نيسان 1975
في ذاكرة الكتابة وجراح الجسد والروح

 

 

13 نيسان 2009
يحتفل العالم أجمع بيوم الطالب في 21 شباط، غير أنّ وزيرة التربية بهيّة الحريري أعلنت يوم الطالب اللبنانيّ في 13 نيسان، اليوم الذي انطلقت فيه الحرب اللبنانيّة. ومن الواضح أنّ الوزيرة أرادت أن تتحوّل هذه الذكرى يومًا لطلب السلام، كدرس أساس لا يكون طلب العلم مفيداً من دونه، ولذلك يصحّ أن يكون عنوان هذا الدرس: "تنذكر ما تنعاد". فالنسيان في نيسان ليس هو الحلّ، بل تذكّر بشاعة الحرب، كي لا نستعيد فصولها ولا نغرق من جديد في دوّامة عنفها، هو ما قد ينجّينا من الشرير الذي لا يريد لهذا البلد أن يرتاح.

ولكنّ السؤالين الأساسيّين المطروحين أمام المسؤولين التربويّين في مناسبة هذا اليوم هما: كيف سيتمّ الاحتفال بهذا اليوم؟ وهل اتفقنا على صورة الطالب اللبنانيّ الذي ندعوه للاحتفال؟ التجارب السابقة، خلال الأعياد المتوارثة، تجعلني أميل إلى التأكيد أنه لن يكون للطالب رأي في هذا اليوم، لا في كيفيّة الاحتفال ولا في المشاركة في وضع تصوّر لما يجب أن يكون عليه الطالب اللبنانيّ. فحتّى الآن لا يزال المعلّمون (غير المربّين) يعتبرون الطالب طالب شهادة تسمح له بإيجاد عمل، أو طالب فيزا تحمله إلى أيّ مكان خارج لبنان، أو طالب علامة ترفعه فوق المعدّل المطلوب وتنقذه من براثن والده المقاتل السابق، أو طالب إذن ليخرج من الصفّ ليقضي حاجته، ولن يكون في أيّ حال من الأحوال طالب معرفة وحريّة وتفهّم ومحبّة وإصغاء ونصيحة وتوجيه مهنيّ.

وأكثر ما أخشاه أن يتحوّل هذا اليوم عبئًا على التلامذة، فيُطالَبون فيه بتقديم أعمال فنيّة وكتابيّة من وحي المناسبة، وهذا أمر ممتاز، إلاّ إن علمنا أنّها يجبّ أن تمرّ على رقابة الرؤساء والمديرين والمشرفين والمناظرين والمستشارين والمنسّقين والمدرّسين قبل أن يسمح بنشرها أو عرضها. وعند ذلك سيتحوّل هذا اليوم مناسبة جديدة تؤكّد للتلامذة أنّهم ليسوا أبناء الحياة، بل أبناء آبائهم وأمّهاتهم وعبيد معلّميهم، أليس التلميذ عبدًا لكلّ من علّمه حرفًا وفق القول الشائع؟ في الولايات الأميركيّة، زمن العبوديّة، حُكم بأقسى العقوبات على من علّم زنجيًّا القراءة والكتابة لأنّه بذلك علّمه أوّل درس من دروس الحريّة.
ألا يدعو هذا الى الشكّ في أن نكون نحن فعلًا من اخترع الحرف؟

خلال عملي التربويّ، كنت أراقب بأسى كيف تتحوّل الأعياد حفلات تعذيب لجميع المعنيين بها، وكلّ فرد يحاول أن يسجّل انتصارًا أين منه انتصار الولايات المتحدة على اليابان! فالتلميذ يستعطف المعلّمة كي تعطيه دور البطولة، وإلّا زعلت منه أمّه واعتبرته فاشلًا. والمعلّمة "تقتل حالها" كي يكون العرض الذي يقدّمه تلامذتها أجمل من عروض زميلاتها، والمدير يهدّد المعلّمات بأنّه يريد أن يكون اسم مدرسته على كلّ لسان وفي كلّ صحيفة مهما كلّف الأمر، وإلاّ فسيطرد الجميع في آخر السنة.

كلّ ذلك في واد، والتربية والفنّ والعلم في واد آخر. وإلاّ فكيف نفهم تصرّف مدرسة علّقت الدروس في أحد صفوفها ثلاثة أسابيع كاملة قبل عيد الأمّهات لتتاح الفرصة للمعلّمات كي يدرّبن التلامذة على عرض فنيّ للمناسبة؟

ولمن لا يعلم، فالتلامذة الذين يحبّون عادة اللهو وإضاعة الوقت خارج الصفّ يكرهون هذه النشاطات لأنّها تملأهم رعبًا وخوفًا بسبب توتّر القيّمين على التمارين وجهلهم أبسط قواعد التربية. يا معالي الوزيرة، بين سندان المدرسة ومطرقة المعلّم أخشى أن يقال عن طالب العلم في يومه الاحتفاليّ ما قيل عن "طالب الدبس" في أمثالنا الشعبيّة.

13 نيسان 2010: لولا نيسان 1975

بعد صبيحة الثالث عشر من نيسان من العام 1975، لم يعد العالم هو نفسه، لم يعد لبنان هو لبنان الذي أُخبرنا عنه، ولم تعد حياة أيّ واحد منّا كما كانت عليه، حتّى الذين كانوا أجنّة في أحشاء أمّهاتهم، والذين ولدوا بعد ذلك التاريخ بكثير، والذين سيولدون بعد أجيال، كلّهم، كلّنا، محكومون بما جرى في ذلك الأحد. وإذا كان ترابط الكائنات ودورة الطبيعة يعنيان أنّ سقوط ورقة عن شجرة في الصين يغيّر كينونة العالم، فكيف إذا انطلقت نيران الرشّاشات وسقطت ضحايا وانفجر ما كان يختبئ في الضمائر والصدور ليجرف كلّ شيء أمامه؟ هكذا تتغيّر مصائر الأمم والأفراد في كلّ مكان وكلّ زمان.

لولا ما حدث في مثل هذا اليوم عندنا، لكان كثيرون أحياء لا شهداء، وأحرارًا لا أسرى، وأصحّاء لا معوّقين، ومقيمين لا مغتربين، وعاقلين لا مجانين، ولكان كثيرون اختاروا مدارس وجامعات غير تلك التي أجبرتهم الحرب على ارتيادها، ولكان كثيرون أقاموا في بيوت بنوها وأثّثوها لا في بيوت هجّروا إليها، ولكان كثيرون ارتبطوا بغير الذين شاءت الحرب أن يرتموا في أحضانهم ليهربوا من الغربة والوحدة والموت. لولا ذلك النهار لكان كثر من الناس اختاروا البلدان التي هاجروا إليها بدل أن يهربوا على أيّ مركب أو طائرة إلى أيّ بلد يمنحهم حقّ اللجوء إليه ويبيعهم الأمان مقابل مبالغ كبيرة من الضرائب، ولكان كثيرون أنهوا علومهم بدل أن يلتحقوا بالأحزاب، واختاروا أعمالاً لا علاقة لها بالسياسة، ولكانت الأرض ملأى بالأشجار لا بالمقابر، والأثير عابقًا بأغنيات الحبّ والصداقة لا بأناشيد للثورة والوطن والموت.

13 نيسان 1975 ليس منفصلًا في طبيعة الحال عمّا قبله وجعل تركيبة لبنان ما هي عليه، بلدًا تحكمه الجغرافيا وهو مقتنع بأنّه يصنع التاريخ. ولكنّ التغيّرات الجذريّة واستمرار تداعيات ذلك اليوم هما ما يجعلانه محطّة حاسمة في تغيير مسار الوطن وتقرير مصير المواطنين. من هنا أهميّة ألا ننسى ذلك اليوم وما نتج عنه من هزائم لبعض الأفرقاء وانتصارات لآخرين. والدعوة إلى عدم النسيان هي محاولة لتعليم الأجيال الجديدة أنّ الحرب قد توصل قلّة من الأشخاص إلى مراكز المسؤوليّة والقيادة ولكن على جثث من ارتضوا أن يكونوا وقودًا لها، أو راحوا ضحيّتها من غير ذنب. ولعلّ المؤسّسات التربويّة والجمعيّات الأهليّة في المجتمع المدنيّ مطالبة بتخصيص هذا اليوم لتنظيم زيارات لمعوّقي الحرب، وأمّهات الشهداء، وأهالي المخطوفين، وبيوت المهجّرين، والقرى المزروعة ألغامًا، لعلّ جيل الشباب يتذكّر أنّ "الحرب بالنظّارات هيّنة" كما يقول المثل الشعبيّ، وأنّ من شلّت أطرافه وينتظر من يتعطّف عليه ويمسح له أنفه لم يربح من الحرب سوى المعاناة، وأنّ الأمّهات لم يحصدن من بطولات أولادهنّ سوى كلمات التعزية المجّانيّة، وأنّ أهالي المخطوفين يموتون كلّ يوم مئة مرّة وهم يحاولون أن يتخيّلوا مصائر أولادهم فيعجزون، وأنّ المهجّر لم يترك أرضه وبيته فحسب بل حياة وحضارة وجيرة وتاريخًا وتراثًا، وأنّ الأرض المزروعة ألغامًا لا ينبت فيها إلاّ الأطراف الاصطناعيّة.

نحن الذين استيقظنا صبيحة ذلك الأحد وعلى أهدابنا بقايا من أحلام المراهقة والعشق والنجاح، تمطّينا في أسرّتنا الدافئة ونحن نستمتع بكسل عطلة الأسبوع، تناولنا فطورنا الشهيّ في طقس ربيعيّ جميل، استمعنا إلى زقزقة العصافير قبل أن تخفت أصواتها مع رنين أجراس الكنائس "تذيب روح الله في المتعبين"، كما يصفها الياس ابو شبكة، جلسنا نخطّط لمشروع يوم الأحد قبل أن نعود غدًا الاثنين إلى المدارس، ولم نكن نعلم طبعًا أنّ هناك من قرّر ألاّ تعود حياتنا إلى ما كانت عليه، وأنّ كلا منّا سيجد نفسه مرغمًا على أن يسير في دروب خطّتها له القذائف العشوائيّة ورسمتها الرصاصات الطائشة، وسيكون له لغة ذات مفردات غريبة ومصطلحات جديدة، وستُفرض عليه حياة لا تشبه قطعًا حياة أهله الذين لم يحدسوا بما سيكون عليه مستقبل أولادهم، ولا تشبه حتمًا حياة أولاده الذين حين يستمعون عرضًا إلى أخبار الحرب والقصف والخوف يتصرّفون كأنّهم أمام فيلم سينمائيّ لا يموت فيه الممثّلون بل يقبضون رواتبهم وينتقلون للعمل في فيلم آخر. وهذه هي معاناتنا اليوميّة مع الحرب وعلينا أن نجعلها كلّ يوم رسالة سلام، على الأقل مع أنفسنا.

13 نيسان 2011: ضحايا نيسان 1975

لم تتوقّف الحرب التي بدأت في 13 نيسان 1975 ولم ينته مسلسل العنف ولم يوضع حدّ لعمليّات التعذيب والتنكيل والتشويه والإذلال؛ والقلوب التي نمت على الحقد لم تعرف السلام الداخليّ بعد.

ما أتحدّث عنه هنا ليس ما يجري في كواليس السياسة وأزّقة الصراع وبؤر المؤامرات، ما أتحدّث عنه هو الكثير من المقاتلين الذين كانوا مراهقين في بداية الحرب وتزوّجوا وأنجبوا ولا يزالون حتّى اليوم يمارسون مختلف فنون الحرب ولكن... في منازلهم ومع نسائهم وأولادهم.

إنّ نظرة سريعة إلى بيوت عدد كبير من هؤلاء المقاتلين تظهر مشاهد لا تصدّق من الممارسات الشاذّة كأنّ الواحد منهم لم يع بعد أنّ هذه المرأة هي زوجته وليست أسيرة عنده وأنّ هؤلاء الأولاد هم أبناؤه وليسوا معتقلي حرب.

تقول إحدى الزوجات: كنّا صغارًا حين تزوّجنا، وهو الآن نادم على قراره ويعاملني كأنّني سرقت منه حياته وشبابه فيضربني ويشتمني ويخونني ويهدّد بقتلي إذا ما خالفت أوامره.

وتقول زوجة ثانية: لا يزال زوجي يحتفظ ببزّته العسكريّة ويرتديها حين يرغب في ممارسة الجنس طالبًا منّي أن أفعل ما تفعله النساء في الأفلام الإباحيّة، وإذا رفضت ضربني بالحزام السميك وركلني بالحذاء الضخم ثمّ اغتصبني.

وتقول زوجة ثالثة: يجبر زوجي أولادنا على مشاهدة عمليّة الإذلال وإذا بكى أحدهم أو تدخّل مدافعًا عنّي ضربه وهدّد بحرقه بأعقاب السجائر.

وتقول زوجة رابعة: يشعر زوجي بالإحباط فهو في الحرب كان الآمر الناهي وجاء السلم ليخذله ولا يحقّق له ما كان ينتظره. لقد عاد رجلاً عاديًّا، لا يعيره أحد أيّ اهتمام فيصبّ غضبه علينا.

وتقول زوجة خامسة: زوجي ترك المدرسة والتحق بالحزب، وصرف ما ربحه في الحرب على المخدّرات والنساء والسلاح، ويعمل الآن في شركة أمن خاصّة ولا يكفينا راتبه ثمن الكحول. وإذا لم أعمل وأجلب له المال ضربني وضرب الأولاد.

حكايات النساء عن "أبطال" حروبنا الصغيرة لا تنتهي، وآثار العنف والضرب والإهانة تظهر واضحة في عيون أولادهم الذين بدأوا يضربون زملاءهم وإخوتهم لردّ الاعتبار لأنفسهم أوّلاً ولتقليد آبائهم ثانيًا، وثمّة بينهم من يضرب أمّه أو جدّته.

وفي حين تغلّف هذه الحكايات بالصمت والكتمان والتعتيم، يزداد عدد ضحايا 13 نيسان ويتواصل مسلسل العنف في بلد لا يجرؤ أحد فيه على فضح الأسرار العائليّة وشعار أهله يقول: "خلّيها بالقلب تجرح ولا تطلع وتفضح".

لا أعرف إن كان ثمّة إحصاءات حول هذا الموضوع، أو دراسات حول هذه الفئة العمريّة من الرجال (بين 45 و55 سنة) الذين كبروا فجأة حين أطلقوا الرصاصة الأولى على الضحيّة الأولى. ولكن مجرّد التواجد في محيط توجد فيه هذه الشريحة من الرجال غير المتعلّمين وذوي الدخل المحدود جدًّا والمقتنعين بأنّهم لم يوفّقوا كما يجب في حربهم الأولى يكفي كي نخاف على أنفسنا حين نسمعهم يقولون وبريق تقشعرّ له الأبدان يسطع من عيونهم: لو تعود الحرب لأيّام فقط لنعوّض ما حرمنا منه.

ولكن ما الذي حرم منه هؤلاء؟
الجواب: الإدمان على القتل والعنف والتذويب في الأسيد والاغتصاب ورمي الجثث في مكبّ النفايات أو تحت الجسور أو في مقابر جماعيّة والشعور بالتفوّق والمتعة في فرض قوانين خاصّة.

وأولادهم المراهقون الضحايا؟
هم مع الأسف أسرى حرب يتماهون مع معتقليهم ويقلّدونهم على الرغم من الكره الشديد الذي يحملونه لهم، والغضب العنيف الذي يجعلهم يتمنّون الموت لآبائهم وهم لا يعرفون أنّهم باتوا، في غياب المعالجات النفسيّة والمتابعة الاجتماعيّة، نسخة طبق الأصل عنهم، أي قنابل موقوتة لا نعرف متى تفجّر نفسها فتجرف معها احتمالات الخلاص.

13 نيسان 2014 : المسيحيّون اللبنانيون بعد أربعين سنة على الحرب

حين انطلقت شرارة الحرب الأهليّة عام 1975، قيل إنّ فوفو ونونو (في إشارة إلى أنّ الشابّ المسيحيّ مدلّل غنّوج) لن يقفا في وجه الفلسطينيّين والأحزاب الوطنيّة...

لكنّ فوفو ونونو فاجأا العالم، وجعلا الحربَ تطول، والمسيحيّين يصمدون. لكنْ... لكن في تلك المرحلة لم تكن الأركيلةُ سيّدةَ الساحات، ولم تكن المساعِداتُ الأسيويّاتُ يجمعن الغسيل الوسخ عن الأرض، ولم تكن المخدّراتُ مخدّاتِ الأحلام السعيدة وصولًا إلى الموت السريع، ولم يكن الشذوذ الجنسيّ موضة، ولم تكن النكات السمجة والبذيئة آخرَ صيحة في عالم الحوار وعِلم الكلام، ولم تكنِ الأمّهاتُ رائداتِ نوادي الرياضة والتدليك...

في تلك المرحلة، قبل جينز البطريرك الراعي، وأغنيات الأب فادي تابت، وفضائح الرهبان الجنسيّة والماليّة، كان نسك الأودية والقمم ينجبُ ثورةَ المطران الأحمر غريغوار حدّاد وفلسفة المستقيم الرأي شارل مالك وفكرَ العالِم يواكيم مبارك وشعرَ اللاهوتيّ ميشال الحايك... وقداسة الشهداء.

في تلك المرحلة، قبل إطلالات ميشال الحايك ومايك فغالي وليلى عبد اللطيف ومالك مكتبي وديمة صادق ومريم نور وتيتا لطيفة وأرزة الشدياق وماريو باسيل وجو معلوف وفادي وكارين رزق الله ومايا دياب ومريم كلينك عبر شاشات محسوبة على المسيحيّين، كانت برامج فؤاد افرام البستاني وإيلي صليبي وعادل مالك وجان فيّاض وجان كلود بولس وكميل منسّى ورياض شرارة ونجيب حنكش وميشال معيكي ومي منسّى وشارلوت وازن الخوري وجاندارك فيّاض ونهى الخطيب سعادة وكابي لطيف، تؤنسُ ليلَ الناس وتنيرُ عقولهم...

في تلك المرحلة، قبل "جسد" جمانة حدّاد (العلمانيّة الملحدة) كان (ت) هناك "شعر" أنسي الحاج (عاشق القدّيسة ريتا ومترجم نشيد الأناشيد) ويوسف الخال (مترجم الكتاب المقدّس)، وقبل متسوّلي شارع الحمرا كان هناك صحافيّون حوّلوا المقاهي منابرَ، وشعراءُ حوّلوا الأرصفة قصائدَ، وقبل حجابٍ يُخفي الوجوه كانت تنّورة "الميني جوب" تكشف الساقين ...

في تلك المرحلة، قبل جبران باسيل وستريدا جعجع وميشال فرعون ونقولا فتّوش، كان الأخوان رحباني وزكي ناصيف ووليد غلمية وروميو لحّود يبنون لنا وطنًا شامخًا، ذكيًّا، عفيفًا، هادئًا،...

في تلك المرحلة، قبل أن يصيرَ خروجُ التلامذة للنزهة تحت الأشجار نشاطًا تربويًّا تفتخر المدرسة بإنجازه، كان المسيحيّون يتبادلون قصص التدريس تحت سنديانات عتيقة تنشر فيئَها على كنائسَ تحضن العِلم... وكنّا مقتنعين بأنّنا معلّمو معلّمي العالم، كما أقنعنا أنطون سعادة وسعيد عقل، لا تلامذة أغبياء أمام مفتّش تربويّ من أميركا (أميركا نفسِها التي تفتّت بلادنا) أو فرنسا (فرنسا نفسِها التي استعمرتنا) نرجوه كي يزور مدارسَنا، ليعلّمنا كيف نعلّم...

في تلك المرحلة، قبل أن يأسرَ المسيحيّون أنفسَهم بين نفقَي نهر الكلب وشكّا، كانت بعلبّك قِبلة مهرجاناتٍ أنشأتها السيّدة الأولى زلفا شمعون، وكانت صيدا حكايةً من حكايات سعيد عقل، وكانت صورُ أميرةُ البحار جرنَ معموديّةٍ خرجت منه أليسار، وكانت طرابلس عاصمةَ الشمال حيث القلب، لا عاصفةً تحمل غبارَ التعصّب وتذروه في عيون الإنسانيّة...

في تلك المرحلة، وقبل أرحامٍ على صورة سوبرماركت أطفال، كانتِ النساء يُنجبن رجالًا وأخواتِ رجال، وقبل أثداءَ تشرئبُّ بالسيليكون، كانت الصدور تدرّ حليبًا صافيًا، وقبل رؤوس محشوّة بسخافات التلفزيون وترّهات التحاليل السياسيّة عبر تويتر وواتس آب، كانت العقولُ تحلّق بحثًا عن المعرفة...

في تلك المرحلة، كان فوفو ونونو وأترابُهما أطفالًا عندهم جدّاتٌ يُحكنَ الكنزات ويحكين القصص لا جدّاتٌ مدمنات فيسبوك، وكان عندهم أجدادٌ يزرعون الوعر، لا أجدادٌ يزرعون الطرقاتِ جيئة وذهابًا من الضجر، وكان عندهم آباء وأمّهات يجلسون قربهم عند الصلاة والدرس لا آباء وأمّهات غارقون في قضايا الخيانة والطلاق وتحديد نسب كلّ ولد من الأولاد...

في تلك المرحلة، فاجأ فوفو ونونو العالم بصمودِهما...

أمّا اليوم، فرجاءً لا تضعوا في رأسيهما أنّ الحربَ لعبةٌ سهلة، وأنّ البندقيّةَ خفيفةُ الحمل، وأنّ لبنانَ وطنُ الرسالة، بل حمِّلوهما جوازَي سفر (الشهادة المدرسيّة والجامعيّة أمر بسيط)، ليرحلا إلى بلد آمن، أو على الأقل أقنعوهما بأنّ هذا الوطن لا يشبه في شيء ما كان عليه منذ أربعين عامًا... وأنّنا - ما لم نُطلقْ ثورة روحيّة تربويّة اجتماعيّة فكريّة ثقافيّة - لن "نبقى هون مهما العالم قالوا"... وأنّ لبنان مش "راجع يتعمّر" على قياس لبنانَ أجدادهم، وأنّ الوقوف على أطلالِ "مجد لبنان أعطي له" يتطلّبُ رِجلين ثابتتين على أرض صلبة... لا جناحَي طائرة تحمل الراعي وخرافَه بعيدًا عن مزارات شربل ورفقا والحرديني... ومتاحفِ جبران ونعيمة والريحاني... وأرزات بشرّي وجاج الباروك...

13 نيسان 2016: بوسطة عين الرمّانة

لا أعرف إن كان من خطّط للحرب اللبنانيّة اختار أن تكون في منطقة عين الرمّانه لما يحمل اسم هذه البقعة الجغرافيّة من رموز. ففي تعابيرنا العاميّة نقول "عينه حمرا" أي في عينه تهديد ووعيد وغضب يعمي صاحبه، ونقول: "مش رمّانه ولكن قلوب مليانه"، للدلالة على الحقد المكبوت. فهل كانت عين فريق حمراء وهي تنظر إلى فريق آخر، وهل كانت القلوب مليانه إلى حد انفجرت حرب لم تعرف النهاية بعد وإن سكتت أصوات الرصاص وبردت نقمة المدافع.

في الواقع، لا تزال ثمة عيون حمراء لا ترى سوى الدم، وقلوب ملأى لا تعرف سوى الحقد، والبوسطة، رمز الفرح والنزهات والرحلات وإيصال البريد إلى القرى والبلدات تبرّد قلوب الأمّهات والعاشقات، صارت رمز اقتتال اختلط فيه حابل الداخل بنابل الخارج. وتَشوّه كل شيء: الوطن، والمقاومة، والدين، والأرض، واللغة، والطبيعة، والحياة... وتحطّمت صورة وطن أُعطي صفات كثيرة من دون أن يَعرف ماهيّته وهويّته: ذو وجه عربيّ، بوّابة بين الشرق والغرب، سويسرا الشرق، بلد التعدّد والتنوّع، لبنان الرسالة... لكنّه يبدو يومًا بعد يوم أقرب إلى التشرذم والتفتّت تحت عوامل الفساد والهجرة. يقولون إنّ بوسطة عين الرمّانه التي تحمل فلسطينيّين ما كان يجب أن تمرّ في تلك المنطقة، وأنّ ثمّة شرطيًّا وجّهها إلى هناك.

لكنّ تقارير المخافر لا تلحظ وجود شرطيّ في تلك المنطقة... وهل كانت المؤامرة لتعجز عن وضع شرطيّ مزيّف، أو عن ابتكار وسيلة أخرى تشعل فتيلًا محاطًا بكلّ أسباب الانفجار؟ ولو كان ثمّة رغبة في التعلّم والاتّعاظ لكان على بوسطة عين الرمانه أن تجول في المناطق والبلدات لتخبر الناس بأنّ الحرب ليست نزهة ولا رحلة، لعلّ العيون تبرد والقلوب تهدأ!

13 نيسان 2020: بين ثورة 17 تشرين وانفجار مرفأ بيروت


بعد أشهر على انطلاق ثورة 17 تشرين الأوّل 2019، وبعد انطلاقة عفويّة واعدة، عاد التشرذم سيّد الموقف ورجع أكثر المشاركين فيها إلى طوائفهم وأحزابهم، وهكذا صارت الثورة ثورات، والشعارات مصدر خلاف لا وحدة. وساعد في ذلك التربة الطائفيّة الخصبة، وجائحة الكورونا التي حجرت الناس في بيوتهم، والتهاء الناس بسحب ودائعهم من المصارف، وتخزين المأكولات والأدوية في بيوتهم... فخلت الشوارع إلّا من متسوّلين صغار لا يجدون من يلتفت إليهم، ولصوص كبار يقتحمون البيوت بحثًا عن طعام ومحروقات للتدفئة.

تبدو الحرب في لبنان أسهل من الثورة. لذلك لن ندهش إن وجدنا الناس الذين انسحبوا من الثورة يهرعون إلى الحرب إن وقعت. فالحرب تنفيس لحقد، والثورة رغبة في المصالحة... الحرب انتقام فرديّ أو حزبيّ والثورة وحدة في وجه نظام... الحرب هدم سريع والثورة عمليّة بناء قد تستغرق العمر كلّه... الحرب سرقة وربح سريع والثورة ترفّع عن الاستفادة والاستغلال...الحرب ندب وبكاء، والثورة أغنيات فرح وأناشيد أمل... ومن الواضح أنّنا شعب يعمل جاهدًا كي يقتل الثورة، أي ثورة، وكي تشتعل الحرب.

وبعد ذكرى حرب الـ 75 بثلاثة أشهر انفجر مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ومع فظاعة الجريمة وبراءة ضحاياها، لم يتوحّد اللبنانيّون، بل انقسموا بين متّهِم لحزب الله ومبرّئ له. أمّا إسرائيل فقد حيّدها أكثر اللبنانيّين. وفي حين هزّت الجريمة ضمير المجتمع الدوليّ، نأت الدولة بنفسها، مخلية الساحة المنكوبة للجمعيّات الأهليّة والمجتمع المدنيّ والمساعدات الكنسيّة لكون المنطقة المحيطة بالمرفأ من الأغلبيّة المسيحيّة؛ وبدا لبنان مرّة جديدة عاجزًا عن طي صفحة التشرذم والتفتّت، تاركًا مصيره في مهبّ رياح المنطقة، بينما نشط في الوقت نفسه مرفأ حيفا، وبدأت إسرائيل بإنشاء قناة بن غوريون المنافسة لقناة السويس، ووقّعت الصين معاهدة صداقة وتعاون مع إيران، فبدا أنّ الجميع سيقطفون ثمار طريق الحرير وآبار النفط والغاز ما عدا الفلسطينيّين واللبنانيّين.

13 نيسان 2021

تستعاد ذكرى اندلاع الحرب مع طيّ صفحة مئة عام على لبنان الكبير (1920 – 2020)، من دون أيّ تفاؤل منطقيّ بمئويّة جديدة يحتفل بها لبنان الذي كان. فالتغيّرات الدوليّة والإقليميّة، تقابلها حال غير مسبوقة من الفساد والفضائح، تضع هذا الوطن أمام استحقاقات مصيريّة يواجهها الناس بحالة غريبة ونادرة من الخدر والجمود. فلا جائحة الكورونا حرّكتهم للمطالبة باللقاح والعلاج، ولا سرقة المصارف أموالهم دفعتهم إلى غضب لا يوفّر مؤسّسة أو مركزًا، ولا الفقر الذي اقتحم بيوتهم نجح في شحذ هممهم كي يثوروا من أجل الكرامة ولقمة العيش. وفي انتظار تقاسم الدول آبار النفط والغاز، يمشي التطبيع مع العوز والحرمان واثق الخطوة كما تفعل أكثر الدول العربية مع إسرائيل. فلا يسعنا أمام هذه الصورة المشينة سوى التحسّر على الذين قُتلوا واستُشهدوا واغتيلوا وغُيّبوا وخُطفوا وعُذبوا وأعيقوا وأُصيبت أرواحهم وعقولهم بأمراض لا شفاء منها... من أجل أن تبقى حفنة من الفاسدين، نجحت بوسطة "عين الرمانة" في إيصالهم إلى حيث هم قابعون بلا خجل أو خوف...

13 نيسان 2022

الأرض باقية غير سائلة عمّن يقيم فوق ترابها، والفصول ستتوالى بغضّ النظر عن النظام السياسيّ، والشمس ستشرق على ما تبقّى من قمم من دون أن تطلب هويّة الساكنين عند سفوحها...

لكنْ ثمّة جيل كان في عمر المراهقة حين اشتعلت الحرب، يتقدّم الأنقياء الناجون منهم في العمر وهم يسألون أنفسهم: ألم يكن من الأفضل لو بقي ذاك الـ"لبنان"؟ أمن أجل هذا الـ"لبنان" شاركنا في الحرب وفقدنا من فقدنا؟ جيل متَّهَم بتدمير ما كان وبالعجز عن بنيان ما سيكون... جيل ضيّع في الأوهام عمره، جيل يتّهمه السابقون ويضطهده اللاحقون... جيل شهيد وشاهد... شهيد القضايا الكبيرة والأحلام العظيمة، وشاهد على قوّة الفساد وقسوة الخيانة...

جيل بدأ حياته في الحرب والخطف والقصف والتهجير وينهيها في الفقر والجوع والمرض والهجرة... جيل لا يزال ينتظر نيسانَ جديدًا وجميلًا كي لا يكون الندم آخر كلمة تقال قبل أفول العمر.
***
هذه ملامح من ذكريات كتابيّة بعضها منشور وبعضها بقي مختبئًا بين ملفّات اللابتوب، كأنّ نشره لا يقدّم ولا يؤخّر. لكن جراح الروح والجسد لا تفهم بغير الأنين الذي يصل غالبًا إلى حدّ الصراخ، بينما نحن لا نعلم كيف نُسكت الألم الذي يتجدّد سنة بعد سنة، وكلّ ما نفعله هو استعادة ذكريات الحرب واجترار شعارات التعلّم منها من دون أن نتعلّم فعلًا. لا تأريخ صحيحًا للحرب. لا قراءة واحدة عند المتحاربين. لا اتفاق على مفاهيم هي من أبسط شروط الانتماء (العدو، الحليف، الشهيد، العميل، الفاسد، الخائن...). لا مراجعة نقديّة صادقة لمواقف لم تجلب سوى الهزيمة. لا رغبة في الانصهار في بوتقة المواطنيّة. لا طبيعة نظيفة. لا محاسبة لفاسد. لا مفهوم محترمًا للمواطنيّة... لاءات كثيرة تكاد لا تنتهي في مقابل نعم واحدة: نعم لمزيد من الاقتتال إن على احتلال بقعة جغرافية أو الوصول إلى مركز سياسيّ أو الحصول على كرتونة إعاشة.

لولا 13 نيسان 1975، لكانت المؤامرة وجدت يومًا آخر من شهر آخر من سنة أخرى... وكنّا سننجرّ خلفها، وننجرف في وهْم بطولاتها وسيل دماء ضحاياها مطمئنّين إلى قيامة لن تخذلنا لأنّنا مؤمنون بأنّ أرضنا أرض القدّيسين، وبأنّنا خير أمّة، وبأنّنا أشرف الناس، وبأنّنا أهل العقل والتقى... وما مئات الآلاف من القتلى والمعوّقين والمفقودين والمهجّرين والمهاجرين والمنتحرين والمتسوّلين واليائسين إلّا خير دليل على ذلك!