الاستمعاز


عز الدين المصري
فلسطين

الكلمة

منذ سنوات طويلة، كنت قد قرأت كتابا اعتبره من الكتب الرائدة والرائعة، وهو كتاب (النباهة والاستحمار) للكاتب على شريعتي ، ومن خلال الكتاب يوضح الدكتور شريعتي صور النباهة والاستحمار التى تصيب الفرد والمجتمع ، ولكنه يركز بشكل اكبر على جانب الاستحمار لوقوع الكثير من البشر تحت قائمة الاستحمار، فهو يرى أن هناك داخل المجتمعات ذكاء مفرطا لدرجة النباهة، وغباء مستفحلا لدرجة الحمورية، أو الاستحمار ؛ حيث يرهن الفرد عقله للآخرين ليفكروا بدلا منه، وبتحدثوا بلسانه، ويتصرفوا بدلا منه .

وبعيدا عن الاطالة والاسهاب يمكننا القول : ان الاستحمار بشكل عام "هو ما تقوم به السلطة السياسية، أو أي جهة أخري تحاول الهيمنة على المواطنين، أو مجموعة من البشر، فتفقدهم نباهتهم الاجتماعية، وتستحمرهم – أي تجعلهم حميرا – لرغباتها ، وتتحكم فيهم دون أي مقاومة ، وإن أرادتهم هنا جاءوا ، وان ارادتهم هناك ذهبوا؛ سواء كان ذلك بوعي منهم، أو دون وعي ، فهم ملجمون بلجام من الافكار الاستحمارية التى تجعلهم ينقادون بسهولة لقوى الاستحمار؛ حتى وان كانوا كارهين لذلك لأنهم قد فقدوا نباهتهم الاجتماعية، وتم استحمارهم عبر نشر الافكار الاستحمارية، التى عادة ما تكون مغلفة بفكرة مقبولة وطنيا، او دينيا، أو اجتماعيا، ليتم تقبلها من جهة المستحمرين . ولو اردنا الاسترسال في ضرب الامثلة فسيطول الامر كثيرا . فالقوى الاستحمارية لا دين لها، ولا مبدأ مهما ادعت أو رفعت من شعارات، فهي تختبئ وراء الشعارات من أجل مصالح شخصية، وأهواء ذاتية لاستغلال الاتباع، والتحكم بهم وامتصاص دمائهم واستحمارهم .

وهنا اتوقف لاسأل هل نحن مستحمرون ؟ هل يشعر كل فينا أنه مستحمر لقوة أو جهة ما ؟ هل نحن مستحمرون لسلطاتنا السياسة .. لأحزابنا .. لفصائلنا .. لجماعاتنا .. لمصالحنا .. لمخاوفنا .. لشياطيننا؟

اعتقد أن كل فينا لا يستطيع ان ينكر بينه وبين ذاته أنه مستحمر لشيء ما، وإن كنا نكابر ونترفع ، وننكر اننا مستحمرون ، وهذا ايضا مفيد وصالح لقوى الاستحمار التى تستحمرنا ، فهم يحافظون على استحمارهم لنا، ونحن نحافظ على ايهام أنفسنا باننا نبهاء، وغير مستحمرين .. لكنني على الرغم من احساسي بهذا الشعور يمكنني القول أننا في الواقع تجاوزنا مرحلة الاستحمار بمراحل، وترقينا لنصبح في حالة (الاستمعاز – من الماعز) – مع الاعتذار لعلى شريعتي ، وغيره من الكتاب الذين تناولوا مصطلح الاستحمار، واصبح متداولا لدى الجميع – فالحمار على الاقل ربما تأتي عليه بعض حالات العنفصة والترفيص، يغذو ويجيء، ولا يذبح أو يؤكل ، أما الماعز فإنه يساق طواعية وباستسلام؛ حتى يسلم ليد الجزار ويحشر في زرائب المذبح . فهو رهينة في يد (مستمعِزه) يفعل به ما يشاء، وهو لا يحرك ساكنا . نعم لقد تحولنا بالفعل اليوم الى قطعان من الماعز التى تساق للذبح، ولا حيلة لنا ولا قوة ، حتى أننا ممنوع علينا الثغاء او المأمأة . تركنا الجميع يقرر عنا .. يتحدث بلساننا .. يتصرف باسمنا، ونحن لا زلنا ننهق أو نثغو .. نساق كل يوم الى مذبحة جديدة ولا زلنا نغرد بالمأمأة .. نشترى الوهم الخادع وتزدهر بيننا تجارة السراب .. نلتهي بالعلف والعشب ونغفل عن عصا الحمّار (سائق الحمار) وسكين الجزار .

ان القبول بالاستحمار والتسليم بالحقائق المصطنعة دون طرح اسئلة هو أم الخبائث .. وان القبول بالاستمعاز ومتابعة الجزار الى المذبح هو أم المهلكات . الكل يسعى لاستحمارك .. رؤساء.. شيوخ .. قساوسة .. ملوك .. ورجال دين .. رجال صناعة .. ورجال اعلام ؛ فكيف ننجو من كل هذا؟

فاستعن بالله ، وعنفص يرحمك الله ، فلو اجتمعوا جميعا على ان يستحمروك أو يستمعزوك لن يستمعزوك الا برغبتك أنت.

للتعليق على المقالة




وصلنا النعليق على المقالة .. شكرا لك