واحات


تنفرد مجلة الكاتب بنشر "سلسلة عاشق من زمن
اليسار" للشاعر المغربي هشام موكادور.
------
كتبت من زمن قريب نص قصيدة، نشرت في ديواني الشعري "ويسألونك
عن الوطن؟". وهي من وجع الذاكرة، كنت ابن السوق في الصغر،
وكبرت وبقي السوق هو نفسه السوق ولكن بتفاصيل أخرى.
-------
كُنْتُ أَبِيعُ الْمَاءَ لِلْعَابِرِينْ
وَ أكَيَاسَ"البَلَاسْتِيكِ"
فِي سُوقٍ يَحْرُسُهُ بَدِينٌ
وَعَوْنٌ قَصِيرْ.
لَمْ يَكُنْ لِي جَنَاحٌ لَأَطِيرْ
كُنْتُ صَغِيرًا
صِرْتُ غَرِيبًا
صَارَ الوَطَنُ سُوقًا كَبِيرْ.
-----
السوق عالم بسيط لمن يملكون المال، من هدفهم شراء بعض البضائع
ثم المغادرة، يقولون لك عندما يعودون منه "أف هذاك السوق،
تمارة فيه". لكنهم لا يدركون حجم المعاناة بكل تجلياتها، حجم
الصراع الذي يجثم بكل ثقله فوق صدر طفل صغير، يستيقظ صباحا على
فطور من الشاي وخبز البارحة، ترافقه ترنيمة طيبة من دعوات
والدته، يقبل كف والده الذي يمسح على رأسه "الله يرضي عليك
أولدي"، يطوي اربعة كلمترات بأقدامه الصغيرة نحو السوق، يدخله
متنفسا الصعداء، يجري في كل الاتجاهات كعصفور يفتش عن قوته. في
المساء يعود إلى بيته، يستحم ثم يفتح دفاتره ليعد العدة لمدرسة
الغد. لم ألعب كفاية، لم أفعل ما يفعله أبناء الطبقة المتوسطة
يوم الأحد، كل ما فعلته عرفت السوق كما عرفني..

السوق.. السوق.. بدأته أبيع فيه الماء للعابرين، لكنني تركته
لثقل "بيدو" الماء، ثم توجهت نحو الأكياس البلاستيكية، كنت
أشتريها بخمسة دراهم بالميزان من عند "هري با حمان" الذي كلما
رآني مساء يوم كل سبت يرحب بي " ها مول الشكارة جا". في آخر
اليوم يكون ربحي الصغير 10 دراهم، أخبأ العشرة في بنك والدتي
للمدخرات، وابقي على الخمسة دراهم للأسبوع المقبل. وتطورت
مهارتي في البيع، وإقناع المشترين، صرت أنتهي مبكرا بل صار
رأسمالي عشرة دراهم، وزاد ربحي الى 20 درهما.. كنت كلما رأيت
امرأة منحنية تختار حبات الخضر، أساعدها قائلا للبائع " أرى
القفة"، يقذف القفة وامنحها لها ثم أنحني بجوارها اختار معها
حبات الخضر، عندما تنتهي تبتسم لي وتشتري مني الكيس البلاستيكي
من دون حرج، والكثيرون أهل كرم حين يمنحونني ضعف ثمن الكيس. في
عوالم السوق كانت لدينا صراعاتنا الصغيرة فيما بيننا نحن
الباعة الصغار، الكل يريد بيع كيسه، الكل يهرول نحو المشترين.
وكم مرة دخلنا في صراعات فيما بيننا، لكننا كنا نتحاشى المنطقة
التي كان يبيع فيها "بوقال"، وهو طفل يكبرنا سنا، وحجما،
وشراسة.. كانت له حرية التنقل في كل مكان، كان يسلب الآخرين
أكياسهم، أو يفرض عليهم إخلاء المكان.. وكنا نطيعه على مضض. لم
يكن تهمني حرارة الشمس الحارقة، أو رعونة بعض المشترين، أو تعب
جسدي الضئيل، كان يقلقني طوال اليوم بطش ذلك الوحش "بوقال".
حتى حدث الذي حدث، والذي جعلني أزيد من تخوفي. كان اسماعيل وهو
جارنا، طفل مثلي يبيع الماء للظمآنين الذين أنهكتهم شمس السوق
العمودية. تقدم منه "بوقال" وطلب كأس ماء، عندما روى ظمأه أبى
أن يدفع له، وبعد مشادات كلامية بينهما، أمسك بوقال بخناق
اسماعيل، أتيت مهرولا من بعيد ثم رفعت جسدي، وضربت بركلة قوية
بوقال على ظهره، سمعت له صرخة، طرحناه أرضا، وأغرقناه في بحر
من الركل.. حتى تدخلت أيدي الكبار تفك نزاعنا.. منذ تلك اللحظة
بدأت أبيع في حواشي السوق ولا ألج وسطه.. وحين التقيت به ذات
مرة، كنت أعد العدة للهرب، لكن شجاعة تملكتني حينها، مررت
بجواره كان يرمقني، وكنت أرمقه، لم يأت عندي، لم يعترض طريقي..
وتكررت لقاءاتنا دون خوف أو وجل، كنت أراه يمارس ساديته على
الأطفال إلا أنا لا يقترب نحوي، بل كان يتودد أحيانا برأسه
مصافحا وبدوري أبتسم له.. تعلمت درسا حينها: الخوف الذي كان
بداخلي هو نقطة ضعفي، بوقال لم يكن سوى هالة كارتونية، مثلها
مثل الكمبرادور.

