حدث في البنك
 

 

كنت ضجرًا في تلك اللحظات التي دخلت بها البيت بعد عودتي من عملي الشاق، لكن ما لمحته على شات قناة البغدادية وأنا أتناول عشائي، أن إحداهن بعثت بمسج تقول فيه: فتاة ثلاثينية، تبحث عن رجل مثقف.

تلك الكلمات أثارت اهتمامي، وحولت ضجري إلى لحظات مشوقة.

لم أكن أملك سبيلًا للاتصال بها، فإن القناة في بداياتها كانت تحجب عرض الأرقام، لكني تمكنت أخيرًا، بمكر ودهاء من الوصول إليها برقمي . فجعلت من كل رقم صفة شبهتها بالطبيعة، فرقم ثمانية كتبت: في آب سأقوم بزيارتكم، في شباط سنسافر معًا، وهذا ما فعلته على سائر رقمي. فكانت ذكية لدرجة كافية لمعرفتها الرقم.

مضت دقائق حتى رنّ هاتفي النوكيا والذي كان يسمى حينها بالدمعة، كنت قد اشتريته بعد إدخار جزء من راتبي البسيط لعدة أشهر.

تلك الليلة، أمضيناها نتحدث لغاية الفجر، انتقلت محادثاتنا بعدها عبر الهاتف الأرضي والتي كانت تستمر لساعات يضيع علينا عددها. عرفت بعض الأشياء عن هيام وكذلك هي إلى أن جاء اليوم الذي اتفقنا فيه على اللقاء في البنك الذي تعمل فيه .

لقد حرصت ذلك اليوم على أن أكون بكامل أناقتي، فهو لقائي الأول بها، وعلي أن أكون محاربًا جيدًا، (ضحكت الآن وأنا أتذكر هذه الكلمة لأبي) فكثيرَا ما كان يقولها لي كنصيحة ادخرها ليوم زفافي.

وقفت وسط البنك، الحيرة تتلبسني، لا أعرف كيف أجدها وسط مجموعة النساء اللواتي توزعن خلف الشبابيك الزجاجية، وبينما أطلقت عيني تتولى مهمة البحث، لمحت فتاة أثارت إعجابي، مكتبها يقع على الزاوية القصوى ليمين الصالة، كانت تتحدث باهتمام مع زبون يقف أمام نافذتها الصغيرة، أطلت النظر إليها متمنيًا أن تكون هي من جئت لمقابلتها، لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ قفزت فتاة من خلف شباكها وتقدمت نحوي لتعرفني بنفسها قائلة: أنا هيام.

يا إلهي! هذه هي فتاتي.

دقائق وكنا خارج المبنى، شعرت وكأنها لا تريد لأي شخص أن يرانا معًا، وهذا أمر لعله طبيعي، لكن ما حدث بعد ذلك فلم أكن لأصدقه حتى في منامي، أو في أحلام يقظتي، سارت لجانبي ملتصقة بيّ بينما راحت تكثر من التلفت، وهذا ما أثار دهشتي واستغرابي حتى ظننت أنها تخشى شيئًا ما يطاردها، أو هناك من يلاحقنا، من يدري؟! بدأ دبيب الخوف يتسلل بمهارة داخل مساماتي.

ونحن نقطع الشاعر الرئيسي، عرضت عليّ تناول الغداء معها في البيت الذي لن يستغرق الوصول إليه سوى دقائق. تراكمت الشكوك داخل جلدي، وقوفها فجأة أمام باب البيت بدد أمالي في الهرب.

الباب كان أعلى من الجدران التي تحيطه حتى إنني لم أستطع مشاهدة أي شيء إلا بعد دخولي، سرت معها مجتازًا الحديقة الواسعة جدًا. كانت تعادل مساحة بيتنا أربع مرات. كان يبدو على الحديقة الأهمال بعد أن أصبحت الأدغال فيها تعلو الشبابيك، ثمة كلب نائم مربوط في جذع شجرة، لم يحرك ساكنًا حينما رأنا نمر من جنبه.

الهدوء يخيم على المنزل، جلست وحدي في صالة مفروشة بأثاث فاخر .. تحف فنية غريبة .. لوحات جدارية لم أفهم لها معنى، وفي زاوية بعيدة وضعت طاولة طعام تسع عشرين شخصًا وفوق الجدار القريب منها علقت مجموعة من الصور أغلبها لرجل يرتدي الزي العسكري متدرجًا في مختلف المراتب. ثمة صورة واحدة لرجل يحمل طفلة في أعوامها الأولى، وتقف إلى جانبه امرأة شابة بينهما فارق كبير في العمر.

دخلت هيام مع سيدة مسنة مقوسة الظهر لطول قامتها وقدمتها لي على أنها عمتها التي ربتها بعد انفصال والديها، أما والدها النحيف جدًا، فقد سلم عليّ ببرود وبكلمات مقتضبة وهو ما يزال مرتديًا بيجامة البيت.

جلسنا نحن الأربعة على مائدة مُلئت بأصناف طعام تكفي لعشرة أشخاص، تساءلت في سري: هل كانوا يعلمون بمجيئي ليعدوا مثل هذه الوليمة؟!

الصمت المطبق العجيب،و تلك الملامح الخالية من التعبير،الجامدة في علبها المخزنة منذ زمن والتي بدت على وجه عمتها وأبيها، كانت تبعث بيّ شيء من الرعب ثم كيف لفتاة التصرف بكل هذه المساحة من الحرية في مجتمع مثل مجتمعنا كأنني صديقة لها، ربما لأنها تعيلهم؟! ربما!

سوى صوت الملاعق وهي ترتطم بالصحون، لا شيء يُسمع. تملكتني مشاعر بين الخوف و الإحراج، لكن الدهشة كانت أكبرها حينما انصرفت العمة و الوالد دون أية كلمة.

سألتني هيام ونحن نرتشف الشاي:
- ما رأيك في الصعود معي لأريك الطابق الأعلى من بيتنا؟

كانت تظن أنني أملك خيار الرفض أو القبول، تبعتها وهي تصعد السلم رافعة لأطراف ثوبها البيتي الذي ارتدته بعد الوصول، فبدت أقصر مما كانت عليه حين رأيتها أول مرة.

الطابق كان كبيرًا، فيه غرف كثيرة، أما غرفة نومها، فكانت بمساحة بيتنا بأكمله، التفت هيام نحوي لتلقي سؤالا مفاجئًا وهي تحدق بجرأة في عيني:
- صلاح، هل تتزوجني؟ هذا الطابق مخصص لي وحدي، وسيصبح بيتنا إن أنت وافقت.

وكأنها قرأت أفكاري فقالت بسرعة:
- لا تحمل هم المال، سأعطيك مبلغًا كبيرًا على أن يفهم أبي أنه منك، لا تخشَ شيئًا، لدي من المال ما يكفينا العمر كله.

سكتُ ولم أعطها جوابًا. كنت أفكر بفتاة البنك الأخرى تلك التي استهوتني و تمكنت من استفزاز أعصابي و فتح شهيتي للحياة.

كنت أريد للوقت المضي مسرعًا. الغريب أنني لم أحاول فعل شيء معها على الرغم من بطاقة الدعوة في في شفتيها،و تلك اللمعة في عينيها، بل ورغم محاولاتها للأمساك بيدي. وهي تودعني عند الباب قالت شيئًا لم أفهمه إلا بعد فترة طويلة من التفكير فيه.

إن وافقت، سأقنع والدي أنك الرجل المناسب لي، وإن اختلاف عائلتينا لن يشكل أي فارق لدي.

امتدت علاقتي بها أشهر عديدة، كنت أكثر من زيارتها في البنك ليس لأجلها، بل من أجل مريم الفتاة التي هويتها، وعرفت عنها عدم زواجها أو ارتباطها عاطفًيا، عندما كانت تتحدث معي هيام، لا أجد ما يمنعني من التفكير بمريم التي ملكت عليّ مشاعري.

لم تكن أجمل من هيام، لكنها أصغر بأعوام خمسة منها وهو الفارق ذاته بيني وبين هيام.

شجاراتي أنا وهيام بسبب غيرتها و شكوكها كانت تزداد بمرور الوقت حتى اتهمتني بالتلاعب بمشاعرها و بينت ندمها على علاقتها بي، في تلك اللحظة، شعرت أن أبواب قلبي قد أغلقت تمامًا بوجه هيام، وربما كنت انتظر هذا الشيء على إثر ذلك، عزمت على قطع علاقتي بها، فلم أرد على مكالماتها المستمرة و رسائلها التي لا تنقطع حتى جاءني إتصال ذات مساء من صديقتها مريم.

القدر يتدخل في حياتي للمرة الثانية.

لم أتردد لحظة واحدة حينما طلبت موعدًا لنلتقي. سبقت بخيالي الأيام كي ألقاها، بدأت باختيار الكلمات التي سأقولها حينما أنظر في عينيها، اشتريت ملابس جديدة رغم أن ذلك أرهق ميزانيتي، حرصت على أن أبدو الشاب الذي تحلم به أية فتاة على الرغم من أنني كنت شابًا وسيمًا يثير إعجاب الفتيات أينما يتواجد. في حقيقة الأمر، كنت أريد أن أبدو من تحلم به مريم، وهذا ما حدث، لم تستطع مريم إخفاء نظرات الأعجاب حين وقفتُ لاستقبالها، أما هي فقد ملكت عليّ كل شيء، كنت حريصًا على أن أبين ذلك لها في نظراتي و حديثي معها.

كانت دهشة مريم كبيرة حين عرفت مني أنني لست خطيبًا لهيام. كذبة هيام تلك هي التي فتحت أمامي كل الأبواب المغلقة وعبدت لي الطرق الوعرة. شعرت بالود تجاه هيام الذي كان ظهورها في حياتي حلقة وصل بيني وبين من اختارها قلبي.

بينت لي أنها جاءت من أجل ترميم العلاقة وإعادة المياه بيننا إلى مجاريها، فأجبتها بنظرات الواثق مما يقوله:
- ربَّ كلمة تقال بعدها تتهدم الجدران، و تحول المياه عن مجاريها.

في تلك اللحظة الحاسمة من عمر الزمن، شعرت كأن همًا من قلبها تسرب ليخرج من عينيها التي برقت من شدة الفرح.

شعور بالذنب كان يثقل كاهلنا نحن الاثنان تجاه هيام، بعد هذا اللقاء عرفنا أننا لا نملك سلطانًا على القلب، والمشاعر.

لم أخبر مريم أنني قمت بأعطاء رقم هاتف هيام لصديق لي و طلبت منه أن يقوم بدور العاشق معها لأرى ما يحدث معه، فجرى له ما جرى لي في قصة التعارف لتنتهي بطلب الزواج منه في الطابق العلوي. ما حدث بين هيام صديقي كان بمثابة من يهيل التراب فوق جسد الميت قبل دفنه.


   

 

لطفاً إشترك في الصفحات التالية   




 

قصّة العدد 75