حاجتي وخنجر حمزاتوف

 ماجد ع. محمد :: الكاتب اليساري 


ماجد ع. محمد | سورية



ربما يُلاحِظ المتلقي في بيئتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية، أنه في مناسبةٍ ما أو وقتٍ ما، قد يعتصم بعضنا بقبضة مأثورٍ عالمي، أو يتمسك بناصية جملةٍ قالها فلان الفلاني، ولكن ليس دائماً بسبب أهمية ما جاء في سياق قول ذلك المشار إليه، إنما قد يكون الهدف من وراء ذكر جُملته تلك هو تمرير فكرةٍ ما، أو توجيه رسالةٍ بوحية معيّنة عبر منطوقات ذلك المشهور الذي استوردنا الجملة من دياره، باعتبار أن الذي نحاوره لا يُبهره إلاّ ما جاء على لسان المشاهير، وذلك حتّى وإن كان مضامين أقوالهم دون الفكرة التي أراد إيصالها ذلك الذي اضطر لجلبها ليُقنع بها قرينه المنبهر بكل ما له علاقة بالنجوم.

كما نرى بأنه مِن الحكمة ألّا يُعامل الاستشهاد وكأنه مجرد اكسسوار خارجي، أو أنه ليس أكثر من تزويق خطابي أو كتابي، باعتباره كثيراً ما يكون في مقام الإكسير الذي يعطي الطاقة للمحيط بأكمله، وطالما أن الإستعارة كثيراً ما تساعد مستخدمها سواء أكان خطيباً مفوهاً أم كاتباً على إيصال الرسالة من خلال جُملٍ سبق لها أن استوطنت في ذاكرة القارئ، بما أن ما كان مركوناً في قاع المخزون الثقافي للفرد من السهولة بمكان الاستئناس بما كان قريباً منه، باعتبار أن الجديد الذي يذكّرك كقارئ بما تعرفه يكون أسرع في التوغل إلى عالمك من ذلك الجديد الذي لا يذكِرك بأي شيء.

وبما أن الاستشهاد ليس مجرد زخرف أو إطار نضعه لِلَوحة باهته حتى نرفع من قيمتها، ففي هذا الخصوص يشير الدكتور علي القاسمي في معجم الاستشهادات* إلى أن "الاستشهادات لا تمثل حلية يزيّن بها الكاتب مقاله فحسب، وإنما تعد كذلك مرجعاً يستطيع القارئ الاعتماد عليه والإشارة إليه"، وبديهي أن الشاهد يدعم الفكرة التي يشدّد عليها الكاتب، ويقرب الفكرة المطروحة من ذهن المتلقي، أو تدعه يعمل على إشغال المقارنة، فيوضحها له من خلال إيراد شذرةٍ أو مَثَلٍ أو بيت شعر أو اقصوصة.

ومِن كل بد أن الاستشهاد إذا ما كان عبارة عن أيقونة تزيينية للكتاب أو للمادة المكتوبة كحال أيقونات المنازل، فسرعان ما سيكتشف القارئ ذلك بعد الولوج إلى بستان صاحب المنتج، لأنه سيلاحظ التباين الصارخ بين المكتوب في القرطاس وذلك الجزء المجلوب إليه، وكذلك سيعرف ذلك من خلال غياب الانسجام بين المادة التي يقرأها ككل وبين الفقرات التي حُشرت حشراً بين طياتها، وحيث تبدو الكتلة المحشورة غير متوافقة مع المحيط العام للمادة المكتوبة، وبالتالي تكون على خلاف روحي ونفسي مع الجزء المضاف إليه.

ولا شك أن بعض من يوردون الاستشهادات في كتاباتهم يختارونها بحرفية عالية جداً، وحيث يقوم الاستشهاد بتوفير السطور واختزال الكثير مما كانوا يودون قوله، كما يوفر وقت القارئ وجهده، باعتبار أن جملة واحدة كفيلة بأن تعمل على تحريض مخيلته وتذكره بقصة كاملة من خلال بضعة كلمات، ولكن بنفس الوقت علينا التوقع بأن هناك مَن يفعلها من باب الزركشة، أو لإضفاء مسحة جمالية تزيد من بهاء البيت، كحال بعض مَن يضعون عبارات دينية في واجهات قصورهم وعماراتهم كنوع من الزينة، أو من باب تبيان مالكها لهويته الثيوقراطية، كما أن ثمة مَن يستشهد بعباراتٍ هو عملياً لا يؤمن بها، ولا يتمثل فحواها، ولا يعمل بما جاء في سياقها، إنما يستخدمها من باب التقليد والمحاكاة؛ مَن يدري لعل الاستشهاد لدى بعضهم ليس إلاَّ متراس احتياطي للمآخذ المتوقعة على شيءٍ يخصه، وبالتالي لا تكون غاية تبرئة الذات بعيدة عن مطبات سوء التقدير لدى المتلقي، خصوصاً وأن بعض الاستشادات ومن خلال سلطتها المعنوية تقوم بفعل الحماية كما تفعل طلاسم السحرة أو المشايخ، وذلك من خلال تكهنات المستخدم المعوّل على العبارة أو الطلسم أو الرمز أو النموذج، حيث أن الجملة تلك تغدو بمقام الترس أمامه، لذا نجد مِن المترجمين مَن يستهل الكتاب بعبارة فرنسية ذائعة الصيت وهي من خلال ثنائية المقصود تمد المترجم بعناصر الحماية اللاحقة، وكأنها من أدوات الاستشعار التي وضعها في المقدمة حتى يظل المتلقي يتذكرها طوال غرفه للسّفر الذي بين يديه، وحيث يقول المثل ذاك: "إن الترجمة كالمرأة إن كانت أمينة لم تكن جميلة، وإن كانت جميلة لم تكن أمينة" وهنا المثل المستخدم يدافع سلفاً عمن يعرف بأنه خان الأصل أوان الترجمة، إضافة إلى دفاعه عمن تجنبوا الجمال وركزوا فقط على الأمانة، خاصة في موضوع الشعر الذي يفقد خاصيته عندما ينتقل من لغة إلى لغة أخرى، باعتبار أن الأمانة المبالغ فيها والحرفية في الترجمة قد تقضي على الكثير من عناصر الجمال في النص، وحيث يقول الشاعر والمترجم الانكليزي جون دنهام في هذا الخصوص بأن: "ليست مهمة مترجم الشعر نقل لغة إلى لغة أخرى، بل نقل شعر إلى شعر، والشعر ليس إلا روحاً رقيقة أثيرية سرعان ما تتبخر عند سكبها من وعاء لآخر، فتغدو جثة هامدة لا حياة فيها إلا إذا سُكب فيها روح جديدة"*.

على كل حال فحتى لا نقترب كثيراً من ديار الترجمة، وبالتالي نبتعد عن مدار الاستشهادات، ولكي يكون الكلام المستشهد به قابلاً للحياة أينما كنا، ولئلا يبقى القول أو المثل أو الحكمة التي نرددها هنا هناك مجرد كلمات حائمة في فلك أهل المناقشات الثقافية، إنما للتأكيد بأنها جديرة بالاستخدام اليومي في كل زمانٍ ومكان، ومن باب الحرص على ضرورة عدم التعامل مع تلك الذخيرة المعرفية كمواد جامدة، سأذكر حادثة طريفة جرت معي منذ أيام، أي بعد التزامي بالحجر الصحي المنزلي بسبب كورونا، إذ بعد اسبوعٍ واحدٍ فقط من فترة الحجر الصحي انتهى عقد الانترنت المنزلي لدي، وبينما أنا على نار القلق من وراء هذه المشكلة العويصة في وقتٍ غدا الانترنت من الأساسيات وليس الكماليات، وذلك باعتبار أن عملي أولاً صار عبر الانترنت، وثانياً فحتى العلاقات الاجتماعية توقفت تماماً، وغدا الاتصال بالمعارف والأصدقاء والزملاء محصور بالنت، ولإيجاد حل إسعافي سريع، قلتُ لزوجتي سأنزل لشراء باقة من الجيكا بايت إلى حين حل المشكلة، ومن زاوية التوفير والتقليل من المصاريف قالت زوجتي: "يا رجل أنت مكبر القصة كتير، أي فينا ناخود النت من عند الجيران بشكل مؤقت لبين ما تنحل المشكلة" فقلت لها: ومَن يضمن بأن الجار لن يقطع الانترنت عني في وقت حاجتي الماسة للنت؟ ثم قلت لها وأنا أتهيأ للخروج من البيت بأن الانترنت حالياً في هذا الظرف والوقت بالذات هو بمثابة خنجر رسول حمزاتوف، فقالت: مَن هذا رسول؟ وما علاقة الخنجر بالانترنت؟ وهل أنت نازل لتعبئة الباقة أم للمشاجرة مع أحد في الشارع؟ فصمتُّ هنيهةً ثم قلت لها: عند العودة انشاء الله سأحكي لكِ عن علاقة الخنجر بي، فنزلت من البيت، وتوجهت إلى أقرب محل تلفونات في الحي، فاشتريت باقة أنترنيتية، ومن ثم عدت للمنزل بنفس سرعة خروجي منه، وللأمانة لم أخبر زوجتي إلى الآن عن ثمن تلك الباقة التي كانت بسعر اشتراك شهر كامل، لأنني قلتُ في سري لو أخبرتها لبقيَت مدة طويلة وهي تجادلني وتخبر كل رفيقاتها عن لامعقولية تصرفات زوجها في هذا الظرف الحرج.

عموماً فعند دخولي للبيت ولكي أجعلها تنسى موضوع السعر برمته، ولئلا تسألني عنه، قلتُ لها تعالي لأحكي لكِ العلاقة بين حاجتي الحالية وخنجر رسول حمزاتوف، الذي يقول:" السلاح الذي تحتاجه مرة واحدة عليك أن تحمله العمر كله"*، وأردفتُ بأن الحدوتة يا سيدتي حسب ما يذكرها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، في روايته بلدي، وطبعاً حسب فهمي لها وما أذكره منها، هو أن المواطن الداغستاني عند نهوضه في الصباح الباكر وبعد أن يرتدي ثيابه يضع خنجراً على خاصرته ولا ينزعه طوال النهار، وإذا ما آب الى الفراش يضعه تحت مخدته أو بجانبه، وفي صباح اليوم التالي يحمله من جديد كعادة يومية، فهو قد يحمله عشرات السنين، وربما العمر كله من دون أن يستخدمه، ولكن في وقت اللزوم، وفي الحالات الحرجة يجب أن يكون الحنجر معه حتى يستخدمه، وإلا فسيكون من الخاسرين؛ وأنا يا سيدتي في هذا الوقت الحرج، وفي هذه الظروف الاستثنائية يجب أن يكون لديّ أنترنت بشكل متواصل، صحيح أني قد لا أحتاجه كل ساعات النهار، ولكن في وقت الحاجة إلى النت يجب أن يكون متوفراً لدي، وإلا فقد أخسر أضعاف ثمن الباقات التي اشتريتها من باب الاحتياط لحين عودة الانترنت المنزلي، فهل أدركتِ العلاقة بين حاجتي الراهنة وخنجر رسول حمزاتوف التراثي؟.
ـــــــــ
* معجم الاستشهادات، الدكتور علي القاسمي، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى 2001.
* نشيد الحرية وقصائد اخرى، بيرسي بيش شللي، ترجمة الدكتور ماجد الحيدر .
* بلدي، رسول حمزاتوف، تعريب عبدالمعين الملوحي ويوسف حلاق، دار الملوحي للنشر، طبعة عام 1999.