القصة
مجلة الكاتب اليساري :: إيمان سبخاوي 



إيمان سبخاوي | العراق

أزرار مفتوحة


حاولت مرار ابتلاع قصّتها ومعها لتر بنزين وعود ثقاب، يعصب عليّ رسمها تتألم.. تصرخ و تتقيأ. مذ عانقتني و سقطت في فراغ ثديها الأيمن بعدما دفعها ابنها نحوي بقوة متشبثا بعباءتها خوفا من قطتنا و قلبي مفتوح على الهبوب، يمرّ منه حزن "بحرية" كنسمة باردة، أنا التي كنت أسدّ منافذي بإحكام. عيني الأكثر اتساعا و فمي المفتوح على سؤال هل تألمت؟ ــــ لا. كم تبدو لا المفتوحة كمقص، مجحفة على الوجع الذي عانته لحظتها من اصطدامي بسرها، مفتوحة جدا كفم سمكة و أصغر من أن تبتلع اللحظة... لا، إجابة أقصر من أن تواري سوأة المرض الذي مضغ بنهم، ثديها الأيمن و ضفيرتها الشقراء و أحال الأنوثة التي كانت تثير الغرائز إلى ذئب يفترس عواء السرير... كان بأقدامه الكثيرة القذرة معي في الغرفة، مستلقيا على سرير مقابل، يتثاءب.. يتمطى.. يتقلّب.. يغار من الأطفال و أثداء النساء و شعورهن، يحب الأطراف الأكثر براءة... يغار من أصابع زوجي التي تتحوّل إلى مشط. استكثر على مشطي لفافة شعر، أفسد السفقة التي أبرمتها مع البومة: لفافة كل يوم لاستكمال بناء العش، لقاء درس في التحليق عاليا كلما حلت العتمة و اشتد الوجع.. البومة تنعق بعدما أخذت الظفـيرة كلها، دفعة واحدة.. التصوير الاشعاعي يظهره بحجم حبة بندق في قلب العاطفة... الطبيبة النفسية تقول أنها مجرد كتلة ليفية... أرد: بل كتلة ليفية مجرّدة من الأثداء كي ترضع صغارها الذين يكبرون كل يوم.. و ينتشرون في جسدي.. و لا رحم لها تخرج منه عصافير ملونة تحتمي بشجرة النبق، لا وطن لها لتفهم معنى أن تغتصب أعشاشهم. من صيدلية مجاورة تفوح رائحة الموت التي تعاقر الحنوط.. مركز الماموغراف عند مدخل القرية... المستشفى في طريق الجحيم. المقص ذاته بفم مفتوح يقضم آخر حبة كرز، كنت أقارع المرآة إلاهة الجمال و الصبر يحترق كعود بخور ليفوح السؤال.. هل رموا بثديي للكلاب؟

أو دفنوه في تراب غير ترابنا، غريبا كنتوء زائد عن حاجة العالم، يعطف على شجرة الصنوبر التي أكلتها دودة الصندل.. حمالة صدري كرقعة عين القرصان في قصة علاء الدين و المصباح السحري، تسقط من يدي كلما تعريت مشفقة علي من شماتة المرآة، لا يمكنني أن أقترب أكثر، أن أسمح لها بتشييع جنازتي أنا و الرجل الذي أحب و سريرنا و حبة الكرز التي لم تعد تدرّ عطفا و حليبا إذا تغيّر مجرى الحب. خطوة أخرى إلى الأمام.. يمر شريط العمر بطول المسافة للمرآة، يمتدّ من أخمص القدمين إلى آخر زغبة ناجية من جرعة الكيماوي.. كنت دائما أقول إذا لم يقتلني هذا اللعين سأموت بالذكريات.

سلّطت علي الذاكرة سوط كلماته يوم كنا خطيبين و هو يلفّ أكمام القميص و يحدث صديقه "الهاشمي" تحت شجرة التوت في شارعنا و أنا أسترق النظر و السمع خلف النافذة: " تمرّدت روحي يالهاشمي منذ رأيت حلمتيها النافرتين كحبتي كرز من تحت ثوبها المخملي" ما أوقح المرآة عندما سألتها من أجمل الجميلات، تردّ و أكاد أصدقها أنت. لولا الكذبة التي فاضت كنوبة ألم... لا مرآة في العالم تحسن عزاء أنثى أجهضت ثديها للتو.. لم أعد أملك غير ثدي أيسر يتدلى وحيدا كي يربت على القلب، يستدير مذعورا بالغياب نحو حفرة واسعة، تركها شقيقه ثقبا أسودا في سماء هذا الجسد.. تركنا لوحدنا نرتعد بردا و خوفا. محوت الرسالة التي كتبتها على بطني و السهم الذي أشرت به إلى أعلى: هنا كانت ترقد آخر حمامة على الأرض، كانت ستقنع الأعشاش أن تترك لي خصلة شعر واحدة على رأس كان يوما ما شجرة. في هذه الهوة كنت سأبني حياة... الآن فوضى كبيرة من اللاشيء في كل مرة أحتدم فيها مع الموت... أقسى الذكريات آخر لفافة شعر بين أسنان مشط لم يعد صالحا للإستعمال، على طاولة زينة لامرأة. عندما وجدتها تحاول كتم النزيف بحمالة مفعمة بالقطن، أصابها مس من حزن، تختلج.. ترتجف دمعتها فيختلج قلبي و ترتجف المرآة، كسرتها و معها السرطان الذي لا يخطيء الطريق... تحولت عيني طفلها إلى حبوب منومة، هي سعيدة الآن أكثر من أي وقت مضى و تحلّق عاليا مستعينة بقمصان بيضاء بأزرار مفتوحة... طفلها الذي خرج من المدرسة، أعادها من التحليق، مستلقيا في حجرها يمصّ ابهامه مختبئا في ثوبها كمن يرضع في السر، مكتفيا.. مستقرا.. ينعم بالهدوء و السلام...

يكمل... تتمتم: آه يا طفلي يا يتيم الصدر. بصوت عال تقول: بالصحة والعافية.