قراءات نقدية


الفرق بين التطبيع السياسي والتطبيع الثقافي

 طلعت رضوان :: الكاتب اليساري 


طلعت رضوان | مصر



بعد تسارع معدلات التطبيع بين الأنظمة العربية..وبصفة خاصة الخليجية، لاحظتُ أنّ كثيرين يخلطون بين التطبيع السياسى..والتطبيع الثقافى.

وأعتقد أنّ نتيجة (مقاطعة الثقافة الإسرائيلية) أسوأ بكثير من المقاطعة السياسية..وقد ترتّب على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل إقامة علاقات طبيعية بين البلديْن شملتْ التبادل الدبلوماسى والتعاون الاقتصادى..ولم تنص تلك المعاهدة على استثناء التطبيع الثقافى..وسمحتْ السلطة المصرية لكل الأصوات الرافضة للتطبيع أنْ تُعبر عن رأيها سواء من الأحزاب أو من بعض الكتاب..وهذه الأصوات الرافضة للتطبيع ساوتْ بين التطبيع الدبلوماسى والاقتصادى والتطبيع الثقافى..وإذا كان من الممكن فهم مبررات رفض تبادل السفراء وإقامة مشروعات اقتصادية ألحقتْ ضررًا بالاقتصاد المصرى، فإنّ رفضهم للتطبيع الثقافى يدعوإلى المناقشة.

الفائز والخاسر من المقاطعة الثقافية

لوأخذنا مقاطعة المؤتمرات العالمية والمعارض الفنية التى تشارك فيها إسرائيل فعلينا أنْ نسأل: هل الأيديولوجيا السياسية والعواطف الدينية تلغى العقل؟ أم أنّ المصلحة الوطنية تُعلى من شأنه؟ وإذا احتكمنا إلى لغة التجريد..والمنطق العقلى سنجد الصورة التالية: خصمان عـــدوان، أحدهما يتواجد فى كل المحافل الدولية ليدافع عن وجهة نظره..والآخر يُـقاطع هذه المحافل. الأول والثانى لم يتنازل أحدهما عن اعتقاده الراسخ بأنّ خصمه عدو ويُهدد حياته..ومع ذلك فإنّ أحدهما يقتحم كل المجالات والمناسبات والآخر يعطى ظهره لهذه المناسبات بحجة عدم التواجد مع عدوه فى مكان واحد..وكأنّ التواجد فى مكان واحد مع العدو يعنى ضمنيًا الاعتراف به، فى حين أنه من الممكن أنْ يتواجد الخصمان فى مكان واحد..وأنْ يُعبر كل منهما عن وجهة نظره وينصرفا دون أنْ يعترف أحدهما بالآخر..وتكون نتيجة المقاطعة أنْ يفوزالطرف المشارك والفعال بفرص الدعاية لوجهة نظره ويكسب تأييدًا عالميًا، بينما الآخر يحصد توهماته ويسعد بها..ولا أغالى إذا قلتُ أنّ الرافضين للتطبيع الثقافى تنطبق عليهم صورة المقاطع فى المثال التجريدى، إذْ بينما تــُحقق الدعاية الإسرائيلية والتواجد الإسرائيلى فى المحافل الدولية المزيد من المؤيدين لوجهة نظرها..وتتراجع الدعاية العربية عن حقوق الشعب الفلسطينى، يؤكد ذلك ما نشره عالمان أمريكيان فى دراسة مشتركة لهما أكدا فيها أنّ إسرائيل تمكــّـنتْ من إملاء إرادتها على السياسة الخارجية لأمريكا تحت ضغط اللوبى الصهيونى الذى بلغ نفوذه حد السيطرة الفاعلة على الكونجرس، بحيث أصبحتْ مصالح إسرائيل مقدمة على مصالح أمريكا (نقلا عن أ.مكرم محمد أحمد- أهرام 22/3/2006) ويؤكد ذلك أيضًا أنه رغم كل جرائم إسرائيل ضد الشعب الفسطينى، فإنّ الرأى العام العالمى يتعاطف مع وجهات نظر إسرائيل التى يتمحور إعلامها وتتركز دعايتها فى المؤتمرات العالمية، على أنّ إسرائيل تعيش فى وسط أعداء ينطلقون من ضرورة إنهاء الوجود الإسرائيلى..وتدمير دولة إسرائيل..وعدم الاعتراف بوجود دولة باسم إسرائيل..وعلى الإسرائيليين- فى أحسن الأحوال- العودة إلى أوروبا عمومًا وإلى ألمانيا- بشكل خاص- التى طردتْ اليهود إبان حكم النازى- وهى المقولة التى صرّح بها أحمدى نجاد- رئيس إيران الخومينية الأسبق- أكثر من مرة وردّدها العروبيون والإسلاميون..وتلتقط إسرائيل هذه المقولات وتنشرها على المجتمع الدولى فى كل مؤتمراتها، فى غياب الطرف العربى السعيد بالمقاطعة الثقافية..وتكون النتيجة تعاطف الرأى العام العالمى مع وجهات النظر لإسرائيلية، رغم أنّ قطاعات كثيرة داخل أوروبا وأمريكا تدين الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطينى، بفضل ثورة الاتصالات..وليس بفضل العرب الرافضين حضور المؤتمرات العالمية التى تشارك فيها إسرائيل..ولعلّ ما فعله وزيرالخارجية الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان يوم الأربعاء الموافق 22/7/2009 أنْ يكون خير مثال على عقلية حكام إسرائيل، العقلية التى تسعى إلى نشر كل مايؤيد وجهة نظرها، حيث أخرج من أرشيف مراكز المعلومات صورة الحاج أمين الحسينى مفتى القدس..وهو يُصافح الزعيم النازى الشهير أدولف هتلر، وذلك بعد أنْ هرب الحاج أمين الحسينى إلى برلين، مؤيدًا للنازية..وللقارىء أنْ يتخيل تأثيرهذه الصورة على الشعوب الأوروبية الذين تعرّضوا للإحتلال النازى وتم تدمير مدنهم بكل ما فيها من بنية أساسية بخلاف ملايين القتلى والجرحى. فكيف يتعاطفون مع الشعب الفلسطينى وهذا هو مفتى القدس يصافح الزعيم الإرهابى هتلر الذى انطلقتْ سياساته من توجهات عنصرية، فإذا كنتَ (أيها العربى) تدين الصهيونية القائمة على التعصب الدينى والعنصرى، فكيف تتعاطف مع مذهب سياسى تأسس أيضًا على العنصرية العرقية؟

الترجمة وعيوب تعدد الوسيط اللغوى

ومنذ سنوات ثارتْ مسألة الترجمة عن العبرى..ولاحظتُ أنّ حتى المدافعين عن حق المصرى فى قراءة ما تــُخرجه المطابع الإسرائيلية، فإنهم يرون أنْ تكون الترجمة عبر وسيط لغوى غير العبرية مثل الإنجليزية..وإذا كانت الترجمة المباشرة من لغة إلى أخرى كثيرًا ما تبتعد عن هدف المؤلف خاصة إذا كان المترجم غير مُـلم- معرفيًا- بالأبعاد السياسية والجغرافية والتاريخية إلخ.. لواقع المجتمع الذى يترجم عنه، فإنّ الأمر يزداد سوءًا فى حالة تعدد الوسيط اللغوى. فإذا كنا سنترجم النص العبرى عن اللغة الإنجليزية، فإنّ السؤال هو: هل كان المترجم الإنجليزى أمينًا فى ترجمته؟ وهل هو مُــتخصص فى المجال الذى اختاره للترجمة؟ وهل هو مترجم صاحب مشروع فكرى أم مجرد مترجم أشبه بالمترجمين فى مكاتب الترجمة التجارية؟

حجة المؤيدين للترجمة عبر وسيط آخر غير اللغة العبرية، هو تجنب الحصول على موافقة الناشر الإسرائيلى. فهذا الإجراء يعنى الموافقة على التطبيع الثقافى..وكأنّ هذا الإجراء أكثر خطورة من تبادل السفراء والتعاون الاقتصادى، أوأكثرخطورة من القواعد الأمريكية المنتشرة فى البلاد العربية..والتى تخدم المصالح الإسرائيلية..وأعتقد أنّ الرافضين للتطبيع الثقافى يرون استحالة تحقيق السلام..ومع استمرار الحرب والدمار..وقتل البشر..ووأد أية تنمية اقتصادية ومجتمعية..وبالتالى نكون إزاء عقلية لا تمتلك الخيال الإنسانى المبدع لإنهاء مأساة الشعب الفلسطينى..وتتمحور المقاومة فى الأصوات العروبية والإسلامية الرافضة الاعتراف بإسرائيل ((المزعومة التى يجب إبادتها كما يقولون ويكتبون)) ويصل الشطط بالبعض لدرجة اعتبار أنّ من يقولون أنّ الترجمة التى تمتْ (فى الستينات من القرن العشرين) تحت شعار (إعرف عدوك) مخادعون..وأنّ ترجمة الأدب الإسرائيلى يترتب عليه نتيجة أخرى غير معرفة العدو، ألا وهى التقبل الثقافى والنفسى لــه. فالمصريون سيقرأون روايات عن أماكن وأحداث وعلاقات وشخوص فى إسرائيل..وتدريجيًا سيتماهون مع هذا العالم حتى ولو فى اللاوعى.. ورويدًا رويدًا سيتقبــّـلون كل شىء أوحتى بعضه)) ويقول آخر تصفه الثقافة السائدة بالأديب الكبير((أنا مريض بمرض جميل هو رفض التطبيع)) (صحيفة العربى الناصرية 5/7/2009) وفى المقابل فإنّ فى إسرائيل 102 مركز أبحاث مهمتها ترجمة كل حرف يُـكتب فى مصر وفى البلاد العربية..وأكثرمن ذلك تخصيص مراكز لكل دولة عربية، أى أنّ فريقــًا من العمل مهمته متابعة كل ما يُنشر فى دولة عربية واحدة، بالاضافة إلى الباحثين الإسرائيليين الذين يُــقيمون فى البلاد العربية لدراسة اللغات المحلية والعادات والتقاليد وجمع الأمثال الشعبية والنكت (جمع نكتة وهى صحيحة لغويًا) إلخ. أي أنّ العقول التى تحكم إسرائيل تتأسس على منهج علمى مهمته معرفة (كل) صغيرة قبل الكبيرة عن الشعوب العربية..ويؤكد ذلك ما ذكره د.محجوب عمر من ((أنّ الفلسطينيين مقصرون جدًا فيما يتعلق بالتوثيق حول مسألة الترانسفير وتحليلها)) (أنظركتابه الترانسفير: الإبعاد الجماعى فى العقيدة الصهيونية- ترجمات مختارة من العبرية- دار البيادر للنشروالتوزيع عام 1990 ص287)

الخوف من معرفة المجتمع الإسرائيلى

أعتقد أنّ السبب الحقيقى لرفض التطبيع الثقافى..هو الخوف من التعرف على حقيقة المجتمع الإسرائيلى: الخوف من التعرف على حقيقة الصراع داخل هذا المجتمع، الصراع بين العلمانيين المناصرين للحق الفلسطينى..والأصوليين اليهود الرافضين لأى حق للشعب الفلسطينى..وأعتقد أنّ تعبير الباحث المصرى الذى قال إنّ قراءة الأدب الإسرائيلى سيجعل المواطن المصرى يتماهى مع هذا المجتمع..كما ورد فى التحقيق الصحفى المنشور فى صحيفة العربى الناصرية المنوه عنه عاليا، مفتاح كل شىء، إذْ أنّ هدف كهنة العروبة استمرار سياسة التعمية والتضليل. فلا يعرف المواطن المصرى أنّ إسرائيل تحكمها مؤسسات فاعلة تُجبر رئيس الوزراء (المنتخب انتخابًا ديموقراطيًا حقيقيًا) على احترام كل أشكال المراقبة والمحاسبة من الإعلام ومن الجهات الحكومية لدرجة مثوله أمام مسئولى الشرطة للتحقيق معه فى كل ما يُنسب إليه من شبهة فساد أو استغلال نفوذ، حتى ولو كان قبول تبرع مالى فى الانتخابات من أحد رجال الأعمال..وما ينطبق على رئيس الوزراء ينطبق على رئيس الدولة صاحب المنصب الشرفى..والتعمية على تداول السلطة..والفصل التام والحقيقى بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية..وأنّ السلطة التنفيذية لا تملك ولاتستطيع فرض رغباتها على السلطتيْن التشريعية والقضائية..كما يحدث فى مصر والدول العربية..وأنّ إسرائيل لاتعرف عاهة ((بالروح بالدم نفديك يا فلان)) وبالتالى فهى لا تعرف جرثومة قداسة الأشخاص رغم كل ما قدّموه لصالح إسرائيل، لدرجة أنّ 37 أستاذًا من جامعة بن جوريون..وقعوا على مذكرة احتجاج لمنع منح رئيس الوزراء شارون شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة..وجاء فى المذكرة التى نشرتها الصحف الإسرائيلية ((إننا نحتج على هذا القرارلأننا نعتقد أنّ مثل هذا التكريم يجب ألا ّينال شخصًا تُعتبر خياراته الأساسية موضع جدال)) وكتب صحفى إسرائيلى فى صحيفة يدعوت أحرونوت أنّ ((شارون بلغ الذروة فى الجنون، فتصريحاته مزعجة ومغلوطة تاريخيًا ومسيئة سياسيًا)) ولانعرف تفاصيل تحقيق لجنة أجرانات التى أعقبت حرب 73 وأجبرتْ جولدا مائير على الاستقالة..ولا نعرف تفاصيل احتجاج أساتذة الجامعات الإسرائيلية على تعيين العقيد شربيط باروخ للتدريس بكلية الحقوق فى جامعة تل أبيب، لأنّ السيدة شربيط متهمة بقتل مئات الأطفال والنساء الفلسطينيين (افتتاحية ها آرتس 29/1/2009) ولانعرف أنّ منظومة الحكم فى إسرائيل تسمح بعدم التجنيد داخل الجيش الإسرائيلى لأسباب تتعلق بالضمير..وأنّ الاعتراف للمواطن الإسرائيلى بهذا الحق هو من الحريات الحديثة التى أقرّتها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عام 93..والتى نصّتْ على ((حق كل فرد فى أنْ تكون له اعتراضات ضميرية على الخدمة العسكرية كممارسة مشروعة لحق حرية الفكروالضمير والدين)) وبالتطبيق لذلك شهدتْ إسرائيل الكثيرمن حالات رفض الخدمة العسكرية كان آخرها ما فعلته الفتاة (يسخا فيدرمان) التى رفضتْ التجنيد..وقالت فى تصريح صحفى ((الجيش الإسرائيلى ليس جيشى)) (معاريف 24/12/2008)

وإذا كانت الدول العربية ومصر تعتبر أنّ الاقتراب من رواتب الوزراء هو من المحرمات التى لايجوز تخفيضها بل زيادتها باستمرار رغم كل ما يُعانيه الاقتصاد من تدهور(هذا بخلاف مخصصات مكاتب الوزراء) وبخلاف تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات المصرى الذى ينص فى كل عام على ظاهرة الانفاق الحكومى الترفى الذى لا مبرر له..ويتسبب فى زيادة العجز فى الموازنة العامة للدولة، إذا كان هذا هوالوضع فى مصر وفى الدول العربية، فإنّ اللجنة المالية بالبرلمان الإسرائيلى (الكنيست) أقرّت (بالاجماع) خطة لخفض رواتب رئيس الوزراء نيتانياهو ووزراء حكومته بنسبة 5 % وذلك بعد أنْ أقرّتْ فى ميزانية 9 / 2010 زيادة فى الضرائب لتعويض زيادة الانفاق فى الميزانية..وتنشر الصحف الإسرائيلية هذا الخبر مؤيدة له ومهنئة أعضاء البرلمان الذين اتخذوا هذا القرار الجرىء من أجل الصالح العام..وإذا كان هناك اتفاق بين الباحثين على أنّ حكومة نيتانياهو لن تحقق السلام الذى ينشده الفلسطينيون..وأنها حكومة تسعى لفرض المزيد من المستوطنات..ورفض حق عودة اللاجئين إلخ، فإنّ زعيمة المعارضة تسيبى ليفنى ترى أنّ سياسة نيتانياهو سوف تُـدمرإسرائيل. فما مغزى هذا الكلام؟ ألا يستحق المتابعة والتعليق؟ وكيف يكون ذلك تحت أيديولوجية ترى أنّ المقاطعة الثقافية هى الحل؟ وهل يعلم المصابون بمرض ((رفض التطبيع)) أنّ بعض الإسرائيليين أقاموا دعوى قضائية ضد مصر طالبوا فيها بتعويضات قدرها 350 مليون جنيه بسبب ما فى حوزتهم من معلومات موثقة عن تواطؤ مصر  مع حركة حماس..وتسهيل أعمال التهريب الخاصة بالسلاح والمال مما ألحق الضرر بإسرائيل..وأسقط قتلى ومصابين بين مقيمى الدعوى..هل انتبه أحد السعداء برفض التطبيع الثقافى إلى هذا الخبر؟ هل فكر أنْ يعقد مقارنة بين المواطن الإسرائيلى الذى يُطالب مصر بهذا التعويض المالى..والمواطن المصرى الذى لم يفكر- مجرد تفكير- فى إقامة دعوى قضائية ضد إسرائيل التى سرقتْ الكثير من الآثار المصرية..والبترول المصرى أيام احتلال سيناء..وهل فكــّر أحد من المصريين الرافضين للتطبيع الثقافى..وخاصة من بين الجمعيات الحقوقية، فى إقامة دعوى قضائية ضد إسرائيل التى تضع الأهرام على إحدى فضائياتها..وضد الباحثين اليهود الذين يدعون أنهم أصل الحضارة المصرية..وأنهم بناة الأهرام، كما قال مناحم بيجين فى كامب ديفيد وكرّرها فى مصر، ولم يفتح أحد من (المصريين) الرافضين للتطبيع فمه بكلمة واحدة..وإذا كنا سنظل سعداء بجهلنا لكل ما يحدث فى المجتمع الإسرائيلى، فكيف سنعرف أنّ الأصوليين اليهود يتشابهون تمامًا مع الأصوليين المسلمين فى تشددهم وتعصبهم..ومحاولة عودة عقارب الزمن إلى الخلف، لدرجة صدور فتوى من الحاخام الأكبر(دوف ليثور) تبيح لسكان مستعمرة كريات أربع التجول يوم السبت وهم يحملون الموبايلات، بعد أنْ زعم المستعمرون أنّ فلسطينييْن هاجما فتاتيْن إسرائيليتيْن فى الخليل..وحاولا اغتصابهما وكان ذلك يوم سبت (يهوشع برنر- موقع http://www.walla.co.il 12/21/ 2008 نقلا عن مجلة مختارات إسرائيلية عدد فبراير2009 ص 74) ومفاد الخبر أنّ اليهودى (كى يكون متدينًا بحق) فعليه الامتناع عن حمل الموبايل يوم السبت تنفيذًا لتعليمات من كتبوا العهد القديم قبل ظهور الموبايل بأكثرمن ألفىْ عام. وكيف نعرف أنّ المجتمع الإسرائيلى لم يستسلم تمامًا لهذه الأصولية الدينية، بل يُقاومها بالفكر والتعقيب على كل أفعالها..ومن ذلك ما حدث خلال العدوان الإسرائيلى على غزة، حيث وزعتْ الحاخامية العسكرية رسالة إلى الجنود الإسرائيليين فى حملة (الرصاص المنصهر) جاء فيها ((ينبغى أحيانًا أنْ نكون وحشيين مع العدو)) وكذلك نشرات (الوعى اليهودى) التى يوزعها الحاخام العسكرى الأكبر (روتنسكى) وعن هذا الحادث جاء فى افتتاحية صحيفة ها آرتس بتاريخ 27/1/2009 ((كان تعيين روتنسكى..وهوشخص متعصب، (يتكلم) بعدوانية ضد العلمانيين بوجه عام.كان هذا التعيين خاطئــًـا..وككل تائب يجب عليه أنْ يثبت أنه أكثر تدينًا من البابا، فإنه يتملق معلميه من الحاخامات الأكثرت طرفــًـا بين جمهور المستعمرين..والنتيجة هى تصعيد مستمر ومنفلت..وحتى الآن وجّه روتنسكى عظات فارغة ومبتذلة، مشبعة بالمقت والاحتقار تجاه كل من ليس متدينًا ولا يؤمن بأرض إسرائيل الكاملة انطلاقــًـا من البواعث الأصولية الأكثر عنصرية. والآن تجاوز روتنسكى حدود منصبه وبدأ يُعربد بالفعل. إنّ روتنسكى يوزع عظات كتبها الحاخام (شلومو أفنير) تدعو باسم قيم دينية إلى قتل المدنيين وعظات كتبها تلاميذه الذين يقدمون لحملة (الرصاص المنصهر) تفسيرًا طائشًا يتعارض مع كل قيم الحرب (لذلك) فإنّ من الأفضل أنْ يكتفى الجيش الإسرائيلى بمشرفين على الكاشير(الطعام الحلال) وألا ّيحتاج مرة أخرى إلى حاخام)) وكانت الصحيفة الإسرائيلية موفقة إذْ اختارت لمقالها عنوان (حاخامية مـُـعربدة) نقلا عن مجلة مختارات إسرائيلية– عدد مارس 2009 ص 119.

نبوءة شارون

وهل يعلم المرضى بمرض رفض التطبيع (الثقافى) ماذا قال شارون لشعبه وهو يُـبرّر الانسحاب من غزة: إننى أضع أمام غيرالمرضى هذه الفقرة المهمة من مقال اللواء حسام سويلم الذى كتب ((راهنتْ إسرائيل فى عملياتها ضد حماس على تكريس الانقسام والتناحر الفلسطينى، لذلك لم تخش الانسحاب من غزة بعد أنْ حققتْ أهدافها الاستراتيجية فى إضعاف حماس سياسيًا وعسكريًا..واضعة فى الاعتبار مقولة شارون عندما قرّرالانسحاب منفردًا من قطاع غزة عام 2005..وقامتْ مظاهرات المتشددين الإسرائيليين ضده، فقال لهم ((انتبهوا جيدًا لما سأقوله. فبعد انسحابنا ولوبقرار من طرف واحد، سيحدث العديد من المواجهات بين مختلف الفصائل الفلسطينية..والتى يعصف بين أجنحتها العديد من التناقضات والاختلاف فى نظرة كل فصيل حيال أسلوب التعاطى مع إسرائيل..وتحديدًا بين حركتىْ فتح وحماس.. ولا أستبعد تحول السجالات القائمة فيما بينهم إلى اشتباكات دموية..والعديد من عمليات التصفية الجسدية فى صراع مرير على السلطة..وعندها سيتأكد للعالم وبصورة خاصة الولايات المتحدة أنّ الفلسطينيين لايستحقون التمتع بالاستقلال الذاتى..وبالتالى الدولة الفلسطينية، من حيث عدم قدرتهم على حكم أنفسهم)) واختتم شارون كلمته قائلا لشعبه ((لا تحزنوا على انسحابنا من غزة..وستــُـدركون فيما بعد جدوى وصوابية قرارى)) وكان تعليق اللواء حسام سويلم ((ولقد صدقتْ للأسف نبوءة شارون..وكأنه يقرأ فى كتاب. فلقد شاهدنا ذروة الاقتتال الفلسطينى/ الفلسطينى بين حماس وفتح، عندما قامتْ حماس بإنقلابها العسكرى ضد السلطة الفلسطينية..وقتلت كوادر فتح وذبحتهم بدم بارد..وألقتْ بهم أحياء من أعلى الأبراج والمبانى..وزجّتْ بالآلاف منهم فى السجون..ولايزال التناحر الفلسطينى قائمًا سواء أثناء غزو إسرائيل لغزة أو بعد انسحاب قواتها من هناك.. وحيث يجرى تبادل الاتهامات بينهما التى تتراوح بين المتاجرة بدماء الشعب الفلسطينى فى غزة، وانتهاءً بالفساد والرغبة فى سرقة أموال إعادة إعمار غزة)) (مجلة مختارات إسرائيلية عدد يونيو 2009  ص 102) فهل يعلم المرضى برفض التطبيع الثقافى أنّ حكام إسرائيل لديهم القدرة على التنبؤ بالمستقبل من خلال قراءة الواقع؟

القومية بين إسرائيل (المزعومة) ومصر

وكما أنّ العلم لا وطن له فإنّ المعرفة لا وطن لها. فمن يقرأ ليعرف غير السعيد بجهله..وأرى أنّ قراءة مذكرات (الأعداء) كثيرًا ما تضع العقل الحر أمام بعض الحقائق التى قد تغيب عن هذا العقل..ومن ذلك– مثلا– المقارنة التى صاغتها جولدا مائير بين دولة إسرائيل التى يُقاس عمرها بعمر الأطفال الرضع قياسًا على عمر دولة مثل مصر، حيث كتبتْ عن اليهود ((أنّ مصيرهم كان مختلفًا، فالأمم الأخرى بقيت فى أراضيها إلاّ أنها تخلــّـتْ عن هويتها (تلميح صريح عن مصر التى تبنّتْ العروبة بعد يوليو 52 وأضمرتْ العداء للقومية المصرية) بينما اليهود- كما قالت جولدا مائير- الذين تبعثروا بين الأمم فى أرجاء العالم.. بقوا يهودًا ولم يتخلوا عن أملهم بالعودة إلى بيت المقدس)) (كتاب حياتى– تأليف جولدا مائير- دارالجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية عام 1989 ص141) ولذلك لم تكن مصادفة أنْ تبدأ كتابها قائلة ((لقد بدا لى– ومازال يبدو لى- بأنه من الصواب الاعتقاد بأنّ الله لم يختراليهود، بل إنّ اليهود كانوا أول ناس اختاروا الله)) (ص 21) إنّ ما ذكرته جولدا مائير عن الاحساس بالقومية، ردّده كثيرون من اليهود، منهم بنيامين نيتانياهو الذى أكد على ما قالته مائير..ولكن بصياغته الخاصة حيث كتب ((لقد نجح اليهود فى كفاحهم عدة مرات..وفشلوا عدة مرات. لكن الكفاح فى حد ذاته ساعدهم فى المحافظة على هويتهم وقيمهم..وبفضله لم ينصهروا..ولم يختفوا مثل أمم أخرى كثيرة تلاشتْ تحت وطأة امبراطوريات عظمى)) (مكان تحت الشمس- دارالجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية- ترجمة عودة الدويرى ص 406) أليس الانفتاح على كل ثقافات الشعوب هو البداية الحقيقية لإمتلاك سلاح المعرفة؟ وكيف يحكم الإنسان على (عدوه) وهولايعرف هذا (العدو) ولايعرف كيف وفيما يفكر؟ ألا ينطبق على المرضى برفض التطبيع الثقافى ويعتقدون أنه ((مرض جميل)) حكمة عميد الثقافة المصرية (طه حسين) الذى خاطب أصحاب ((الثقافة السمعية)) وقال عنهم إنهم الذين (يكتبون ولايقرأون)؟

أعتقد أنّ تحدى المشروع الصهيونى القائم على التوسع.. رفض أى حق للشعب الفلسطينى، والذى يُصر التيارالأصولى اليهودى على تطبيقه هو بالإجابة على هذا السؤال: هل نحن المصريين مع سلاح المعرفة وتراكماتها أم مع التعمية والتضليل؟

أما عن التطبيع الخليجى/ الإسرائيلى فإنّ هدفه- كما أعتقد- هو التماهى مع اللوبى الصهيونى، ومساعدة إسرائيل..كى تتنازل مصر عن مساحة من سيناء لتوطين الغزاويين.