معلِّمة البيانو

 

فاطمة ناعوت

مصر

كانت عيناها مُعلّقتين بالأصابع النحيلة. تعلوان، كلما ارتفعتِ الأصابعُ، وتهبطان، كلّما هبطتِ الأصابعُ الصغيرةُ، بحساب دقيق، فوق المفاتيح البيضاء والسوداء؛ لتصنعَ نغمةً أو تُشكِّلَ صمتًا. فالصمتُ جزءٌ من النغم. كان قلبُها يخفق مع أناغيم البيانو التي يعزفها الصغار.

أنْ تستمعَ إلى الموسيقى، فقد ضمنتَ أن روحَك ستظلُّ صافيةً لن تتعكّرَ أو تتشوَّه. وأنْ تعزفَ الموسيقى، فأنت من الطيبين الأخيار الذين يساهمون في ارتقاء البشرية. لأن كلَّ مَن سيُنصِتُ إلى عزفِك، لن تتشوّه روحُه وسوف يحتفظُ بقلبٍ طفلٍ نقيّ يُشيّدُ العالمَ على السلام والرَّغد. وأنْ تؤلِّفَ الموسيقى، فأنت من الاستثنائيين في هذا العالم الذين يُخلّدهم التاريخُ بوصفهم صُنّاعًا لمجد البشرية، مثل مَن شيّد الأهرامات، ومن اخترع مَصلَ البنسلين، ومن اكتشف قارّات العالم، ومن ابتكر نظرية الجاذبية والكمّ والنسبية. أمّا أن تُعلِّمَ الموسيقى، فأنت من النُخبة المُصطفاة من البشر لأنك جمعتَ كلَّ ما سبق من أمجاد، ووجبَ علينا الانحناءُ أمامك؛ ذاك أنَّ مَن ينشرون علومَهم وعصارات أفكارهم، يشبهون الأنبياء وأصحاب الرسالات الكبرى في هذه الحياة.

أعرفُ واحدة من أولئك الرسولات اللواتي حصدن جميع ما سبق من أمجاد وشرف. كنتُ أجلسُ إلى جوارها أتأملُ جسدها النحيل يختلج مع وقع النغم، وأرمقُ عينيها البُنِّيتين تعلوان وتهبطان مع الجوابات والقرارات المعقودة بأصابع الصبيّة الجميلة التي تجلسُ إلى البيانو فوق خشبة المسرح في متحف سوزان مبارك، تعزف الحركة الرابعة من السيمفونية الخامسة التي استلهمها بيتهوفن من وقع قرعات يد صاحب البيت على باب غرفة بيتهوفن المُستأجرة، يطلب الإيجار، الذي لم يكن في حوزة الموسيقار الفقير العظيم، مع بدايات القرن التاسع عشر، فمنحها اسم "ضربات القدر". تنهضُ الصبيةُ الجميلةُ من مقعد البيانو، وتحصد تصفيقنا الحار، ليجلس محلَّها طفلٌ في الخامسة من عمره يعزف مقطوعة أخرى لموتسارت، ثم صبيةٌ أخرى تعزفُ مقطوعة لعمر خيرت، وقلبُ مُعلّمة البيانو الجالسة إلى جواري في الصف الأول من حضور ريسيتال البيانو، لا يكفُّ عن الخفق مع كل نغمة تصنعها أناملُ تلاميذها وتلميذاتها الذين علّمتهم كيف يتذوّقون النغمة وكيف يعزفون على هذه الآلة العملاقة الملكة: “البيانو".

شعرتُ بفرحة غامرة حين علمتُ أن طلاب مدرسة البيانو قد اختاروني بالاسم لكي أُسلّمهم شهادات التخرج والتدرّج بين مستويات التعلّم من الصف الأول وحتى الصف الرابع عشر، جنبًا إلى جنب مع المُعلّمة التي درّبتهم طوال سنوات الدراسة، د. "تريزا عبده"، مُعلّمة البيانو والمايسترا الجميلة. في دار الأوبرا المصرية، قدّمتْ أولَ مقطوعة من تأليفها بعنوان "رومانس"، على الفلوت والبيانو، وهي بعدُ صبيةٌ في الصف الأول الثانوي. وبعد تخرّجها من الكونسيرفاتوار قسم التأليف الموسيقي والقيادة، عزفت مع أوركسترا الجيش المصري بالشؤون المعنوية بالقوات المسلحة، وشاركت في العديد من الحفلات الأوبرالية تحت قيادة أستاذتها د. سمحة الخولي. ثم قرّرت أن تمنح نُسغَ ما تعلّمت من فنون للنشء الجديد، فأنشأت مدرسة لتدريس البيانو والصولڤيج والنوتة الموسيقية بطريقة أكاديمية احترافية، فتخرّج من بين يديها عشراتُ الموهوبين، بعضهم يجلس أمامي الآن أمام البيانو في حفل التخرج الذي تشرفتُ بحضوره ومنح شهادات التفوق لأبنائنا الرائعين الذين تمنيتُ أن يصبح مثلَهم كلُّ شباب بلادي وأطفالها. في كلمتي التي أعقبت توزيع الشهادات تذكّرتُ مقولة أفلاطون العظيمة التي قالها لشعب اليونان بعد عودته من مصر التي استمع إلى موسيقاها وهو يتعلّم العلوم والفلسفة في مكتبة الأسكندرية القديمة "بيبليوتيكا دو لي ألكزندرينا" التي شيدها بطلميوس الأول قبل ثلاثة وعشرين قرنًا. قال أفلاطون: “علّموا أولادكم الفنونَ ثم أغلقوا السجون.” وصدق الفيلسوف العظيم، لأن الفنونَ الرفيعةَ خِصمٌ شرسٌ للجريمة والانحطاط الخلقي.

تحية احترام لكل من تعلّمَ الموسيقى ثم علّمها. وتحية لكل الصبايا والأطفال الذين قدموا الفنَّ الرفيع في ذلك اليوم البهيّ من الأسبوع الماضي. مريم وحيد، مارينا جندي، ماريهان محمود، وطفلها إياد يوسف، رافاييل جرجس، دافيد جرجس، إيريني نبيل، كاراس نبيل، أليكسا أشرف، ستيفاني أشرف. ومن قبلهم تحية احترام وحبّ لكل أب وأم أرسلا طفلهما أو طفلتهما لتعلّم الموسيقى، وتحية حبّ واعتزاز لمعلّمة الموسيقى: د. تريزا عبده. علّموا أولادَكم الموسيقى، حتى ترتقي مصرُ الطيبة.

 

التعليق على المقال

Message

وصلنا النعليق على المقالة .. شكرا لك