واحات
المزيد للكاتب


كنت صغيرا، كانت الأحلام –أحلام اليقظة- كبيرة جدا. ما أراه في
العالم الخارجي، من لعب عن الآخرين، وممتلكات تتدفق عليهم، كانت طعامي لليالي التي
أحجب فيها رأسي الصغير تحت الغطاء، أبدأ بنسجها على مقاسي، أمتلك منها ما أفتقره،
أصبح ما أحب أن أكون عليه. غير أنني كنت ساذجا ببراءة طفل، كلما جلست أمي مع
صديقاتها، أكون فرحا. وأنا ألعب بجوارهن، وعندما تظهر أمرأة قيل عنها بينهن شيئا
سيئا، أكرهها.. رغم أنهم عندما يرونها يرحبن بها، ويقدمن لها مكانا بينهن،
ويلاطفنها بالكلام، فإنني أبقى أحمل عنها شيئا غريبا بداخلي، شيئا مزيجا من الحقد
والخوف.. وكثيرا ما أتفوه أمامها ما قيل عنها، حينها كانت أمي تنقد الموقف وتنادي
عاي "أجي المبلوز، هاك الحلوى"، ثم أذهب عندها، لتضعني فوق ركبتها، تمنحي قطعة
حلوى، وابهامها وسبابتها على فخدي، كلما هممت بقول شيء يتداولنه في الخفاء، تقرسني
الوالدة. وأصمت. كم مرة نبهتني بأن لا أتدخل في عالم الكبار، لكن عقلي الصغير وكأنه
لا يحب تخزين الفظاعة البشرية أقذفه خارجا لفظا.
وربما هذا الطبع الذي جعلني ما أنا عليه في الكبر، وهو الذي نصحني به الرفيق خالد
الصافي عندما قال ذات مساء "إنك تجلب على نفسك حروبا مجانية، لا ناقة لك فيها ولا
جمل". اتفقت معه في ذلك، وهمست لنفسي بأنني يجب حراسة لساني ومدادي من الزلل، ومن
يستطيع فعل ذلك فقد كان دائما "الطبع يغلب التطبع. لا أذكر كم مرة سمعت أمي تقول
لنساء الجيران عندما يتحدثن كعادتهن عن أزواجهم وأبناءهم " هشام من بين اخوته كان
ولادته مؤلمة" ربما لذلك كانت تتذكر يوم مولدي "الأربعاء في الثالث من ماي"، وكذا
ساعة صرختي وأنا أعانق الوجود " حوالي العاشرة صباحا". كنت تقشعر فرحة بذاخلي وأنا
أسمع شفاه أمي المقدسة وهي تذكر إسمي، لم يكن يهمني ما تقول عني، يكفي أنها نطقت
إسمي من بين إخوتي.
ولي سذاجة أخرى مع والدي؛ كان والدي في بعض الأحيان عندما يخرج المسجد يجود على
المتسولين، وأحيانا كان يمنحني نقودا لأمده بيدي لأحدهم. فجأة تحولت متسول
بالوساطة، ازعج أمي لتمنحي 20 سنتيما، بمجرد الحصول عليها أهرول لأمنحها لأحد
المتسولين، لا حد لا أعرف ماذا يدفع طفل حصل على ثمن "علك أو حلوى"، يمنحها لغيره.
هل كانت لعبة، هل هي متعة العطاء.. لا أعتقد ذلك، ربما ما يبررها الآن هو محاولة
تقليد الوالد لا غير.
وكنت طفلا محظوظا، لأنني خدي كان عرضا لقبل النساء. يطبعن على خدي الموشح بغمازتين
– أو تشوه جلدي كما كانت تقول حبيبة سابقة من الغيرة هه- شفاههن، وعندما يبلغ
التحمل حده أدفعهن بيدي مديرا رأسي الى الجهة الأخرى ماسحا أثار القبل المفقودة
الآن براحة كفي الصغيرتين. ربما كل طفل مر من تلك الحالة، لكنها نرجسية التذكر، هي
ما يجعلني أركز العالم حولي، أجعله في مخيلتي صورا أحبها. قبل أن يمتد السرد وأبدأ
في الكتابة عن مطبات الكبر، وفضائحه، ربما علي إن وصلت الى تلك المرحلة، الخروج من
السارد "أنا- الطفل" الى سارد أخر يطل علي من فوق، حتى تتجمل الكتابة بالموضوعة،
وتختفي الأنا النرجسية، العاشقة لذاتها واحلامها، وطموحتها الآتية