير في نشاطها العملي صياغةً محكمة، وبهذا يشكلون كتلة ثقافية واجتماعية وتقع على عاتق المثقف أيضاً مهمة الارتقاء بوعي الجماهير عبر صياغةٍ أرقى من الحس المشترك والاتصال بالناس يجعل الفلسفة تاريخية، لذلك يجب على المثقفين ألاَّ يتمايزوا عن البسطاء، وغرامشي بهذا المعنى قام بتأميم الماركسية عبر المثقفين، لذلك أصبحت رؤاه ضرورة تاريخية لمجتمعات الأطراف أكثر من أي زمنٍ مضى.

الإنهيارات وقتامة الواقع تدفع فقط المفكرين الحقيقيين والأصيلين إلى الحلم والطوباوبة كما تدفع الزائفين إلى الانكفاء والتحوُّل. فتحيَّةً لسمير أمين عندما يستعين بإرادة غرامشي المتفائلة وإن دلَّ على شيء إنما يدل على رغبته وإيمانه العميق بالتغيير، والتغيير عند المفاصل الهامة في التاريخ بحاجة إلى حالمين كبار، ولكن ما أرجوه هو أن تستمد الأحلام مشروعيتها من تحقُّقها واقعياً لتجد تفاؤلية سمير أمين وإرادة غرامشي مبررهما التاريخي.

فما علينا إلاَّ العمل والبدء وطرد الانتظار.

مراجـع:
ـ سمير أمين : « اشتراكية القرن » ـ 2008 (مركز البحوث العربية والأفريقية).
ـ سمير أمين : « الفيروس الليبرالي » ـ 2003 (دار الفارابي).
ـ سمير أمين : « ما بعد الرأسمالية المتهالكة » ـ 2003 (دار الفارابي)
ـ سمير أمين : « مناخ العصر » ـ 1999 (مؤسسة الانتشار العربي).
ـ سمير أمين : « نحو نظرية للثقافة » ـ 1989 (معهد الانماء العربي).
ـ سمير أمين : « بعض قضايا المستقبل » ـ1990 (دار الفارابي).
ـ سمير أمين : « امبراطورية الفوضى » ـ 1991 (دار الفارابي).
ـ أنطون غرامشي : « دفاتر السجن ».
ـ مهدي عامل : « الدولة الطائفية » ـ 1986 (دار الفارابي).

التعليق على الموضوع

Message

وصلنا النعليق على المقالة النقدية .. شكرا لك .. سوف نقوم بنشرها بعد التدقيق