الأديب اللبناني فؤاد سليمان
 

 

نستضيف، في "الكاتب اليساريّ"، الأديب فؤاد سليمان عبر مقالات من مجموعة "تمّوزيّات" تتخطّى زمنها لتصوّر زمننا، وتعبر حدود المكان لتصف ما يجري في كلّ مكان. ونحن إذ ننشرها فلكي نشير إلى إنّ الوضع اللبنانيّ يبدو، لولا بعض الإضاءات الإبداعيّة الفرديّة، هو نفسه منذ تأسيس هذه الدولة. فالفقر والفساد والعنف وغياب العدالة الاجتماعيّة وامّحاء الحسّ الإنسانيّ وسواها من الموضوعات، لا تزال هي نفسها اليوم، كأنّ اللبنانيّ لم يتعلّم شيئًا من تجارب الماضي أو مآسي الحروب والشرور. ما يدفعنا للتساؤل عمّا يجعل بلادنا عصيّة على الاتّعاظ من أخطائها، رافضة الفكر والوعي والعلم، مصرّة على الإقامة في قبور الطائفيّة، بليدة الأحاسيس والمشاعر: فلا ترى جوهر الدين، ولا تطرب لتغاريد الحريّة، ولا تلفحها نسائم المحبّة، ولا تتنشّق عطر القمم أو تتذوّق طعم السعادة.
"تمّوز" إله الخصب، متى تُخرج بلادنا من صحراء الفكر والأرض لنحتفي بك في قيامة مجيدة؟

(بطاقة هوية)

- وُلد في فيع – الكورة – لبنان عام 1912.

- خرّيج مدرسة الفرير، ومجاز من جامعة القدّيس يوسف في اللغة العربيّة وآدابها.

- أستاذ الأدب العربيّ في الكليّة الثانويّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت (1917 – 1951).

- له الفضل في تأسيس جمعيّة "أهل القلم".

- ساهم في الصحافة اللبنانيّة أديبًا وشاعرًا وناقدًا أدبيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا.

- عُرف باسم "تمّوز" الإله الأسطوريّ، وكان يوقّع به مقالاته الأدبيّة الاجتماعيّة النقديّة في زاوية "صباح الخير" في جريدة النهار، والتي افتتح بها طريقًا جديدًا في أدب الصحافة.

- تولّى رئاسة تحرير مجلّة "صوت المرأة". وله مقالات وكتابات عدّة في "النهضة" و"المكشوف" و"المعرض" و"الجمهور" و"الرائد الطرابلسية" و"كلّ شيء" وغيرها من الصحف والمجلّات.

- منحته الحكومة اللبنانيّة وسام المعارف من الدرجة الأولى عام 1951.

- توفي في 14 كانون الأوّل عام 1951 وهو في التاسعة والثلاثين من عمره.

- أهم آثاره: درب القمر – تمّوزيّات – القناديل الحمراء – يا أمّتي إلى أين – كلمات لاذعة – أغاني تمّوز (شعر) – في رحاب النقد – يوميّات ورسائل.

حكاية الإنسان

"صرّح العالم الذريّ ألن مان: أنّ انفجار قنبلة هيدروجينيّة سيؤدّي إلى تفتّت العالم في دقيقة واحدة..."

يطيب لي أن أرى هذا العالم يتفكّك ويتفتّت، فيصير إلى لا شيء... إلى لا شيء مطلقًا...إلى عدمٍ يضجّ في عدم... وإنّني أرى أنّ اليوم الذي تعود فيه إلى الأرض تلك الظلمة الأولى التي كانت تغمرها، عند البدء، إنّما هو يوم رائع كامل الروعة... إذ، إنّ أيّ شيء أروع من هذا الفراغ الهائل المظلم يدور على نفسه، فيطحن فراغه مظلمًا ظلمة تختبط في ظلمة... والرياح العاتية المجنونة تلفّ الظلمات وتدور في الفراغ الذي لا عمق فيه ولا علو... فراغ... فراغ!

ويسأم الله هذا الفراغ الموحش، فيمدّ يده إلى الأرض من جديد، يصنع إنسانًا، على صورته ومثاله... ويقف الإنسان مرّة أخرى، في وجه ربّه متمرّدًا عاصيًا... ويخرج الإنسان الجديد من الفردوس والمغارة، يكسر ويطحن ويدمّر... ويأكل بعضه بعضًا... ويذكّر الإنسان الجديد، وهو في نشوة الحيوانيّة، أنّ رفيقًا له عاش في القرن العشرين، اخترع قنبلة هيدروجينيّة أدّت في ساعة من الزمن إلى تفكيك عرى الكائنات... وأنّه هو بعض من تلك الذرّات التي انفجرت منذ أربعين قرنًا... فلمَ لا ينفجر مرّة أخرى، فتطبق الظلمة على الأرض؟ ويدمّر الإنسان الجديد نفسه مرّة أخرى... وتعود الظلمة إلى الأرض من جديد...
حكاية الإنسان الكافر لن تنتهي...

إنسان مدود

أنا رأيته، في الشارع، في أفخم شوارع مدينة العلم والنور، بيروت... وأراه في كلّ يوم... ويراه ألوف من الناس، أمثالي، على الرصيف... دائمًا على الرصيف... يمدّ رجله المدوّدة للناس... فيها جورة عميقة... يجفل منها القلب، وتستحي العين. رجل مورّمة، ثقيلة، مهترة، قطعة من لحم يابسة... يفور منها القيح... والدم... والدود...

يمدّها ولا يتكلّم... وكأنّه يترك للدود المنساب فيها أن يقول قوله الرهيب... وكم تمنّيت، لو أنّ هذا الرجل، يضرب برجله الممدودة هذه، وجوه الناس ويطعم هذا الدود، الذين أطعموه رجله بلحمها ودمها.

وكم خيل لي أن أهزّه هزًّا عنيفًا وأقول له:
قم يا رجل، أيّتها اللعنة المطروحة على الرصيف، قم جدّف على هؤلاء الناس. يمرّون بك، ويغمضون عيونهم... قل شيئًا ينكأ جراحهم ... ولكنّ الإنسان المدوّد على الرصيف ... كان يظلّ صامتًا ... يمدّ رجله المورّمة المهترئة للناس.

أنا ما رثيت له، ألقاه هكذا، دائمًا تعجّ الديدان في لحمه.
أنا ما رثيت له، مثلما رثيت لهذه الأمّة، تبني استقلالها وتعمّر قصورها، وتنتفش، وعندها في الشارع، على الرصيف، إنسان يأكله الدود على قارعة الطريق ...

أنا ما رثيت له... مثلما أرثي لهذه الأمّة، دوّدت فيها الضمائر والقلوب!
رثيت لهم، هؤلاء، يحقّرون الإنسانيّة في شعبهم، كأنّما الناس قاذورة في بيوتهم، وكأنّنا بهيمة في مرابط خيولهم ... وما يعرفون، أنّ بلدًا يدَوَّد فيه الناس، هو بلد دماغه مدوّد وضميره مدوّد.

أيّها الحكّام في لبنان ... انزلوا إلى الشارع ... امشوا على الرصيف مع الناس ... أكتافهم بأكتافكم...
انزلوا أيّها الحكّام... لـمّوا عن الرصيف هذه اللعنة التي بصقتموها في وجوه الناس، في وجه الحياة، لـمّوها كي لا تبقى عارًا على جباهكم! 


لن أغلق النافذة

جاءتني الرسالة الجافّة التالية:

يا تمّوز... "يلعنك الله، أغلق نافذتك عن الشارع وعن الناس فعينك شريرة.
لماذا تعرّي الناس في بلادك هكذا، تنكأ الجراح، بمثل هذه السكّين، كأنّك لست واحدًا من هؤلاء الناس. ...

وبعد،
فأنت مقرف يا تمّوز، ويحك، قرّفتني الناس، ونفسي، بمثل مقالك "إنسان مدوّد"، وقزّزت نفسي من الحياة... ويحك. أما تفتح نافذتك على شيء جميل، فمن يوم فتحتها لا نرى إلّا البشاعة في نفوسنا وفي الناس... وتجرّأت على كلّ شيء في حياتنا، فلم تبقِ لنا شيئًا نحبّه ونؤمن به... أفرغت قلوبنا من الإيمان، فأعيادنا جعلتها موائد طعام، وأفرغت آذاننا من آيات البطولة، فسوّدت نهرنا، ومسخت تمثال شهدائنا، وجعلت بلادنا بلدًا للأميّين،... جعلتنا كلّنا أصنامًا، وما استحييت وشوّهت وجه الحقّ وما تنتهي بعد... أغلق نافذتك، أغلقها... ويحك لو كان لي أن ألقاك، لدققت رأسك بالحجارة... وأنا في كلّ يوم أقرأك وألعنك..."
***
يحرسك الله أيّها الجار، يحرسك الله... عرفتك وحزرت من أنت... أنت جاري على كلّ حال، وإن كنتَ لم تحزر من "تمّوز" إلّا أنّه جار لـ"آب"... وستنزل حكاية تمّوز، في حكايات النافذة، في يوم من الأيّام فتعرف من أنا، ومن هو تمّوز... وستحبّني كثيرًا كثيرًا يومذاك ... ولن تلعنني ...

أنت جاري، وعيني على وجهك في كلّ صباح. يحرسك الله، تلعنني لأنّي نكأت جراحك في جراح الناس، وفقأت دماملهم في وجهك فظهرت لك عظامهم عارية من اللحم.

يحرسك الله، نافذتي لن أغلقها، وعيني لن ألـمّها عن عورات الناس.

وفي يدي مقصّ: مقصّ ما تعرف أقسى منه في المقصّات، يمشي في لحوم الناس فما يترك هريانًا، وسنسل من ضلوعهم آخر شريان، للضعف والجبن فيه موضع...

وفي يدي منشار: يعمل صعودًا ونزولًا في عظام الناس ليعيدها فيما بعد صحيحة سالمة قويّة.

وفي يدي مهدّة: سأدقّ لها كثيرًا من الرؤوس، حتّى لا يبقى رأس بليد فارغ، يعيش على حساب الله والناس...

وفي قلبي محبّة كذلك: أنت لا تعرف مدى عمقها، لأنّك لا تؤمن بالمحبّة...

لن أغلق نافذتي، حتّى يصبح الناس في بلادي ناسًا... والله معي...!


مسالخ للجلود

لجنة حقوق الإنسان، جادّة في إحقاق الحقّ الأخير للإنسان!
حقّ التعليم لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فالتعليم الابتدائيّ إجباريّ ومجّانيّ، والتعليم العالي مفتوحة أبوابه لكلّ من تؤهّله كفاءته...
والدولة تحترم حريّة الأهلين وتؤمّن تربية دينيّة وفقًا لعقائدهم...

ما من شكّ في أنّ أكبر مشروع صدر عن هيئة الأمم المتّحدة، هو لجنة حقوق الإنسان، التي جاءت تنتزع للإنسان حقّه من الإنسان...
من يغتصب حقّ الإنسان في الأرض غير الإنسان نفسه؟
الإنسان القويّ يغتصب حقّ الإنسان الضعيف!
الإنسان المتمدّن يغتصب حقّ الإنسان الذي يريد أن يتمدّن!

وعبثًا تحاول لجنة حقوق الإنسان هذه أن تعيد إلى الإنسان حقًّا يسلبه هو نفسه من نفسه...

من يقيم المجازر في الأرض غير الإنسان؟
من يسيّر الشباب قطعانًا إلى مسالخ الحرب غير الإنسان؟ من يخترع الخراب الإنسانيّ ليدمّر الإنسان، وما بناه الإنسان، غير هذا الإنسان الذئب، الذي يريد أن ينتزع حقّ الإنسان من الإنسان؟
عبثًا يعود إلى الإنسان شيء من كرامته، إذا لم تُقلّم أظافر الوحش في الإنسان، وتُخلع أنيابه المدمّاة؟ والوحش في الإنسان ينمو ويترعرع يومًا بعد بوم...
هو ينمو في مستنقعات الدماء وبالرغم من لعنات الأمّهات والزوجات والحبيبات...
إنّه الوحش الذي يعيش في القلب البشريّ!

إذا قدرتم أن تنتزعوا من القلب البشريّ، ما فيه من عفن، ما فيه من دود، وما فيه من حقد، وما فيه من أنانية، وما فيه من كفر... أمكنكم آنذاك أن تعيدوا للإنسان حقّه في الإنسانيّة المحترمة...

ما يهمّ أن تعلّموا الإنسان وأن تؤمّنوا حريّة الإنسان، طالما أنّكم بجرّة قلم تعيدونه عبدًا ذليلًا ليحفر قبره في خندق، أو في جوف حوت، أو في بطن أفعى...

حقّ الإنسان، حقوق الإنسان، حشيش وأفيون يخدّرون به الإنسان ليقودوه إلى الذبح.