عصافير جارتنا

 

 

تعيش جارتنا نورين وحيدة في بيت قديم، يتوسط حديقة كبيرة، تضلله شجرة بلوط ، فارهة الاغصان، وعلى مربعات متناسقة انتشرت شجيرات الورد والكاردينيا و انواع أخرى ، يكسوها الربيع بأكاليل كثيفة من الزهور بألوان زاهية. كبر أولادها وأستقلوا في حياتهم، وراحوا يلهثون وراء لقمة العيش في تيار الحياة، البنت غادرت مع زوجها للعمل في بلد آخر، وبقي الأولاد الثلاثة يعملون في مدن اخرى من هذا البلد. تركوها وحيدة مع الذكريات والصور التي نشرتها بكل عناية في جميع زوايا البيت وحيطانه، وكانت تفرح بكل رضى بمكالماتهم الهاتفية بين حين وآخر.

جارتنا نورين إمرأة طيبة القلب، دائما مرحة، تستقبل صباح كل يوم بوجه مبتسم، مع أنه يكشف بقساوة عن تجاعيد الزمن، متفائلة في الحياة ولا تخاف من النهاية. فقد كانت تقول في كل مناسبة: لقد أخذت حظي من هذه الدنيا، عشت أجمل سنوات عمري مع زوجي جون في هذا البيت، سعادة دامت لأكثر من نصف قرن.

نورين أجتماعية، سباقة في أداء التحية، صباحا ومساءا، تعمل طوال النهار في حديقتها، تنظم زهور هذا المربع، تهذب أغصان هذه الشجيرة، وتسقي عشرات الأصص الملونة ونباتاتها ذات الأزهار الجميلة. تحي كل من يمر امام بيتها، تعرف الجميع ويعرف الجميع طيبتها ورقتها. تقف في صباحات أيام الربيع أمام البيت، في يدها سلة من الزهور، توزعها على المارة، ومع كل زهرة ابتسامة تفاؤل ومحبة. تعطي كل طفل ذاهب للمدرسة زهرتين، واحدة لمعلمته وواحدة لأمه، وتشجعهم بعبارات رقيقة، تسأل هذا عن كلبه، وتلك عن قطتها، وتسأل احدهم عن أخيه المولود حديثا.

انتخبتها المدرسة في نهاية شارعنا، عضوة شرف في لجنة أعداد المهرجان السنوي للمدرسة. تذهب في ذلك الصباح مبكرة، في يدها سلتها ، توزع على الأطفال قطع الحلوى الملونة، وتنتقل في أروقة المدرسة كأنها فراشة زاهية الجناحين، توزع خفة دمها وتعليقاتها الذكية على أباء وأمهات التلاميذ.

في عصر هذا اليوم، رأيتها في حديقة منزلها وعلى وجهها قلق كبير، تنقل نظراتها بسرعة من شجرة إلى أخرى، تصدر من فمها أصواتا منادية . تصورت أنها تبحث عن قطها الأصفر. لحظات وظهر القط من باب البيت، مط جسمه، أقترب من العجوز في مشية هادئة، قوس ظهره، وراح يمسح جسمه بساق العجوز المعروقة. نترته نورين بعصبية واضحة وأستمرت في بحثها بين أغصان الأشجار. سألتها وقد أنتقل قلقها ألى وجهي:
- مساء الخير نورين، ماذا حصل؟ أراك قلقة؟ أتبحثين عن شيء؟
- أنه جون، لم يحضر لتناول العشاء، مع إن جميع أفراد عائلته قد حضروا وأكلوا. زاد قلقي عليها، وقلت في نفسي، مسكينة لقد خرفت، أنها تهذي، فلقد مات زوجها جون منذ خمس سنوات. سألتها محاولا أعادة فكرها الى الوقت الحاضر:
- هل غيرت اسم القط الى جون؟
كلا يا عزيزي، أنني أقصد جون العصفور، ألا تعرف؟ أنا لدي عائلة من العصافير تسكن في ذلك الصندوق الخشبي المعلق على جذع شجرة البلوط؟

نظرت إلى حيث أشارت بيدها النحيلة، رأيت صندوقا أحمرا، يقف عليه عدد من العصافير، وعصفور واقف في الفتحة الدائرية كأنه يحرسها. أستمرت في حديثها وقد أشرق وجهها فخرا:
- في بداية الربيع الماضي، رأيت عصفورين جميلين، ذكرا وأنثى، يتبادلان أشارات الغرام، أسميتهما جون ونورين. لقد حاول جون كثيرا في استمالة قلب نورين، نفش ريشه، قام بألعاب هوائية رائعة، أحضر لها زهرة ياسمين، وطرد جميع الذكور عنها، وأخيرا كسب رضاها.
في اليوم التالي، أشتريت لهم هذا الصندوق، ووضعته في مكانه. فرحت كثيرا عندما بدأت نورين بتجميع الريش والأعواد الطرية لبناء عشها في الصندوق. أشتريت لهم ذاك الحوض ليشربوا منه ويسبحوا فيه، ومنذ ذلك اليوم وأنا أضع الحبوب وقطع الخبز لهم تحت الشجرة.

أثبت لهم كل صباح نصف تفاحة بذلك المسمار على الشجرة. تصور يا عزيزي اذا صادف ونسيت موعد اطعامهم، تأتي نورين وتدخل شباك مطبخي وتف على إطار صورة زوجي جون، تزقزق بطريقة خاصة كأنها تكلمني وتقول لي إن أولادي جياع. لقد أنجبت أربعة عصافير، ثلاثة ذكور وأنثى واحدة، مثلي بالضبط، أطلقت عليهم أسماء أولادي، بيتر، فيلكس، ريتشاد وبربارة. لقد طرت من الفرح بداية هذا الربيع عندما عثر كل واحد من الأولاد على أنثى له، وبربارة جاءها ذكر جميل من المتنزه قرب البحر، وبدأوا جميعا في بناء أعشاشهم حول البيت الأحمر الخشبي. هل تستطيع يا عزيزي ان تصعد بذلك السلم وتنظر في الصندوق، ربما يكون جون مريضا راقدا في العش؟

ثبت السلم الصغير على جذع شجرة البلوط، وصعد ببطء إلى أن وصلت الى الصندوق، قلقت العصافير من اقترابي، وراحت تتناقل وتدور حولي بجنون، وترفرف بأجنحتها بوجهي، وتصدر أصواتا عصبية. نظرت من خلال الفتحة المدورة، رأيت عصفورا مقلوبا على ظهره ميتا، مددت أصابعي وسحبته، وقلبي حزين على العجوز نورين، أتخيل وجهها عندما ستراه. نزلت من الشجرة، أخذته برفق من يدي، وضعته بحنان على طاولة الحديقة، جلست على أحد الكراسي تتأمله بصمت، سرحت في فكرها، ثم أخرجت آهة حسرة وتمتمت بعبارات شجية مخنوقة، والدموع على خديها:
- أوه يا عزيزي جون، كنت أعلم أنك مريض، لقد لاحظت انك لم تأكل جيدا ليلة أمس، وقفت على الشجرة تراقب الجميع يأكلون، وكان إفطارك هذا الصباح قليلا أيضا.

جاءت عصفورة، وحطت على حافة الطاولة، تلفتت يمينا وشمالا بحذر شديد، نظرت الى العصفور الميت هنيئة، ثم نظرت الى وجه العجوز الحزين. نظرت العجوز اليها، مدت اليها أصبعا معروقا، قفزت عليه، قربتها من وجهها برفق وكلمتها بصوت حزين:
- نعم عزيزتي نورين، لقد رحل جون، كان مريضا، تركك وحيدة، لكن أطمئني، فأولادك ما زالوا هنا، يعيشون حولك على شجرة البلوط. ستتمتعين كل يوم برؤيتهم ورؤية الأحفاد. أطمئني، سأبقى على عادتي سأرعاكم جميعا حتى وإن ملأتم شجرتي أعشاشا. ولكن أريد منك أن تأتين كل صباح ألى مطبخي، وحطي على إطار صورة زوجي جون، تعالي كل يوم وشاركيني وحدتي. أنها فقط فترة قصيرة ، من المؤكد أننا سنلحق بهما قريبا.
 


 

لطفا إدعم الصفحات التالية   

 

قصة العدد 44   

 

مقالات رئيس التحرير   

 

إدعم مشروعنا الثقافي بالاعلان معنا