أشباح في زمن عطب


رزكار نوري شاويس
كوردستان


 

القصة

 
مجلة الكاتب :: رزكار شاويس

كبدايتها الغامضة هكذا جاءت نهايتها، وكسابقاتها من الحروب، انتهت هذه أيضا بهزيمة الأنسانية.
 
ذهب اليها بحثا عن بطولات يتباهى بها وعندما عاد لم يكن هو، و لم تكن مدينته هي ، لم يرحب بعودته أي كان، فكل من كان يعرفهم رحلوا، كل بطريقة ما، لم يتركوا ورائهم أثرا ولا عنوان .. حتى شواخص قبور المقبرة الجديدة كتب على اغلبها عبارة (مجهول) ..

كان في تيه، يسير بحيرة في أزقة وشوارع فقدت اتجاهاتها، يبحث بين الأطلال والخرائب عن انتماءه و ذاته، يلم ماتبقى له من ذكريات. يجر خطاه كغريب يستكشف ما حوله وفي قلبه رهبة من عزلته الكئيبة في الصمت الثقيل الذي يطبق على كل شيء؛ ومن عيون تتلصص عليه بتوجس وحذر وكأنه شبح هارب من الجحيم تلاحقه اللعنات، ويتجنبوه كجرثومة وباء قاتل سرعان ما يتفشى ليكتم آخر انفاس المدينة .. ربما كانوا يرون في اسمال المحارب الرثة التي عليه وبريق الوسام الذي يزين صدره الكارثة التي حلت بالجميع، يبتعدون بخطى ثقيلة ووجوه كالحة جمّدها السخط كأنها هياكل صبّت من شمع رديء على عجل، تمضي بلا هدف وهدى ولا تزال لا تصدق معجزة خلاصها من الحريق الكبير ..!

أخيرا، ندت منه أهة ارتياح ضعيفة ..!

هنا في هذا المكان، تحت القوس الحجري العتيق الذي يطل على فسحة الرصيف الموازي للنهر، عثر على مكان ينتمي اليه، جال ببصره في الموقع .. أجل أنها هي ، جنته المفقودة.
في يوم ما من تأريخ مضى في حما هذا القوس الحجري اعتادا ان يلتقيا سرا. كانت تنتظره لساعات عندما كان يتخلف عن الموعد، وكان ينتظرها حتى الفجر عندما كان أهلها يمنعونها من الخروج.
كانت فتاة ما، صبية من صبايا زمن ما قبل الحرب، زهرة من ازاهير ما قبل العاصفة ورياحها السموم .. ذكية وشجاعة، تملك افكارا تسبق زمنها وتحلم بعالم أفضل للجميع، عالم بلا خوف و استبداد، شريعته الرحمة و التسامح ونسيجه التعايش بين اجناس البشر .. عالم يتوفر فيه العمل والخبز، الدواء والكساء الدافيء الجميل للجميع .. تحلم بعالم نقي كقلبها الرقيق العامر بالأمل والحماس رغم قسوة الأيام وأحوال الحياة في ظل حكم دكتاتور بغيض .. قلبها الذي كان ينبض حبا صافيا ويدق خجلا عندما كانا يلتقيان.
 
وعدها بأنه سيغيّر العالم ..!
لم تسأله كيف
ومضى الى الحرب ولم يعد الى هذا المكان منذ ذلك الحين.
* * *
أنتبه لوقع خطوات تقترب ..!
خطوة تسحب أخرى، تدق الأرض الصلبة بتكاسل وتعب. التفت بحذر الجندي المكلف بمهمة استطلاع .. هناك من الظلام تحت القوس الحجري بان طيفها، واحدة من بنات الليل ..
استغرب حضورها، فأمثالها لايبحثن عن الزبائن في مثل هذه الأماكن .. ربما ضلّت الطريق، أو هي ايضا جاءت تبحث عن ذكريات لا تدري اين فقدتها، أو عن ملاذ تحتمي به من أمر ما ..!!
لمحته ، شهقت وهي تضع يدها على صدرها وثبتت في مكانها مرتعبة، ترمقه بحذر قطة خائفة ، متحفزة للفرار.

هو ايضا تجمد في موضعه، كان في حيرة من امرها، لم يقل شيئا في انتظار ما سيئوول عليه أمر هذا اللقاء غير المتوقع ..

تغلبت على مخاوف القطة المذعورة فيها، تجرأت وتقدمت بحذر نحوه، تراجع خطوة بغريزة اكتسبها من الحرب .. حذرته:
- انتبه، ستسقط في النهر
جائه صوتها مبحوحا، فيه تعب والم، ابتسمت:

- لا تخف ايها الجندي الضال ، لن تلتهمك الغولة كان لا يزال يحدق فيها بريبة ..
انتابتها نوبة من السعال، اقتربت منه أكثر وعينيها الجاحظتان مسمرتان على عينيه، توقفت أمامه بخطوة ..
لفت بقايا نسيج كان شالا في يوم من الأيام حول جسدها، ثم مدت رقبتها تتفحص الوسام على صدره ..
بحركة لا ارادية غطى الوسام براحة يده  ... قالت بنبرة ضاحكة ساخرة:
 - لن اسرقها منك يا بطل (هزت رأسها مستنكرة) لا حاجة لي بالبطولات (شدت شالها حولها بقوة اكثر، سألته و هي توميء برأسها للوسام و كأنها تؤنبه) غير هذا الشيء هل وجدت شيئا أخرا في حربك أيها الجندي ..؟
كانت تنظراليه بتحد ..
قال بارتباك من يدافع عن موقعه بعد غارة مفاجئة:
- يالها من ليلة ملعونة باردة .. ( قال لنفسه – لا بأس من هدنة معها) .. ما رأيك يا بنت في أن نوقد نارا بهذه الأغصان المتيبسة حولنا ، ندفيء به انفسنا ..
- لم لا .. هيا لنجمع شيئا منها.
* * *
أمام نور و دفء النار التي اوقدوها وعلى انغام هسيسها الناعسة شاركها اخر رغيف و كل ماتبقى من خمرة كانت يحتفظ بها بحرص في جعبته البالية .. منحها سيجارة تناولتها منه بلهفة وامتنان ثم اخذا ينفثان بصمت الدخان بشغف المدمنين أو المحكوم عليهما بالفناء ..!
لم يسألها عن اسمها وعنوانها و لم تسأله هي ايضا، فليس للأسماء أهمية فهنالك الالاف يحملون اسمها واسمه تحولوا الى مجرد ارقام، و الأسماء غالبا تحمل ذكريات حزينة هم في غنى عنها .. والعناوين ايضا لا أهمية لها في مدن مدمرة نهشتها القنابل و شوتها الحرائق ..
الذي كان يهمه هو أن يسألها عن الكدمات الزرقاء على وجهها وحول عينها المتورمة والجرح الطري على جبينها ..
فهم منها انها تعرضت للأعتداء من قبل شبان سكارى.
كانت تبدو فعلا و هي ملتفة بشالها امام النار كقطة بائسة تمكنت من الفرار والأختباء في ركن منزوي بعد ان اشبعها صبية أشرار ضربا و تعذيبا ..
قالت بحزن:
- غالبا ما اختلي بنفسي هنا، انها ملاذي الذي العق فيه جراحي ..
حكى لها بالتفصيل حكايته مع المكان و كل ماضيه قبل الحرب، كانت تصغي اليه باهتمام و بين حين و أخر كانت تعدل بأناملها خصلة الشعر على جبينه التي سرعان ماكانت تتدلى من جديد .. ثم حكت بدورها حكايتها ..
* * *
سألته بحزن :
- هل قتلت أحدهم في الحرب ..؟
انعكس وهج اللهب الأحمر في بؤبؤ عينيه الرماديتين، فوجيء بسؤالها الغبي، قهقه ضاحكا فبدا كذئب يكشر عن انيابه ويزمجر:
- في الحرب من لا يَقتِل يُقتَلْ .. (حكّ صدغه) جعلوا مني قناصا مهنته القتل، يقتل ويقتل من يشاء وهو مستلق بكسل وتراخي في جحر أمن (وضع سبابته اليمنى على وسامه) قالوا لنا الحرب مدرسة .. أنا تخرجت منها سفاحا (صمت لبرهة لاهيا نفسه بتقليب النار بعصا طويلة، ثم رماها هي الأخرى في اللهب). انتهت الحرب وانا أدمنت القتل .. أجل لا تندهشي فأنا أشتهيه (ابتسم بمرارة و قال بسخرية) لا بأس فالجريمة تزدهر بعد الحروب، سأعرض على احدى عصاباتها خدماتي وخبراتي .

أمسك بذقنها بلطف :
- و أنتِ يا قطة ، كم عدد ضحاياكِ ؟
جفلت .. - أنا ؟!! أنا كنت الضحية القتيلة دائما، شبعت موتا، لكن روحي الشقية نكاية بي تأبى التحرر من ذؤابة هذه الحياة التافهة امعانا في تعذيبي .. (تنهدت) آه يا عزيزي القناص كم اتمنى أن اموت موتا يحررني من كل شيء . * * *
رمى في النار ما تبقى من حطب، سرعان ما التهبت وهي تفرقع، مع لظى اللهب الذي تناثر شواضه كنجوم صغيرة انتهى زمنها، بدت ملامحها أكثر رقة ونعومة، واصطبغت وجنتاها بحمرة خفيفة ..

شعر بأنه يعرفها منذ قرون، تأملها بعمق، بألفة وحيرة من يريد أن يطرح سؤالا .. أحرجها الموقف، سألته: - ماذا ؟!! مد يده و أمسك بيديها، تلاقت نظراتهما، ضمها اليه وقبلها .. قالت: - هل تقبّلتني أنا ، أم هي ؟ - أنتِ، أقبلكِ أنتِ

بحنان حزين، مشطّت بأصابعها شعره، أرادت أن تقول شيئا، لكن نوبة جديدة من السعال منعتها من ذلك .. ابتسمت وطلبت منه سيجارة أخرى، اشعلها و قدمها لها، سحبت منها نفسا عميقا ثم جرعت ثمالة الخمرة بجرعة واحدة ..

فاجأها مرة أخرى: - هل تتزوجيني ؟ ردت بذهول: - هل فقدت صوابك؟ - نعم .. بكل تأكيد، انه يناسبنا (هبّ واقفا و هو يقول) حَلّتْ لحظة الخلاص ..

سحبها من يدها برقة و حنان - تعالي يا حبي البائس نتعرى، يعمدنا هذا المحراب الهرم بمياه هذا النهر الذي لا يتعب ولا يشيخ، هذا النهر الذي سمع و رأى كل حكايات الزمان .. تعالي نغوص في عمقه الظمآن الى الأبد عسى يرتوى من خطايا لم نرتكبها في عالم مجبول بالأثم و الخطيئة، عالم مدنس بجيفة اسمها الحياة ..

على حافة الرصيف الموازي للنهر تعّريا .. تعانقا، قبّلها بشغف، واحتضنته بقوة

سألها: - هل أنتِ خائفة؟ - معك أيها المنقذ لا .. انطفأت الجذوة الأخيرة للنار، وهبّت ريح ساخطة تكنس الرماد.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب