طاولة والدي


بسام قطيفان
سورية

واحات

 
مجلة الكاتب

كان لوالدي رحمه الله، طاولة عالية فيها درجان وتحتهما ما يشبه الخزانة الصغيرة وكانت تحتوي ما "لذ وطاب" ، أما الدرجين الضخمين ،فكان واحدنا يشعر بالصعوبة عند فتحه وسحبه، ذلك لثقل مافيه .. . كان كلّاً من الدرجين يكاد يغص بالأوراق المطوية بعناية والمدمجة (بأستيكة) من المطاط العسلي اللون.. وبعض الصرر الصغيرة من الخام الأبيض كُتبت عليها اسماء وكلمات لم أكن افهمها في سالف الأيام..أيضاً كان والدي يحب الاحتفاظ بالأقلام المميزة وبعض السبحات القيمة، وهي عادة ورثتها عنه كعادته الأخرى في طي الأوراق بعناية فائقة..

بعد أيام من وفاته، قالت امي افتحوا الأدراج، وأعيدوا للناس أماناتهم، فكل شيء مقيد باسم صاحبه، ومالا تعرفون من هو صاحبه اسألوني فقد كنت أمينة معه على رزق الناس..

أمي لم تعرف القراءة والكتابة يوماً.. لكننا نهلنا منها ما هو أوسع وأعمق مما أخذته من المدرسة والمعلمين ..

لقد كان درج أبي مستودعاً لأمانات الناس والتي كانت بمثابة الثروات لبعضهم. و مدخرات للأيام الصعبة لآخرين..

كانت الصرر ملأى على كل لون.. قطع ذهبية صغيرة وكبيرة، نقود بعملات مختلفة، فضيات،. احجار كريمة، سندات وأوراق عليها بصمات وأسماء.. وكل شيء فعلاً كان اسم صاحبه أو صاحبته مكتوب عليه بخط والدي ، طبعاً كل الاسماء تقريباً، نعرفها لأنها من محيط الأهل والأصدقاء والجوار، والأقارب، بعيدين أو قريبين... كلهم استأمنوا الرجل الطيب على ما يعينهم على غدهم..

لكن لفت انتباهي، صرة ضئيلة الحجم مكتوب عليها باقتضاب ودون اي علامة وتوضيح آخر "أبو احمد"، وكانت الصرة تحتوي على مبلغ متواضع خمسمائة وثلاثة وسبعون ليرة.. ترى من يكون ابو أحمد هذا ونحن في وسط بحر من الأبو أحمدات؟؟!
توجهت لأمي بالسؤال :من ابو احمد هذا؟
- والله يا امي لست ادري، طيب، شو اللي بالصرة؟ ..
- مبلغ ٥٧٣ليرة، كلها من فئة الخمسين ليرة، وعشرتين، و الليرات الثلاث هي معدنية (يقال لها عندنا حجر) ، انفرجت اسارير امي عند سماع الليرات المعدنية، فقد تذكرت ..
- اي، هاظ ابو احمد الضرير جارنا.. هظول حطهم امانة عند ابوكم كي تكون ثمناً لكفنه، وتكاليف دفنه ان حصل له امر الله..

يا للمقادير.. فقد سبق والدي، ابو احمد بالرحيل الذي كان ينتظره ..

ابو احمد الضرير الذي لم يسبق له ان تزوج عاش حياته وحيدا له أرض ورثها عن أهله وبقي يستثمرها له الأهل والأصحاب إلى أن ماعادت زراعتها تفي بمصاريفه ،أو أن أحداً أوحى له ان لا يدع الأرض لورثة لا يستحقون!! فبدأ مع الزمن يبيعها قطعة وراء أخرى ليتمكن من العيش،وإن يصرف على نفسه ذاك المصروف الزهيد .. طال العمر بأبو أحمد أكثر مما توقع، إلى أن نضب كل شيء، طال عمر الرجل لأكثر مما تحمله نقودة.. لكنه استشعر ان نهايته قد تأتي في يوم ما،. ولا يريد أن يكلف احد بتلك النفقات، وان كانت لا تكاد تذكر في بلدنا فأودع هذا المبلغ عند أبي أمانة حتى يأتي أوان استحقاقها.. ...

تذكرت امي اصراره على إضافة الليرات المعدنية للمبلغ المودع عند أبي، حيث انه ليس بحاجتها الآن،وهذا ما اسعفنا في معرفة صاحب الصرة.. ورحلت بذاكرتي إلى قبل عدد من الايام حيث صبيحة وفاة والدي التي كسرتني وشرخت روحي.. إذ لم أر أحداً يحزن أكثر مني على رحيله سوي ابو احمد الضرير، لقد كان منطوياًفي ركن بعيد في دارنا والدمع يملأ وجهه طوال الوقت، يبكي بعيون مطفأة، وبصمت، على من كان يحتضن كأخ و كواحد من أبنائه..
إيييييه، إنها حال الدنيا..
* * *
وقد كنا نموت أقرب ما يكون إلى الترتيب: يموت الأجداد الكبار، ثم الآباء، فالمرضى، فالصغار، فالمواليد الجدد.....
لكننا اليوم وقد أصابتنا لوثة المستبد و جنونه،، يموت المواليد في بطون أمهاتهم ذبحاً، وصار الرجل يدفن فلذة كبده بل واحفاده ويجلس تحت سقف الله يجتر حسرات فؤاده ينتظر الغارة التالية لطائرات "جيش الوطن وغير جيش الوطن" ..
.