القصة



يترنح الصيف مغشيا عليه فوق أجساد الفقراء. ينام في حفرة تسمى "مدينة" تحرسها الجبال من زحف الجفاء. يحول الإسفلت المزفت الى وحل تلتصق به أقدام المشاة. يترنم راقصا على زفرات كارهة له تخرج من جوف العتاة. لا أحد يفرح به في مدينة الضياع، الهواء ناشف، المنازل قبور أهلها، الأحياء فارغة من وقع الأقدام.. من يملكون مالا، أو أسر على واجهة البحر، يرحلون عنا.. يرحل أصدقائي "الرافيقي"، "أزوكاغ" وغريمي في حب خديجة "بركوش".. إلا أنا ومن هم مثلي، في الصباح أبيع "الهندية" فوق صندوق خشبي قرب مسجد الحي، وفي عصر النهار، أهرول نحو النهر، أغطس جسدي الصغير في الماء، أتركه ينظفني من عرق النهار، ومن أشواك حبات "الهندية"، وكذلك من سخونة الصيف المقيت.
لم تكن عطلته تعنيني في شيء، سوى الراحة من عناء واجبات الدراسة، وكذا من تعب البيع والشراء من أجل اقتناء ملابس الموسم الدراسي وكذا الأدوات المدرسية.
كنت صغيرا، عندما أخذني معه في الرابعة صباحا "أمعزول" وهو شاب شديد البأس، حاد الطبع، غريب الأطوار. مجتهد في دراسته، غير أنه سيصبح فيما بعد مجرما ومغتصبا ويافطة كتب عليها، بين السجن والسجن سجن.. أعود، أقنعني بأن بيع حبات "الهندية" مذرة للربح، وأن باستطاعتي الربح في الصندوق الواحد 30 درهما، وإن كنت شاطرا سيكون ربحي أكبر.
وصدقته، ذهبت معه الى السوق، منحته ثمن الصندوق 30 درهما، واشترى صندوقا من عند أحد الباعة بالجملة، وأشترى لنفسه أربعة صناديق. ثم حملهم فوق عربته، واتجهنا الى حينا، في البداية وضعت صندوقي بجواره، ثم بدأ يعلمني كيف أقشر الحبة للمشترين، كانت تنزلق من يدي وتسقط، بعد أن تترك شوكا مؤلما يرتع فوق جلدة كفي الرقيقة. كان يبيع بشراهة ويضع في جيبه، عندما يأتي أحد المشترين يبيعه مما يملك، وحتى إن توقف عندي، يسرع بشراسة ويدعوه نحوه ليبيعه، وكان يصرخ في وجهي " مالك ما تتعرفش.. قشر هكذا" كان الكلب سريعا في تجهيز الطلبيات، كنت طريا مقهورا ومتوجسا ورافضا لغطرسته. وكل بالي منشغل بالحكة على جسدي ويدي، كلما رآني أفعل ذلك يقول لي "غادي تولف"..
باع كل ما تحت يده في عصر اليوم، وبقيت أنا وصندوقي نتطلع لبعضنا، كنت سأرمي كل شيء وانصرف، وكان صوت يصرخ بداخلي " لن تضيع 30 درهما"، وبقيت حتى أرخى الليل ثوبه على المدينة، بعت كل ما في الصندوق، وكان ربحي 20 درهما على غير ما قال.
ورغم ذلك فقد انتشيت بنفسي، وخصوصا عندما ولجت المنزل وفي يدي 40 درهما وبعض الحبات التي أحضرتها الى الأهل. في الليل لم أنم، كانت كل قطعة في جسدي تلتهب، منعني الشوك المختفي تحت الجلد من النوم، الحكة.. الحكة.. لعنة الليل، وثوبة الصباح..
في اليوم التالي، لم أذهب الى السوق رغم أن "معزول" طرق بابنا، أخبرت والدتي بأنني لن أذهب. ورغم ذلك كان ربح البارحة يغريني، 20 درهما في اليوم.. هذا مكسب شهر تقريبا من بيع أكياس البلاستيك كل يوم أحد.. وقررت مرة أخرى بالمجازفة، ولكن هذه المرة سأشتري الصندوق بنفسي، ولن أدع الشرير "أمعزول" يتآمر علي بعد اليوم. وجازفت، كم مرة حاول معي لأمنحه 30 درهما لشراء الصندوق، فكنت أمتنع قائلا له "بغيت نتعلم" واشتريت الصندوق بكم؟ ب 20 درهما، أبن الكلبة كان كسمسار خسيس مربحه من خداعي كان 10 دراهم.. ولأنني ساذج كفاية نبهته لسرقته إياي، وطالبته بأن يعيد لي 10 دراهم، فأبى.. ولم أنتبه لما هو أكثر أهمية " من يحمل لي الصندوق الى الحي".. لكنه ككل حاذق عاد إلى ضاحكا:
- نهز ليك الكوربة
- مشحال
- 10 دراهم
- لا
ثم منحته ظهري، عندما التفت، وجدته قد وضعه فوق عربته اليدوية قائلا "آخرة كلمة 5 دراهم". وافقت على مضض، وذهبت معه، أعينه في دفع العربة عند كل مرتفع في الطريق. وأمشي بجواره موقع كل منحدر.
في الحي لم أجلس بجواره، فقد تعلمت درسا. " لا تصارع من هم أكثر خبرة منك وابحث عن البدائل". وكان البديل الذي تفتق عنه دهني، البيع بالقرب من مسجد الحي. من حسن الصدف أنني بعت ما في الصندوق بسرعة، بل تمرنت أصابعي في تقشير حبات الهندية، وكان ربحي قريبا من 30 درهما. ذهبت عنده راقصا، رآني مندهشا "ساليتي" أجبته "بالإيجاب" ثم أردف " اجي تعاوني".. وساعدته قليلا، وبعدها غادرته، خبأت المال فوق نافذة مغلقة قريبة من سقف غرفة الوالد، وهرولت نحو النهر.. وأصبح الصندوق صندوقين وثلاثة صناديق، وازداد الربح ومعه الخبرة، حتى الحكة لم يعد لها أثر، فقد أصبحت جزءا مني، كما أصبحت الكثير من مطبات الحياة جزءا مني، بما فيها الرغبة القاتلة في خديجة أصبحت عادية، أحبها أجل، أريدها أجل، وربما جمال العشق من بعيد هو من يلهم الشعراء.. ربما هذا ما ألهمني من غير وعي مني بما أشتاق اليه وأريده.

أترك مداخلة
شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب

لم تكن عطلته تعنيني في شيء، سوى الراحة من عناء واجبات الدراسة، وكذا من تعب البيع والشراء من أجل اقتناء ملابس الموسم الدراسي وكذا الأدوات المدرسية.
كنت صغيرا، عندما أخذني معه في الرابعة صباحا "أمعزول" وهو شاب شديد البأس، حاد الطبع، غريب الأطوار. مجتهد في دراسته، غير أنه سيصبح فيما بعد مجرما ومغتصبا ويافطة كتب عليها، بين السجن والسجن سجن.. أعود، أقنعني بأن بيع حبات "الهندية" مذرة للربح، وأن باستطاعتي الربح في الصندوق الواحد 30 درهما، وإن كنت شاطرا سيكون ربحي أكبر.
وصدقته، ذهبت معه الى السوق، منحته ثمن الصندوق 30 درهما، واشترى صندوقا من عند أحد الباعة بالجملة، وأشترى لنفسه أربعة صناديق. ثم حملهم فوق عربته، واتجهنا الى حينا، في البداية وضعت صندوقي بجواره، ثم بدأ يعلمني كيف أقشر الحبة للمشترين، كانت تنزلق من يدي وتسقط، بعد أن تترك شوكا مؤلما يرتع فوق جلدة كفي الرقيقة. كان يبيع بشراهة ويضع في جيبه، عندما يأتي أحد المشترين يبيعه مما يملك، وحتى إن توقف عندي، يسرع بشراسة ويدعوه نحوه ليبيعه، وكان يصرخ في وجهي " مالك ما تتعرفش.. قشر هكذا" كان الكلب سريعا في تجهيز الطلبيات، كنت طريا مقهورا ومتوجسا ورافضا لغطرسته. وكل بالي منشغل بالحكة على جسدي ويدي، كلما رآني أفعل ذلك يقول لي "غادي تولف"..
باع كل ما تحت يده في عصر اليوم، وبقيت أنا وصندوقي نتطلع لبعضنا، كنت سأرمي كل شيء وانصرف، وكان صوت يصرخ بداخلي " لن تضيع 30 درهما"، وبقيت حتى أرخى الليل ثوبه على المدينة، بعت كل ما في الصندوق، وكان ربحي 20 درهما على غير ما قال.
ورغم ذلك فقد انتشيت بنفسي، وخصوصا عندما ولجت المنزل وفي يدي 40 درهما وبعض الحبات التي أحضرتها الى الأهل. في الليل لم أنم، كانت كل قطعة في جسدي تلتهب، منعني الشوك المختفي تحت الجلد من النوم، الحكة.. الحكة.. لعنة الليل، وثوبة الصباح..
في اليوم التالي، لم أذهب الى السوق رغم أن "معزول" طرق بابنا، أخبرت والدتي بأنني لن أذهب. ورغم ذلك كان ربح البارحة يغريني، 20 درهما في اليوم.. هذا مكسب شهر تقريبا من بيع أكياس البلاستيك كل يوم أحد.. وقررت مرة أخرى بالمجازفة، ولكن هذه المرة سأشتري الصندوق بنفسي، ولن أدع الشرير "أمعزول" يتآمر علي بعد اليوم. وجازفت، كم مرة حاول معي لأمنحه 30 درهما لشراء الصندوق، فكنت أمتنع قائلا له "بغيت نتعلم" واشتريت الصندوق بكم؟ ب 20 درهما، أبن الكلبة كان كسمسار خسيس مربحه من خداعي كان 10 دراهم.. ولأنني ساذج كفاية نبهته لسرقته إياي، وطالبته بأن يعيد لي 10 دراهم، فأبى.. ولم أنتبه لما هو أكثر أهمية " من يحمل لي الصندوق الى الحي".. لكنه ككل حاذق عاد إلى ضاحكا:
- نهز ليك الكوربة
- مشحال
- 10 دراهم
- لا
ثم منحته ظهري، عندما التفت، وجدته قد وضعه فوق عربته اليدوية قائلا "آخرة كلمة 5 دراهم". وافقت على مضض، وذهبت معه، أعينه في دفع العربة عند كل مرتفع في الطريق. وأمشي بجواره موقع كل منحدر. في الحي لم أجلس بجواره، فقد تعلمت درسا. " لا تصارع من هم أكثر خبرة منك وابحث عن البدائل". وكان البديل الذي تفتق عنه دهني، البيع بالقرب من مسجد الحي. من حسن الصدف أنني بعت ما في الصندوق بسرعة، بل تمرنت أصابعي في تقشير حبات الهندية، وكان ربحي قريبا من 30 درهما. ذهبت عنده راقصا، رآني مندهشا "ساليتي" أجبته "بالإيجاب" ثم أردف " اجي تعاوني".. وساعدته قليلا، وبعدها غادرته، خبأت المال فوق نافذة مغلقة قريبة من سقف غرفة الوالد، وهرولت نحو النهر.. وأصبح الصندوق صندوقين وثلاثة صناديق، وازداد الربح ومعه الخبرة، حتى الحكة لم يعد لها أثر، فقد أصبحت جزءا مني، كما أصبحت الكثير من مطبات الحياة جزءا مني، بما فيها الرغبة القاتلة في خديجة أصبحت عادية، أحبها أجل، أريدها أجل، وربما جمال العشق من بعيد هو من يلهم الشعراء.. ربما هذا ما ألهمني من غير وعي مني بما أشتاق اليه وأريده.


شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب