واحات



حمّل النسخة الورقية


سقوط المثقفين العرب

 

 

يقول علماؤنا الأكارم إنَّ: (الفسق أو الفسوق يغلب استعماله في كبائر الذنوب، كالسرقة وأكل الربا والزنا ونحو ذلك، وأما الفجور فيغلب استعماله في كبائر الذنوب أيضًا، ولكنه كثيرًا ما يخص إطلاقه على الإكثار من الكبائر والاستهتار بها والانطلاق فيها، أو بالكبائر الأشد شناعة، التي يستنكرها كل عاقل حتى لو لم يكن مسلمًا، كاللواط، وزنا المحارم، والبهتان، والتنكيل في القتل، واليمين الغموس، ونحو ذلك فالفجور أشنع من الفسوق، والمعصية أقل منهما درجة).

فسوق المثقفين أو العلماء أو الكُتّاب أو المفكرين (قادة الرأي والفكر) في هذا الزمان هو من أشد أنواع المعاصي الدينية والفكرية والسياسية والأخلاقية. فهم حين يفسقون يفْجُرون، وبفجورهم يُكثرون ويستهترون علانية، بينما من المفترض بمثل هؤلاء أن يحملوا بين جنبات عقولهم وقلوبهم حرفين أساسيين هما (لا) في مواجهة الحاكم فلا يضعون مكانهما الحروف الثلاثة (نعم) إلا بحق، فيشكلون الجدار الحامي للمبادىء والقيم ونزاهة الاخلاق في المجتمع والأمة.

هؤلاء هم مَن لا يجب أن ينحنوا حتى لو زاغت الأبصار واستبد النزق، ومال الأمراء والسياسيون أو انحرفوا في طريق الركوع أمام العواصف، أو حتى سقطوا وصولًا إلى تقبيل أقدام الغزاة بفرح غامر.

فُسُوق المثقفين والكُتّاب والشعراء والمفكرين وعلماء الدين هو الأشد صعوبة والأشد تأثيرًا وفتكًا بالأمم، فمنهم الفَجَرَة الذين يجلسون في عليائهم ليبرروا للأمراء أو السلاطين أو الرؤساء والمستبدين سقوطهم، مقابل صُرَر من المال، أو مقابل نظرة رضا من الحاجب! أومقابل وعود بمواقع أوحُلل من الحرير! أو جبّة يلبسونها، لعلّهم يتقون شرًا أو يغنمون سطوة، فتراهم يختالون بين الناس ترمقهم نظرات الإعجاب، فيشعرون بالخيلاء فيفاتنون الناس ومن ثم يسقطون مع سقوط أمرائهم.

الصامدون الصابرون الثابتون قد يكونوا قلّة في الزمان، ولكنهم القدوة والأسوة، ولنا بالإمام الأعظم أبي حنيفة النموذج في قول (لا) حيث تجب كما رآها فينقل الكاتب شريف الزهيري في مقالته المعنونة محنة الإمام أبوحنيفة في موقع الألوكة: (في مجلس المنصور دار الحوار الفريد بين الخليفة المستبد، والإمام الكبير:
حيث دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع.
فقال المنصور: أترغب عما نحن فيه؟ (أي يشكك في طاعة الإمام للدولة)
فقال أبو حنيفة: لا أصلح.
فقال المنصور وقد احتد: كذبت.
فقال أبو حنيفة: فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح!!
ثم استخدم أبو حنيفة مهارته الفائقة في الإقناع والقياس فقال: فإن كنت كاذبًا فلا أصلح (يعني لكذبه)، وإن كنت صادقًا، فقد أخبرتكم أني لا أصلح. فضرب وسجن!.

أبوحنيفة نجا برأيه وعقله ودينه فلم يسلمه للسلطان رغم سطوته واستبداده وقسوته، ولم يكتب في الصحف دعمًا لانزلاقه وفجوره كما يحصل اليوم ممن أصبحوا يحضّون على المعاصي السياسية علنًا في فجور ما بعده فجور.

معاصي العلماء وقادة الرأي اليوم مهما صغُرت فسوق، وفسوق العلماء والمثقفين والكتّاب هو فجور، فما بالك إنْ كان حقًا هو الفجور بعينه! فكيف للناس أنْ يقاوموا أو يصمدوا وهم يجدون من أمثال هؤلاء (من قادة الرأي والفكر) من يعزّز خوض زعمائهم ومستبديهم في الوحل دون أدنى إحساس بالمسؤولية، أوالخجل!

في الستينات، شاركت الممثلة العالمية جين فوندا في المظاهرات المناهضة لحرب فيتنام فاقتيدت إلى السجن ولم تبالي. وكذلك سُجن الفيلسوف الإنكليزي "برتراند راسل" لمعارضته الحرب العالمية التي كانت تشارك فيها بلاده. بينما حين طلب أحد الوزراء الفرنسيين المتملقين من الرئيس "شارل ديغول" أن يسجن كاتبًا معارضًا، ردّ عليه: "إنه عار أن أعتقل كاتبًا بسبب آرائه".

ورفض الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضرب رقبة معارضيه، أو سجنهم إلاَّ إنْ رفعوا السلاح، وهو القائل: "قطع ظهري إثنان عالم متهتّك (أي فاسد الاخلاق) وجاهل متنسّك"، وهو القائل: "لا ترى الجاهل إلاّ مفرطًا أو مفرِّطًا"، وكل قادة الرأي المجاهرون بالمعصية أي الفجّار هم جهلة أو متهتّكون.

أين هذه المواقف التي تفرض عليك الاحترام، من أولئك الكتاب وقادة الرأي الذين يتملقون ويزيّنون الطغيان والسقوط اليوم في الخطايا الوطنية الكبرى مثل العلاقة مع الإسرائيلي بترحاب واحتفاء عزّ نظيره؟!

لم يستطع الإسرائيليون بكل ضخامة الدعم الغربي الاستعماري والخرافات التوراتية التي رفعت على أكتافهم وكأنها حقائق، لم يستطيعوا أنْ يغيروا من قناعة العربي والفلسطيني قيد أنملة أنَّ فلسطين قضيته وأنَّ فلسطين كانت من نصف مليون سنة حتى اليوم أرضًا عربية.

لم يستطع الإمبريالي الأمريكي المتحالف مع المستعمر الصهيوني الذي سرق فلسطين بتمهيد لم يسبق له مثيل من العقل والفعل الاستعماري الإنكليزي أنْ يزحزح عربيًا أو مسيحيًا من بلادنا الشرقية، أو مسلمًا عن فلسطين إلَّا من اعتبر السقوط في الهاوية طيرانًا إلى الفردوس!

لم يستطع الصهيوني الذي فرض على العالم تبني الفجور العلني باعتباره حسنات يؤجر عليها، أنْ يغيّر من قناعة كل شعوب الأمة العربية، حتى في ظل اتفاقيات ظلت على هامش الناس، حتى أتى في اللحظة الأخيرة مَن كان يقف على حافة السقوط من قادة الرأي والفكر فيتعجل سقوطه باسمًا فرِحًا وبشكل فج ووقح، فيجعل من ذنوب سلطانه أو ملكه أو رئيسه مدخلًا إلى الجنة الموهومة، وهو لا يعلم أو يعلم أنه يضلّل الأمة من جهة، ويفتح الباب لزعيمه لمزيد من حفلات تقبيل الأقدام.