الأم


مهند طلال الأخرس
فلسطين

واحات

لم ينفك والدي الشيخ عن تذكيري بحكمته السرمدية: "الورقة التي تسقط في فصل الخريف خائنة بعيون أخواتها، وفيّة بعيون الشجرة، ومتمردة بعيون الفصول".

والعائدة لمكسيم غوركي، ومكسيم هذا حتى ذلك الوقت، لم اكن اعرف عنه سوى إسمه وتلك الحكمة الواردة على لسان ابي، والحكمة سالفة الذكر - والتي اصبحت متلازمة على لسانه- كانت عنوان موشحات ابي الموجه لي بعد كل خلاف حاد مع أقراني او بعد نقاش صاخب مع اسلافي، حتى إني سئمت هذه الحكمة لفرط تكرارها، ولم اكن ادرك أن نفس مشكلاتي في الخلاف والنقاش هي التي كانت تتكرر مما يستدعي معها اعادة توجيه نفس الموشح من جديد وهذا يستتبع حتما بدء الموشح بمقولة مكسيم (مغيرها).

أكلت من اعمارنا السنوات حالها كحال زنازين المخابرات، ولم تعد موشحات ابي في التصويب والتوجيه تؤتي أكلُّها، وسقطت كثير من الهيبة لكثير من المسلمات والمرويات التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم يعد ذلك المستقبل بما يخبىء لنا يحتمل كل ذلك التأويل، فقد ربيّنا منذ الصغر على أننا "جئنا الى الحياة لكي نحتج" "وان الحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فعليه الاخذ بها"، وهذه الحكمة وذلك الاحتجاج كنت قد ألفت شذرات منهما تحوصلت بحكم السنين في ذاكرتي واستبقيتها مختزنة من خريف ولىّ ولم ينقضي، وربيع ننتظر ولم يأتي، لعلنا نسترجعها في قادم الايام وتسهم في تركيب مفردات وابجديات جديدة تواكب اعمارنا التي سرقتها السنوات وسلبتها المخابرات وضيعها الخوف وفتكت بها الخرافات.

إنها لوظيفة استثنائية فائقة أن تكون انساناً على الأرض! تواجه كل هذه الهزائم والفظائع ويبقى لديك حلم بأن تبقى انسانا وان تؤمن بأن القادم افضل، وان تعيش على يقين دوما بأن حالنا في قادم الايام هو في أسوأ الاحوال أفضل من حالنا اليوم ومن سالف الايام.

"ليس هنالك من هو مجرم أمام البشرية مثل الذي يعتقد أنه أقوم أخلاقاً وأكثر معرفة ووعياً من الآخرين".

كانت هذه المقطوعة ايضا من ضمن باقة الموشحات العالقة في الذاكرة والمستقاة من سنين خلت واعوام مضت رافقتها الدمعات والآهات والخيبات وكثير من العذابات كسرت رتابتها بعض الابتسامات. تلك المقطوعة التي ارتبطت كغيرها بلسان ابي كموشحات عصر الهزيمة كان لا بد لنا أن نرجعها الى اصولها وان نخضعها لكثير من المراجعات، وهذه المراجعات سبّبها الشك في كل موروثنا الثوري والمعرفي، وهذا الشك جاء تلقائيا ومن شدة بطش الايام بنا، فنحن لم نعد نحتمل الخطأ، نريد أن نأخذ حقنا من العيش بجدارة، ولو كان مجندلا بالدم، ونريد الحياة بشرف حتى وان رحلنا عنها سريعا، قالت: لقد أحببتهم كما لو أنني لم اعرف غيرهم، لقدعاشوا سويعات بكرامة وشرف كما كان يجب أن يعيشوا على مدار سنوات خلت. لقد اضعت الحقيقة قبل ذلك والآن وجدتها وسأذهب بها الى السماء طارقا باب الجلالة فوحدكم انتم اصحاب الجنة.

لكن الحقيقة بطبعها لا تفارق انسانيتها وموطيء ولادتها وموطن قدمها ومهد كلمتها، الحقيقة بنت الانسان واخت الانسان وعاصمة الزمان والمكان لا تفارق رحمها ولا تنفك عنه رغم دأب السلطات على محوها من على اصل الوجود وان لم تستطع كان حلها الامثل بالتغييب. "فالحقيقة بالنسبة للسلطات ورجال الدين كالسكين، كالنار، إنهم لا يتقبلونها لأنها ستذبحهم وتحرقهم. فتشوا عن تلك الأوراق وأقرأوها لا تصدقوا السلطات ورجال الدين حين يقولون لكم أن أولئك الذين يحملون لنا الحقيقة ليسوا سوى كفرة عصاة".

والحقيقة بالنسبة لنا، أن لا نرُدَّ سماء الجلالة خائبة بل سنحمل عنها الغيوم، فأصحاب الارض وحدهم يعرفون أوقات المطر. عندها سنعيد الغيوم للسماء ونطلب لهم الصفح والسماح من رب السماء، وحدهم الطغات يكرهون السماء؛ فهي أن أمطرت حملوا المظلات.

"الناس الذين يستحقون لقب الانسان هم أولئك الذين ينذرون أنفسهم وحياتهم من أجل تحطيم القيود التي تغل عقل الإنسان."
هذا ما كان يقوله والدي الشيخ عند سماعه لنشرة اخبار الثامنة، والتي جلّ اخبارها زار الملك الوزارة الفلانية وافتتح الرئيس المركز الفلاني وتفقد الوزير المشروع الفلاني، وحده الجندي المجندل على الحدود كان عشق ابي... تلك الموشحات الواردة على لسان والدي الشيخ لم يكن سهلا في اعمارنا ان نخضعها للمراجعة والتمحيص والتدقيق، وبمرور الزمن ذهبت كل محاولاتنا ادراج الرياح، فتلك الكلمات كانت قطعة موسيقية ما ان تنطلق من فم والدي الشيخ حتى تأخذ أقصى مداها في ذاتنا، وتسري معنا في مجرى الدم، تحسبها قطعة من لحمنا ودمنا، تلك الكلمات كانت تهزنا، تدفعنا لأن نذهب للغد بجلال واقدام، تلك الكلمات كانت تحثنا على العمل وتسلحنا بالامل، تلك الكلمات كانت خبزنا وقوت يومنا، تلك الكلمات كانت دفئنا في الشتاء وسمائنا في العراء، تلك الكلمات كانت بالنسبة لنا هي الثورة....

"متى يصبح لدينا أمهات يرسلن أبناءهن إلى الموت وهن يبتسمن؟" كانت هذه المقطوعة ايضا من ضمن موشحات ابي، لكن سبب استحضارها كان مختلف عن اخواتها؛ فلم يكن هناك خلاف مع الاقران او نقاش مع الاسلاف؛ كانت مقطوعته هذه المرّة موجه لدمعات امي وهي ترقب كيف تنسل خفافيش الليل مقنّعة الوجه والضمير بين الزقاق تستهدف منزلنا المتهالك وكل شيء شامخ، وتستطلع جسدي النحيل المسلوب من كل شيء إلا الايمان بحتمية النصر والثورة.

خدشنا حياء الخفافيش بكلام عذب لا تألفه، او قل لم تفهمه، حسبته قدح مقامات عليا، خار جسد امي النحيل ؛ ففتاها وفلذة كبها وقرة عين ابيه سال دمه من ناحية الجبين ولم يخضع... قالت: "إن دمنا يعطي مولدآ للحقيقة عندما ينسكب كوابل المطر على الأرض، أما دمائهم المتعفنة فتمتص دون أن تترك أثرآ."

غادرت اعين امي باكيةً، وانتزعتني خفافيش الليل من اعينها، وغبت في الطريق معصوب العينين وكانت امي آخر من أغمضت العيون على رؤيتها ...امي...(مريم عيسى مصطفى خاطر) أن تتحدث عنها، تظل الكلمات عاجزة مقهورة. لربما في حياة اخرى أمكن عزف احرف اسمها الاربع على الكمان!

عدت من الاعتقال ينقصني كثير من النوم والاكل وقليل من الامل والحقد، تكفل والدي الشيخ بمسح قليل الحقد لدي ووجوب التعالي عليه وابقاء الامر في حدود التجربة والذكرى، وأضاف مقطوعة جديدة من موشحاته: " الذكرى هي دمار أولئك الذين حل بهم البلاء، فهي تحيي حجارة الماضي وتضيف قطرات من الشهد حتى في السم المرير الذي شربوه في غابر الزمان.

انزعجت من حديث ابي الذي انصب على التهوين مما حصل معي؛ رغم أنني لم أخبره بعد تفاصيل حاجتي للنوم.... عاجلتني آخر من رأت عيناي قبل عصبهما وقبل أن تتغير ملامح كل شيء في عيني.... "العالم من دون ريب يعج بكثير من الناس الطيبين. ولكنهم محتاجون إلى ترميم. أو قل يحتاجون إلى أن يعاد صنعهم من جديد."

تنهدت امي التي تملك كل ذلك الحب، واستجمعت انفاسها ثم عادت وقالت: ابوك بظل وطني، ووطني كثير، بس زي ما بيقول المثل؛ بس يستشهد ابن الجيران كل الامور بتختلف وبنقول لهون وبكفي.

تجشم ابي وابتسم مكرها واتجه الى رفوف مكتبته ذات الورق الاصفر، استل منها كتابا بحجم التجربة، دفع به إليّ كقطعة من جسده قائلا: هذه هديتي لك بعد كل هذا الالم. استشاطت عيون والدتي غضباً لم تستطع دمعاتها ان تخفيه، وجهت لابي سؤالا دامعا، ماذا انت فاعل بنا ؟ اجاب: هوني عليك، ليست سوى رواية قصصية للكاتب مكسيم غوركي. حيث بطلة هذه الرواية أم تشبهك في كل شيء، إلا انك أجمل الامهات، هذه الام حالها كحالك، تكافح و تناضل في سبيل ابنها في أول المطاف لكن بعد فهمها لطموحاته وأهدافه، بدت وكأنها تناضل من أجل الجميع و خاصة العمال والفلاحين الذين عانوا في تلك الفترة من ظلم الطغاة والولاة والمستبدين ومن جور الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج.

ابتسمت امي ابتسامة مختلطة بالدموع، توسدت بجسدها المتعب ذراع ابي، الذي لم يجد متسعا للكتاب بيديه فالتقطته بيدي، ربت على كتفها وطبع على رأسها قبلة ابدية اسهمت في بث الحياة فيها وفينا من جديد. لم انتظر طويلا، بدأت أقلب صفحات الرواية بشغف، ساهم فيه والدي الشيخ وهو يبوح لي بسر هذه الرواية: الصراع بين السكون والحركة حالة طبيعية لدى الإنسان، لكن عند الثوري تأخذ منحى آخر، فعلٌّ لا بدّ منّه، مهما كانت النتيجة، نجاح أم فشل، فالإقدام عليه يعد فضيلة وواجب، والسكون يعني الموت، ليس الموت الجسدي وحسب بل موت الإنسان، كإنسان.

غوركي يتحدث عن حتمية الثورة ولا يتحدث عن حتمية الانتصار، يتحدث عن حتمية الصراع، لكن النتيجة غير معروفة، تحتمل النجاح والفشل، لكن المحاولة هي الأهم، من هنا ينشأ مفهوم جديد للعمل الثوري، يتمثل في محاولة التغير، فهي السمة الاسمى للفعل الإنساني، يكفي أن يقدم الإنسان عليها، لكي يكون فاعلا، "قليلون هم أولئك الذين يرضون عبور تلك الطريق الطويلة العسيرة، وقليلة هي الأعين التي تستطيع إدراك هذه الرؤيا الأسطورية عن مملكة الإخوة الإنسانية التي لا مفر من بلوغها في نهاية الطريق"، الفعل الثوري في بدايته يكون من قبل الخاصة فقط، هم الشرارة التي يضّرم بها النار، لكن بدون وجود الحطب لن تستمر النار مشتعلة، من هنا يكون فعل الثورة في بدايته مقتصرا على النخبة الثورية. واردف قائلا: تلك النخبة هي التي تنجب الحرية، والحريه فكرة تلد العدالة والعدالة تلد الانسانية المتحضرة، والحرية دائما بحاجه لوقود من دم الاحرار لتحقق ذاتها.
 


أترك تعليقا




وصلنا النعليق وسوف ينشر بعد مراجعته .. شكرا لك