الكلمة



لا أنكر بأني كفرد أتمنى أن أبلغ ذلك اليوم الذي سأنكب فيه على رتّق
ما يليق بذائقة القارئ، ورغم وجود بذرة الشوق الكامن المنتظر فرصة الإندلاق على
سجيتي، من دون أن يلازمني شبح الحاجة والتفكير بأن عليّ الخروج باكراً إلى العمل
والعودة في المساء، إلا أني لم أنوي البتة كتابة ما يشبه اليوميات في مغتربي المؤقت
بمدينة اسطنبول التركية، ليس لعدم أهمية ما سأدونه في اليوميات، إنما لتصوري الثابت
بأن المنشور اليومي إن خلا من الفكرة أو الحكمة أو المفارقة أو قصةٍ ما، فلا أرى أي
سببٍ يحث المرء على التورط برتقِ أوصال المنشور وإشغال الغير بفتقِ مراميه.
وبما أني عادةً لا أنشغل بقيافتي، فنادراً ما أقف أمام المرآة في الصباح قبل الخروج
من البيت، إلاّ اللهم إذا كنت بصدد تمرير ماكينة الحلاقة على وجهي قبيل الخروج الى
العمل، وحتى وقتها لا أرى سوى طرفي صحن وجهي في المرآة، باعتبار أن مرآة الحمام من
ضيق مساحتها لا تسمح بظهور أماكن أخرى من كل هامة البدن.
وككل الصباحات السابقة خرجتُ صبيحة اليوم الواقع في 30 من الشهر الثامن 2019 من
مستوطني المؤقت في حي "باغجلار" بمدينة اسطنبول، متوجهاً إلى العمل صعوداً باعتبار
أن البيت كائن في منحدر حارة "يلدز تبه" التي تبعد مسافة ربع ساعة لرجل شبه رياضي
من ميدان "باغجيلار"، عموماً فالمسافة بين مخدعي وبين الأوتوبيس الأول الذي أستقله
في الصباح والمساء تزيد عن 1 كم، ومع ذلك لم أشعر بأن هناك ما هو غير طبيعي في
هيئتي اليوم؛ لذا مررت قبيل الوقوف في الطريق العام الذي سأركب فيه الأوتوبيس من
أقرب بقالٍ في الحي، واشتريت من عنده 4 قطع من ماركة TADMAN وهي حلوى مكونة من
الفستق وصلصة العسل الصناعي، وذلك بديلاً عن الفطور الذي لم تحضره لي زوجتي اليوم
بخلاف باقي الأيام، وبما أني لا أحمل في جيبي غير ليرتين ونصف من العملة المعدنية،
إضافة الى 100 ليرة ورقية لا أملك غيرها، فخلت بأن الرجل سيمتعض ويكشر بوجهي لأني
سأناوله المئة ليرة في الصباح الباكر وهو لم يبع أي شيء بعد، إلا أن ذلك لم يحصل،
بل وبكل هدوء أخذ مني الرجل المئة ليرة وأعاد إليّ 90 ليرة ورقية و4 ليرات معدنية،
وحيث أن البقال لم يقل بأن هناك خلل ما في هندامي، لذا تابعت المسير وجاء
الأوتوبيس، صعدت إليه، دفعت ثمن الركوب مباشرة ومن ثم توجهت للجلوس في آخر كرسي من
جهة اليمين، فتحت الكتاب وقرأت عدة قصائد من ديوان الشاعر خوان مانويل روكا، وأعدت
عدة مرات قراءة مفتتح وخاتم قصيدة "أغنية صانع المرايا" حيث جاء فيها: "أصنع مرايا:
أضيف للبشاعة مزيداً من البشاعة، ومزيداً من البهاء للبهاء"*.
كما لم أشعر أثناء فترة تنقلي من "باغجيلار" إلى "بكر كوي" بأن ثمّت نظرات ما من
أحدٍ منهم تود قول شيئ ما عن اللاطبيعي في سحنتي، فنزلت من الأوتوبيس في محطة "قابا
سيتي" في حي "بكر كوي"، ثم مضيت نحو الطريق البحري قاصداً الباص الذي سيقلني إلى
"فلوريا"، وقبيل مجيء الباص قرأت صفحات أخرى من ديوان المرايا، ثم جاء الباص وأغلقت
الكتاب لأتابع مسار صباحي.
ترجلت في موقف "سوسيال تاسيسلري"، وبالمناسبة فالمسافة المتبقية لأن أصل الى مكان
العمل تزيد عن كيلومتر واحد أقطعها سيراً على الأقدام كحال انتقالي بين المحطات
الأخرى.
وصلت مكان العمل، طرقت الباب، ففتحه لي الموظف في الريسيبشن، سلمت عليه ودردشت معه
بعض الوقت، ولم يقل الآخر بأن هناك خطأ ما في ترتيب ملابسي، وجاء الشرطي المكلف
بحراسة المبنى حينها وسلم علينا ولم يلمح هو الآخر لأي شيء لم يكن على ما يرام،
بعدها استأذنتهم ونزلت إلى الطابق 2 لأغسل الفاكهة التي أجلبها معي كل يوم صباحاً
لأتناولها قبل أن يستقبل ثغري أي نوع من المأكولات، حيث صادفت موظف الخدمات على باب
المغاسل ولم يلمح الآخر لأي شيء غريبٍ بي.
استأذنته بعد الدردشة المعتادة وتوجهت للأسنسيل، إلاّ أني بعد أن ركبت المصعد ويا
للمفاجئة حيث كشف لي مرآة المصعد الكبير العيبَ الواضح فيي، وإذ بي أبصرني مرتدياً
قميصي بالمقلوب، وقد قالت لي مرآة الحجرة النازلة الطالعة ما كتمه عني كل من رأى
العيبَ فيي ولم يخبرني عنه، بينما أخبرتني المرايا وأباحت لي بما لم يفعله كل الذين
مررت بهم أو التقيتهم وجهاً لوجه هذا ذلك الصباح؛ وهنا خطر على بالي حيال الأمر
نفسه ما التمسته في النساء من عادات حميدة بهذا الخصوص، إذ من عادة الأنثى أنها إذا
ما رأت أي خلل في ملابس أو قيافة زميلة أو صديقة أو قرينةٍ لها تراها تبادر إلى
إخبارها أو تباشر بنفسها بتصويب الخلل في هندام صديقتها، أو على الأقل تخبرها عما
تراه غير لائق بأناقة صاحبتها، بينما نحن معشر الرجال فنادراً ما نعمل مثلهن حتى
وإن رأى بعضنا ملابس وهيئة الآخر أقرب إلى شكل المجاذيب!!
على كل حال فصحيحٌ بأن اليوم هو اليوم العالمي الخاص بضحايا الاختفاء القسري الذي
يصادف يوم الجمعة في الثلاثين من شهر آب من كل عام، إلا أن غياب المرآة الكبيرة في
منزلي ليس هو السبب المباشر لافتضاح القبح الذي آل إليه حال بدني ذلك الصباح،
وبناءً عليه فلست اليوم من ضحايا المختفين في العتمات رغماً عني، إلاّ أن علىّ أن
لا أنكر قط بأني ضحية استهتاري بعظمة دور المرايا في حياتنا اليومية، إضافة إلى
عادتي السلبية في الخروج مهرولاً من البيت واستعجالي في التلحف بالأردية من دون
إلقاء التحية الصباحية على كاشفة العيوب

أترك مداخلة
شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب

وبما أني عادةً لا أنشغل بقيافتي، فنادراً ما أقف أمام المرآة في الصباح قبل الخروج من البيت، إلاّ اللهم إذا كنت بصدد تمرير ماكينة الحلاقة على وجهي قبيل الخروج الى العمل، وحتى وقتها لا أرى سوى طرفي صحن وجهي في المرآة، باعتبار أن مرآة الحمام من ضيق مساحتها لا تسمح بظهور أماكن أخرى من كل هامة البدن.
وككل الصباحات السابقة خرجتُ صبيحة اليوم الواقع في 30 من الشهر الثامن 2019 من مستوطني المؤقت في حي "باغجلار" بمدينة اسطنبول، متوجهاً إلى العمل صعوداً باعتبار أن البيت كائن في منحدر حارة "يلدز تبه" التي تبعد مسافة ربع ساعة لرجل شبه رياضي من ميدان "باغجيلار"، عموماً فالمسافة بين مخدعي وبين الأوتوبيس الأول الذي أستقله في الصباح والمساء تزيد عن 1 كم، ومع ذلك لم أشعر بأن هناك ما هو غير طبيعي في هيئتي اليوم؛ لذا مررت قبيل الوقوف في الطريق العام الذي سأركب فيه الأوتوبيس من أقرب بقالٍ في الحي، واشتريت من عنده 4 قطع من ماركة TADMAN وهي حلوى مكونة من الفستق وصلصة العسل الصناعي، وذلك بديلاً عن الفطور الذي لم تحضره لي زوجتي اليوم بخلاف باقي الأيام، وبما أني لا أحمل في جيبي غير ليرتين ونصف من العملة المعدنية، إضافة الى 100 ليرة ورقية لا أملك غيرها، فخلت بأن الرجل سيمتعض ويكشر بوجهي لأني سأناوله المئة ليرة في الصباح الباكر وهو لم يبع أي شيء بعد، إلا أن ذلك لم يحصل، بل وبكل هدوء أخذ مني الرجل المئة ليرة وأعاد إليّ 90 ليرة ورقية و4 ليرات معدنية، وحيث أن البقال لم يقل بأن هناك خلل ما في هندامي، لذا تابعت المسير وجاء الأوتوبيس، صعدت إليه، دفعت ثمن الركوب مباشرة ومن ثم توجهت للجلوس في آخر كرسي من جهة اليمين، فتحت الكتاب وقرأت عدة قصائد من ديوان الشاعر خوان مانويل روكا، وأعدت عدة مرات قراءة مفتتح وخاتم قصيدة "أغنية صانع المرايا" حيث جاء فيها: "أصنع مرايا: أضيف للبشاعة مزيداً من البشاعة، ومزيداً من البهاء للبهاء"*.
كما لم أشعر أثناء فترة تنقلي من "باغجيلار" إلى "بكر كوي" بأن ثمّت نظرات ما من أحدٍ منهم تود قول شيئ ما عن اللاطبيعي في سحنتي، فنزلت من الأوتوبيس في محطة "قابا سيتي" في حي "بكر كوي"، ثم مضيت نحو الطريق البحري قاصداً الباص الذي سيقلني إلى "فلوريا"، وقبيل مجيء الباص قرأت صفحات أخرى من ديوان المرايا، ثم جاء الباص وأغلقت الكتاب لأتابع مسار صباحي.
ترجلت في موقف "سوسيال تاسيسلري"، وبالمناسبة فالمسافة المتبقية لأن أصل الى مكان العمل تزيد عن كيلومتر واحد أقطعها سيراً على الأقدام كحال انتقالي بين المحطات الأخرى.
وصلت مكان العمل، طرقت الباب، ففتحه لي الموظف في الريسيبشن، سلمت عليه ودردشت معه بعض الوقت، ولم يقل الآخر بأن هناك خطأ ما في ترتيب ملابسي، وجاء الشرطي المكلف بحراسة المبنى حينها وسلم علينا ولم يلمح هو الآخر لأي شيء لم يكن على ما يرام، بعدها استأذنتهم ونزلت إلى الطابق 2 لأغسل الفاكهة التي أجلبها معي كل يوم صباحاً لأتناولها قبل أن يستقبل ثغري أي نوع من المأكولات، حيث صادفت موظف الخدمات على باب المغاسل ولم يلمح الآخر لأي شيء غريبٍ بي.
استأذنته بعد الدردشة المعتادة وتوجهت للأسنسيل، إلاّ أني بعد أن ركبت المصعد ويا للمفاجئة حيث كشف لي مرآة المصعد الكبير العيبَ الواضح فيي، وإذ بي أبصرني مرتدياً قميصي بالمقلوب، وقد قالت لي مرآة الحجرة النازلة الطالعة ما كتمه عني كل من رأى العيبَ فيي ولم يخبرني عنه، بينما أخبرتني المرايا وأباحت لي بما لم يفعله كل الذين مررت بهم أو التقيتهم وجهاً لوجه هذا ذلك الصباح؛ وهنا خطر على بالي حيال الأمر نفسه ما التمسته في النساء من عادات حميدة بهذا الخصوص، إذ من عادة الأنثى أنها إذا ما رأت أي خلل في ملابس أو قيافة زميلة أو صديقة أو قرينةٍ لها تراها تبادر إلى إخبارها أو تباشر بنفسها بتصويب الخلل في هندام صديقتها، أو على الأقل تخبرها عما تراه غير لائق بأناقة صاحبتها، بينما نحن معشر الرجال فنادراً ما نعمل مثلهن حتى وإن رأى بعضنا ملابس وهيئة الآخر أقرب إلى شكل المجاذيب!!
على كل حال فصحيحٌ بأن اليوم هو اليوم العالمي الخاص بضحايا الاختفاء القسري الذي يصادف يوم الجمعة في الثلاثين من شهر آب من كل عام، إلا أن غياب المرآة الكبيرة في منزلي ليس هو السبب المباشر لافتضاح القبح الذي آل إليه حال بدني ذلك الصباح، وبناءً عليه فلست اليوم من ضحايا المختفين في العتمات رغماً عني، إلاّ أن علىّ أن لا أنكر قط بأني ضحية استهتاري بعظمة دور المرايا في حياتنا اليومية، إضافة إلى عادتي السلبية في الخروج مهرولاً من البيت واستعجالي في التلحف بالأردية من دون إلقاء التحية الصباحية على كاشفة العيوب


شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب