من الذكريات المؤلمة التي تهاجمني منذ العام 1982 كلما حلّ شهر حزيران، ذكرى "أبو هلال".

ولمن لا يعرف أبا هلال، هذا العزف النشاز في جوقة مخيم الداعوق للاجئين الفلسطينيين. ثيابه كانت الأكثر تمزقًا، وكرشه الأكثر ترهلًا، ولعابه الأكثر سيلانًا على ضفتي شفتيه وذقنه، وشعره الأشيب كان الأكثر اتساخًا وبياضًا.

أبو هلال، أحد المفردات الفلسطينية، يعرفه الصغير والكبير، حتى نحن الللبنانيون الذين كنا نلتجىء إلى المخيمات الفلسطينية لنتذكر إنسانيتنا التي سرقتها الحرب والقذائف ورصاص القنص.

عندما تعرفنا إليه لأول مرة سألناه عن حاله، فأجاب وكأنه قد تعافى من جنونه:
- أبي قتلوه في الناصرة قبل أمي .. طرحوه أرضًا في صحن الدار .. بشّعوا به. أمي ناحت عليه، وأنا كنت أزداد التصاقًا في حضنها. انتزعوني منها، طرحوني جانبًا، اغتصبوها ثم قتلوها!! هكذا قالت لي جارتنا إم منصور.

سألناه: من فعل بوالديك هذا يا أبا هلال؟
نظر إلينا بغضب، ازدادت خيوط لعابه، لوى عنقه ومضى ... كأنما استخف بالسؤال ... أو ربما "استخرانا".
حاولنا أن نسأله من جديد ... لكنه فر وهو ينادي: في صحن دارنا دم ... دم ... دم.

صور القتل خطوها على وجهك فاستطالت ... من مقتل أبيك، واغتصاب أمك وقتلها، إلى استشهاد جارك المحسن إليك على محور خلدة.

- ما العمل يا أبو هلال؟
- وزّعوا الدم ... الصهاينة وزعوا الدم فوق أرضنا وطردونا ... يجب علينا أن نوزع الدم ونطردهم.
- يا أبو هلال؟
يفر صارخا بين أزقة المخيم حتى يصل صوته إلى شارع الحمرا: في صحن دارنا دم ... دم ... دم.

آخ يا أبو هلال ... أذكر عينيك ... عينيك الأكثر احمرار من غسق المساء ... وفمك الفوار كنبع ماء.
آخ يا أبو هلال ... استوِ على الأرض ... شد قامتك ... استوِ وارفع هامتك ... أنت فلسطيني والليل مهما طال فالصبح آت.

- الليل جثة ميتة...
- والصبح طيف الحياة ...
- والممات؟
- أتخافه؟ منه يولد الشرر، ترقص الناصرة وتغني لتسمع يافا فيأتي الفجر، وفي صحن داركم سيورق الشجر.
- شجر؟
- بخضرة السواعد والشجر ... سيعبر الغم والهم ... انتظر وسترَ .
- والدم؟
- غار وانحسر.
- يا بشر ... في الدار ... في صحنها دم ... دم ... دم.
نحار وهو يمضي مسرعًا ... تاركًا خلف نعليه الباليتان الغبار.

وجنتاك غريبتان... محروثتان ,,. أمن خوف أم من تعب؟ قل ... هل من سبب؟
- في الأولى طيف اغتصاب الناصرة ... وفي الثانية دم أبي والطاهرة.
- أبو هلال؟
- والخوف ... احذروه ... امرأة عاهرة.

أبو هلال إن صدقت رواية جارته، عرف الدم رضيعًا فجن ... وعرف التشرد صبيًا فعن ... لهذا، ومنذ ذلك الحين لا يزال في آذاننا يزن:
في الدار ... في صحنها دم ... دم ... دم.
اغسلوا الدم بالدم ... وإلا سأجن


 

لطفا إدعم الصفحات التالية   

 

مقالات رئيس التحرير   

 

إدعم مشروعنا الثقافي بالاعلان معنا