الأدانة


يعقوب زامل الربيعي
العراق

القصة

 
مجلة الكاتب

في صباح كل يوم، كان يقول لها، حين يكون تحت الغطاء، متمددا:
ــ " حبيبتي، ليس عندي، ما أقوله، سوى أني أحبكِ "
وكانت حين تبتسم بوجهه، تفكر على عجالة ولكن بشيء من القلق " لعلك ما تزال ". وكانت تخاف من حماقة هذه " ما تزال ". وحين يختلط النور الفاقع، بالمستقبل العائم، يمسها ألم غامض. غالبا ما كانت تخاف أن يتسرب المستقبل من بين يديها.
النور كما كافيتريا وطاولة للقهوة، افتُتِحَتْ للتو. يبحث عن كلمة لها ذات سعة الحاضر. وكان ما يزال يبسط يديه على الغطاء الأبيض، لحظة رن جرس البيت. ونظرت في عينيه، في وقت نظر هو في عينيها، يحثها على الخطى، لتخبره عمن يدق الجرس.
وكانت عيناه تؤلمانه، لأن أرق الليل قد أجهده في الرفقة طويلا قبل أن ينام أخيرا.
لم يَدَعوا شيئا في المنزل، إلا وعبثوا فيه. كل من الرجال الثلاثة، كان يفكر على هواه، حين يدسُّ أحدهم يديه وعينيه داخل المجارير والخزائن وبين طيات الملابس، وخلال الأوراق والكتب المنضودة في مكتبته.
كان المستقبل، هنا، قبل أن يقتحموا بيته. مستقبل ذو مقدمة وخاتمة، كما كان يعتقد.
عددٌ من الأيام المضغوطة، والبطيئة، الذاهبة للقديم، والباقية في جزء منها، بين جدارين تحت الغبار الهادئ، والريح المشمسة، وثمة بعضُها كان يتخطّى دون حذر.
ــ " هل سيحرِّرونني أخيرا " فكَّر، حين أجلسوه في المقعد الخلفي بين رجلين. وانطلقت السيارة، نحو جهة مجهولة لديه.
في مثل هذه الساعة نفسها، وأمام أشعة ناعمة، كان يستغرقه تأمل زينة البحر المالح، حين يرتقي ثمة صخور سوداء، وسطح رملي واسع.
الماء المغتلم، كان يلامس قدميه. وحين يبلغ رذاذه وجهه، وأحيانا
خاصرتيه، عندها يترك مراقبة الباخرة الحجرية، التي منذ الأزل، ما تزال تمخُر عَباب البحر، مثل كتلة ضخمة من الجلاتين البارد.
حين وضعوه أمام كتاب ضخم، رموه على منضدة يجلس محاذاتها، لم يكترث، مع أنه أجال النظر في أول صفحة فتحوها أمام عينيه. قال أحدهم، وكان يجلس أمامه قريبا من المنضدة:
ــ " أهذا أنت "؟!
أحس بالخَشية والقلق اللذين يحسهما حين يرن جرس البيت، ليلا على وجه الخصوص.
توقف عن التحديق في الكتاب، ورفع نظره بوجه محدثه.
ــ " هل تتصور، أني لا أعرف من أنا "؟
ــ " سأسألك للمرة الأخيرة. أهذا أنت "؟
حاول أن يستفهم. وكانت على باطن فخذيه، دماملٌ صغيرة خَلَّفها الماءُ المالح، مذ ترك مجلِسَه أمام السفينة الحجرية. تسلَّلَ بفكره
خارج الغرفة، ونحو مَسامٍ وردية غزيرة بين فخذي زوجته التي تمدَّدتْ معه على السرير ساعة وضع رأسَه على الوسادة، بعد عودته من البحر، كاشفة عن ساقيها، وكان ما يزال يستمتع بصورة البحر والسفينة. أما في الخارج، فقد كان الفضاءُ واسعا.
على مدى أربعين عاما، كان يترك باب رأسه مواربا، خشية أن ينتفض فزعا لحظة يرن جرس الباب. ويندس الخوف. يفكر على الدوام بتلك الحرب التي لها وجهُ ميت، وطقم أسنان رديئة، ونظارة سوداء متسخة: " لا يحق لأحدٍ أن يدفع الناس إلى النهاية "!
ــ " لماذا لا تجيب. هل هذا أنت "؟
أخذ يقلِّبُ أوراقَ الكتاب. بعد كلِّ معلومة كتبها هو بخط يديه، تأتي شارحة في نهاية الورقة، كُتِبَتْ باللون الأحمر.
" عليك أن تتغير "!
وكان يعرف من شكل رسم الكلمات ولون الحبر، أنهم من أصدروا تلك الإرغامات المتكررة.
لكنه استغرب أنهم أشاروا مرتين أو ثلاث، بعلامة " # " في نهاية الصفحة. عندما أستفسر من الرجل الجالسِ أمامَه، عمّا تعنيه تلك الإشارة، هزَّ الرجلُ فاتحا شدقيه على وِسعِهما :
ــ تلك على ضرورة موافقتنا لما قلته ".
ما دفعه أن يقرأ من تلك الصفحات التي وافقوا على ما فيها، وعند تلك الصفحات الثلاثة، توقف قليلا:
ــ " نعم أنا كما آبائي، ولدتُ مسلماً ".
ــ " نعم أنا مُختَتَن ".
ــ " نعم أنا كأيِّ بشر. لا أنكُر أن الشمسَ، تأتي من المشرق صباحا، وتذهب بعد كل مغيب إلى الغرب ".
الغريب أن في صفحةٍ أتتْ فيما بعد، أشاروا بكلمة نابية سبقت جملة "عليك أن تتغير"
كان ذلك في سؤال عن ديانتي، وطريقة إيماني:
" ليس بالضرورة أن أكون كما كان عليه آبائي وأجدادي. أنا أفكر قبل أن أؤمن. تلك هي حرية الفرد في الاختيار ".
كان عائما، يشعر بأنه يسبح في التعب وإرهاق الاسئلة.
في إحدى المرات، فكر أن يقولَ للرجل، الذي كان يسعُلُ بقرف:
ـــ " ما شأنكم أن أحب هذا، أو أرفض ذاك "؟.
لكنه حين استغرق بالتفكير. وتجاهل السؤال. جاءه التهديد بلغة قاتمة:
ــ " نحن من يحدد الشأن، وكل شأنك، وليس أنت "!
أمامه دفعوا ورقةً بيضاء، إلا من سؤال واحد في بداية الصفحة:
ــ " بعد الاطلاع على نفسي في الكتاب، أقر وأعترف أنا " نعم أنا هو " على كل الصفحات، وأنه ليس غيري، من كَتبَ كلَّ شيء، دون إكراه أو تدَخُّل من جهة أو أي شخص آخر ".
قال في نفسه ، قبل أن يُذَيِّلَ الورقةَ بتوقيعه، وتحت اسمه الرُّباعي:
ــ " ما الضير أن أوَقعَ على حقيقة ما قرأته في دفة " نفسي "؟
سمع الرجل المسؤول عن التحقيق معه، وكان هو يوقع، يقول:
ــ " حسنا. سنُخلي الآن سبيلك، بشرط واحد. "
حين دقق النظر بين شدقَيّ الرجل. الذي أجاب بصوت كالرعد. لافظا هديره من جميع جهاته :
ــ " شرط، أن لا تترُكَ بابَ بيتك مواربا. وحين نفكر بزيارتك، سنضغط على زر الجرس، من الخارج. هل فهمت هذا؟ ".
عندها أيقن تماما، بأنهم بحاجة إلى من يسقُطُ على ركبتيه، قبل أن يفتح الباب، أعاد تلك الجملة في رأسه من جديد:
" ولِمَ الخوف إذا. لطالما سألفظ كلمة القرار، من غير لثغة في أي راء. ولطالما الشمس تأتي دائما من المشرق، وتنتهي دائما في المغيب. لا شيء إذا سيحوِّلُ هذه الحقيقة إلى وهم. أو يؤخِّر ما يأتي من الحقائق الأخرى "؟
وعند كلمة " حُرٌ " ،حين كان يرن الجرس من جديد، قرر أن تكون الرنة بيِّنة، تماما.