طفل الخروج على أخيه


هشام موكادور
المغرب


 

يحدث أن تعاندك الحياة، تريدك طيبا، تريد نفسك شريرا. تريدك حريصا، تريد ذاتك منطلقة مغامرة. تريدك حالما، تريد مداعبة الواقع بوجودك الحر. وتريدك عاشقا عفيفا، وتريد قلبك أن يخفت أمام صرخة الجسد. لكنك تقف حائرا في منتصف الطريق، ما نهلته من الوالد، ما ترسب في عقلك الصغير، ما تشبعت به من حذر منذ الصغر، كل هذا يمنعك من الانطلاق، من تجربة التحدي، وخوض عباب الناس، التورط في مصائب الأحداث، العيش بنكهة أخرى غير التي عهدتها.

وقد حاولت الخروج من ظل أخي "مصطفى"، المراهق الذي أتعب الأسرة، وكمم أفواه أقرانه، وخاض غمار الحروب الصغيرة التي تترك في الروح بهجة الفعل، وعلى الجلد نذوب الصراع.

لم أعد أطيق أخي، فقد كان يحرسني، يكبلني بجوار مربط الأمان، كأنني بنت يُخشى عليها من الضواري. عرفت شكيمته، منذ الصغر. يذهب بمعية عصابته، يسرق "البلوط" من شجر الجبل، ويعود بغنيمته ليمنحني جزءا منها، بعد أن منعني من الذهاب معه، حتى عندما ألحق به من بعيد، كان يقف فوق الهضبة المؤدية الى الجبل، ويأمرني بالانصراف، وعندما أرفض متحديا صارخا بأعلى صوتي "بغيت نمشي معاكوم"، يقذفني بالحجارة، فأجلس فوق حجرة كبيرة ما زلت أذكر تفاصيلها، أو بالقرب من "الطاوة" وهي مبنى من الإسمنت على هيئة قدر، ربما كانت خزان للماء فيما مضى. كنت أفتخر بكون "صطاف"، هكذا ينادونه أصدقائه اختصارا لاسمه.

هو أخي، فتى يقود عصابة مدججة بالسلاسل، والعصي، أحيانا يغير على منطقة "أسكا" التي كان "نور الدين البخاري" زعيمها وفي عداوة كبيرة بينه ومصطفى. كل منهما كان يحكم منطقته بقانونه الخاص. وكل منطقة بامتياز استراتيجي يخصها. فأبناء "أسكا" إذا ارادوا الذهاب الى الجبل فهم مجبرون على المرور من منطقتنا، ونحن إذا أرنا الذهاب الى "نهر أم الربيع" فسنحتاج الى ممر من منطقة "آسكا".

كان أخي إذا أمسك أحدهم، يضربه بلا رحمة، تنطلق من عينه شرارة الغضب، ومن لسانه أقدح الشتائم، ثم ينزع عنه ممتلكاته الصغيرة، وكثيرا ما تكون تلك الغنائم ما يجود به الجبل من "بلوط" و " نبق" و" أعواد "الدفلة". أخي الشرير الذي ينكل بخصمه، يشكل لي مفارقة بأخي الطيب الذي يحرسني من الوحوش البشرية الصغيرة. كنت أفتخر به، وزاد من فخري عندما اعتدى علي " فتيان" منطقة تدعى "حمرية" وسط المدينة بالقرب من سينما "أطلس".

كسروا نظارتي وسلبوني خمسة دراهم كانت بحوزتي. كنت أجلس هادئا على عتبة بيت منحتني صاحبته كأس ماء وواستني في نظارتي المكسورة. عندما رأيت أخي مصطفى وصديقه الضخم "مكاوي" والعصابة المرافقة لهما، انهرت بالبكاء، أمسكني من يدي وجرني بالقوة، وانتقلنا الى حي الجناة. عندما دخلنا حيهم، كلما رأى أحدهم يقول لي " هو هذا" وقبل أن أجيبه، ينهال عليه بالضرب معية رفاقه، جلنا كثيرا في تلك المنطقة، ولم نظفر بما ذهبنا لأجله.. وقبل أن نقترب من البيت، كان يزفر بقوة، ويشتم بأعلى صوت " نشد شي واحد فيهم والله حتى نحو*ه "، ولم ينس أن يوصيني " إذا سولاتك أمي قوليه راك طحتي"، وأخبرت الوالدة بما أوصاني، مع أنني لم أعرف لماذا يجب علي الكذب، وأنا المعتدى عليه ولست المعتدي. ولكن مصطفى كان ذاك طبعه، لن تتوقع ما قد يفعله، ولن يخبرك بالحقيقة كما تحب، كان بئرا من الأسرار، متحفظا جدا، ومتخوفا من أن تتلقف أذن الوالد ما قد يغضبه. لذلك كان الوالد يطلق دائما حكمته "دوز من الواد الهروري، مادوز من الواد السكوتي" فقد كنت أن الواد "الهروروي" أخباري تصل قبل أن أقترفها، وكان أخي الواد "السكوتي" يفعل المصائب ولن تشهد لها دخانا.

ورغم ذلك كنت أتمنى الخروج من جلبابه، ربما كنت أنانيا، سرقت منه رضى الوالد واهتمامه، وأردت كذلك أن أسرق منه سطوة الشارع. ولم أستطع، فقد كنت لين العود، هش الفؤاد، وحيد المنزلة في الفضاء العمومي. لم تكن لي القوة في الضرب والشتم والجرح، أو جرأة الاستحواذ على ممتلكات الآخرين، وكذا الاعتداء بالضرب المباشر والنيل من الخصوم. لم أعد أحب أولئك الذين يخشونني فقط لكوني أخ مصطفى، كأن يقول بعضهم "خليه عليك راه خو صطاف". تعبت من كونه أخي، تعبت من بطولاتي المدونة بالمداد على دفتر أحمر، تعبت من رؤية الفتيات وهن يتحلقن حوله سواء كان رهبة منه أو اعجابا به. تعبت من اهتمامه بي، ومن اعجابه بكوني طفل نشرت له "قصيدة" بملحق ثقافي لجريدة وطنية، وأنني أكتب شيئا لم يقرأه، فقط سمع به في مائدة الغداء عندما تذكره أمي، ويخبره الوالد " كون فحال خوك مهني الدنيا من الصداع". أو عندما تصل اليه أنباء من تلاميذ يدرسون معي.. أجل أردت قتل سطوة الأخ وظله من حولي... فاتجهت اتجاها آخر بعيدا عنه، لا أدري هل هي الصدفة أم نكاية فيه من غير وعي مني.. كل ما أتذكره، أنني تعرفت على سطوة أكبر منه، وأقوى مني... تعرفت على كبيرهم "فؤاد"

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب