بائعو الهوى


 

القصة


عبد الله بير
سورية

 

كان الدكتور يتفصد عرقاً وهو يحاول ايقاظ كريم، حاول معه بشتى الطرق، وفي النهاية، تدخل رئيس المؤسسة بنفسه، فقدان حياة شخص او بقاءه في حالة الغيبوبة يسيء إلى سمعة مؤسسته. تحدث إلى الدكتور عبر شاشة ضوئية متلفزة:
- دكتور ، كيف تجري الامور؟ وهل فكرت في شيء يحافظ على سمعة الشركة؟ ارجو اعطائي تقريراً كاملاً عن الحالة في النهاية .
- نحن نحاول، نحن نحاول، ولكن الحالة معقدة بعض الشيء و لم تحصل من قبل، لدينا وقت كافي، فبقي عشر ساعات حسب ما هو مسجل في قاعدة البيانات.

اُغلق الشاشة و مازال الدكتور منهمكاً في فحص الكابلات الموصلة إلى المقصورة التي فيها كريم، فقال احد مساعدي الدكتور :
- يا دكتور، كل شيء طبيعي ولكن دماغه لا يستجيب للترددات الكهرومغناطيسية، نخشى ان تؤثر على وظائف اخرى في جسمه.

كان كريم غارقا في تفكير عميق وهو متمدد على ارض عشبية ، تفوح منها رائحه العشب الطازج، وضع راسه على احدى فخذي بشرى، ينظر إلى السماء، ونتف السحاب تتحرك وكأنها سفن بيضاء تمخر عباب البحر الهادئ، كانت غابة كبيرة متنوعة الاشجار من بلوط وصنوبر وسنديان ولوز وجوز، لا يُسمع فيها سوى خرير جداول ماء صغيرة، وزقزقة العصافير، كانت اشعة الشمس تخترق الغابة بين الاشجار وكأنها سيوف ذهبية لماعة وحادة. تجلس بشرى ذات السبع والعشرين سنة، رشيقة القوام وبيضاء البشرة وذات وجه مليح وشعرها ينساب على كتفيها وكأنه نهر تنعكس فيه الشمس الآيلة إلى الغروب، ممددة ساقيها الرشيقتين على العشب، يفكر كريم، كيف قضى حياته في المؤسسة، ينفذ أوامر المدير وكيف كان سخرية لزملائه في انضباطه وتنفذيه للأوامر.

- بشرى، هل تعلمين؟ إنك اول حب في حياتي، وإني لم اذق طعم الحب من قبل، حتى امي لا اكاد اتذكرها، ولا اعرف شيئاً عن ابي، يقولون بانني نتيجة لتجربة علمية، عندما كانت امي طالبة تدرس الطب، اجرت على نفسها تجربة تلقيح صناعي، باستخدام مواد كيماوية دون مواد عضوية، حبلت بي، ولو أن امي لم تترك شيء من ذكرياتها سوى تسجيل صوتي في دار الذكريات، في كل مرة لما ازورها تقول نفس الشيء.
- كريم، حبيبي، انتبه حين تعبر الشارع، ولا تخالط الاشرار، وحافظ على صحتك، وليكن سوارك الالكتروني معك اينما كنت فهو هويتك، وكل جيدا، ولا تنام في البرد.

تنهدت بشرى، رفعت راسها، كانت صدرها مثل سفح جبل مغطى بالثلوج، شعرها منسدل على كتفيها كأنه شلال من الذهب، قالت:
- كم احبك يا كريم، دعنا من الذكريات المريرة، تذكر ما نحن فيه، كل هذا الجمال، دعني اضمك إلى صدري. دعنا نتلذذ بالحياة في هذه اللحظة، كي لا تفوتنا أي دقيقة جميلة، قم وامسك بيدي وخذني إلى ذاك المرج ولنمارس الحب.

قال كريم وقد غطت وجهه ابتسامة غريبة:
- ابقي كما انت، الآن احس بجمال الحياة، لو عرفت هذا قبل ان اُقدّم لهذه الاجازة، لكنت جعلتها شهراً .
- استيقظ يا غبي، استيقظ يا ابن الكلب، أي ورطة اوقعتني فيها؟ قالها الدكتور وهو يزيد من ترددات الطاقة لجهاز التحسس العصبي الموصل إلى المقصورة التي فيها كريم.
- دكتور، هناك اشارات الاستجابة على جهاز الاستشعار، يبدو انه يستجيب يا دكتور. قالها احد المساعدين وهو ينظر إلى شاشة المقصورة.

استيقظ كريم وخرج من المقصورة الموصلة بالحاسوب المركزي للمؤسسة، وقال الدكتور:
- اخفتنا يا استاذ، الف مبروك والمؤسسة تأمل أن تقضي وقتا ممتعا معنا، ونتمنى منك تكرار الزيارة.
لم ينبس كريم بكلمة وكان هائما ويبدو عليه علامات الارهاق والتعب، ساعداه اثنان من منتسبي المؤسسة في الخروج من المقصورة وجلس على كرسي بالقرب من باب الغرفة وقدم احدهم كاسا من عصير البرتقال الطازج. تمتم كريم بكلمات لم يفهمها احد، وظل يتحدث مع نفسه ووضع كلتا يديه على فخذيه وأحنى راسه متأففا، فلاحظ الدكتور حالته وبإيماءة منه حاول احد المساعدين اخراجه من الغرفة ولكن كريم لم يذعن للأمر وبدا يردد:
- بشرى، بشرى، اين بشرى، اين هي؟
رفع راسه ونظر إلى الدكتور وكانت عيناه محمرتان ويرتجف وكأن به حمى وقال بصوت هادئ رتيب:
- دكتور، اعد إلي بشرى وسأعطيك ما تريد، ما تريد كررها مراراً.
فالتفت إليه الدكتور الذي كان منشغلا بتفقد المقصورة محاولاً معرفة اسباب عدم استجابة عقل كريم للترددات الكهرومغناطيسية التي أخرته في الإيقاظ، قال بصوت رخيم :
- يا سيدي, بشرى غير موجودة في الواقع وانما هي محض خيال وانت اعطيتنا المواصفات ونحن خلقنا لك بشرى في فضاء افتراضي عشت فيه لمدة اسبوع واحد.

ظل كريم يردد نفس الكلمة وبدت عليه علامات التوتر والعصبية، وتصرف بجنون صارخا:
- بشرى، اين هي؟ اريد ان ارى بشرى.

ادى الامر إلى تدخل رجال امن المؤسسة، واخذوا معهم كريم، الذي لم تصدر منه أية ردة فعل تدل على رفضه للخروج من المؤسسة، ولكن كان مهموماً و منشغل البال، يسير على غير هدى. وصل إلى البيت وهو يفكر في بشرى، وبشعور لا إرادي جلس على حافة سريره صامتاً ولم يغير ملابسه ولم يدخل الحمام للاستحمام كعادته حينما يرجع من العمل، وفي وقت ما من الليل شعر بالبرد فتمدد على السرير وغطى نفسه بحافة لحاف، لم يكن يصدر منه سوى انين و تمتمة لا تُفهم. اصدر منبه الساعة موسيقى صاخبة، ثم صوت انثوي ناعم يقول:
- قم إلى العمل سيد كريم، انت متأخرٌ بربع ساعةٍ، قم إلى العمل سيد كريم، انت متأخرٌ بربع ساعةٍ.
-
ظلت الساعة الناطقة الموجودة على طرف السرير تردد هذه العبارة، ولكن لم يتحرك كريم من مكانه كما كان يفعل من قبل، وفي حوالي الساعة العاشرة صباحاً دخل شعاع الشمس غرفته من خلال النافذة، استيقظ كريم، وسار إلى الحمام واغتسل، ثم نظر إلى نفسه في المرآة، وخرج من البيت وتوجه مباشرة إلى مؤسسة بيع الهوى، سال السكرتيرة:
- اريد ان ارى بشرى لدقيقة واحدة لا اكثر.
لم تفهم السكرتيرة شيء، واجابت :
- من هي بشرى، وفي أي قسم تعمل؟
قال كريم وهو منخفض الراس، رث الهيئة:
- لا اعرف، ولكنها كانت معي في الاجازة، احبتني واحببتها، واريد ان اراها.
ضحكت السكرتيرة وقالت:
- يا سيد تلك السيدات غير موجودات في الواقع، إنها من بنات خيالكم، الرجال، بشرى موجودة في خيالك وليس لها وجود حقيقي، هل من سؤال اخر؟

ولكن اصرار كريم على رؤية بشرى او التحدث إليها، كانت بداية المشكلة، فصاح بأعلى صوته على السكرتيرة :
- اذا لم ارى بشرى سأقتلك وسأقتل كل من في المؤسسة، سأرفع عليكم دعوى قضائية بإخفاء حبيبتي، سأقتل نفسي.
ما أن سمع جهاز الانذار كلمة القتل، اصدر صوتاً غريباً، ووصل رجال الامن، وحاولوا ابعاد كريم عن المؤسسة ولكن كريم قاومهم، وظل ينادى بأعلى صوته:
- بشرى اين انت؟ بشرى اخرجي انا كريم، بشرى انا احبك وسأظل احبك، انتظرني، سأحررك من هذه العبودية.

بدأت الفوضى تعم كل المؤسسة، وتدخل رئيس المؤسسة واستفسر عن الامر، وتدخل الطبيب الذي اشرف على اجازة كريم، واخيراً تمكن رجال الامن من طرد كريم خارج المؤسسة، وإخبار مؤسسته بالتجاوز الذي حصل من قبل كريم على مؤسستهم وطلبوا تعويضات عن الاضرار التي حصلت، فتدخلت مؤسسته بأخذ تعهد خطي منه بعدم الاقتراب من أي مؤسسات بيع الهوى، فظل كريم يفكر في بشرى وفي كيفية الوصول إليها، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، فغاب عن المؤسسة لمدة اسبوع بدون ترخيص، تحرت المؤسسة عنه، واخبرت الشرطة عن غياب كريم، تحققت الشرطة من الموضوع مع جيران كريم وزملائه في العمل لأنه لم يكن له اصدقاء، فَعَلِمت اخيراً بان كريم لم يخرج من شقته منذ اسبوع، حصلت الشرطة على امر من المحكمة بكسر باب شقته، ولما دخلوا الشقة، وجدوا كريم ممدد على الارض وحوله بركة دم جافة وفي يده صورة امرأة شقراء الشعر وبيضاء البشرة ومكتوب اسفل الصورة "إلى صغيري كريم مع حناني " امك بشرى.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك،
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب