القصة



من تحت الغطاء تشكل عالمي الصغير،
أمنياتي كانت تتحقق هناك، أغمض عيني وأتيه في الأماكن التي يمنع عليّ دخولها، أقتني
الأشياء المحروم من تملكها، أعشق الطفلة "خديجة" كما أحب أن تكون عليه من غير غرور
أو جفاء. أضع العالم المتكبر أسفل قدميّ الصغيرتين، وأنتشي بلحظة الانتصار. هناك
تشكل خيالي، هناك امتلكت موهبة التلاعب بالأماكن في رأسي، أطوعها كما أشاء صورا
وألوانا ووقائعا. لم أكن أعلم أنني سأصير شيئا آخر داخل المؤسسة التي تحضن حبي
الطفولي الموجع، والمطعم المدرسي المعبر عن طبقتي الاجتماعية الهشة، ومعلم اللغة
الفرنسية "حيزون" رمز الاهانة والتحقير وبرودة الحس الإنساني.
كان لي دفتر صغير منحته لي أختي العائدة من جامعة "ظهر المهراز"، كان حجمه صغيرا
ولونه أحمر. حبي له جعلني أعتني به كقطعة من قلبي، أضعه قرب الوسادة، بين الدفاتر،
في كل مكان أتواجد فيه، لا أفارقه سوى يوم الأحد عندما أضرم السوق بالأكياس
البلاستيكية، ولأنني كنت أحبه كنت أدون فيه بعض الكلمات، مما أشعر به وأحسه، عندما
أريد أن أشتم أحدا غليظا أكتب عنه. عندما أريد شكر شخص طيب أبعث له رسالة بكتابتها
فيه. وكتبت عن خديجة الكثير من كلمات الشوق والهيام، على الاقل هذا السر لن تمسكه
كف غير كفي، ولن أهان بسبب ما أدونه فيه.. يمكن أن تسميه المنشور السري لطفل صار
يحب كتم ما يفكر فيه عن العالم الخارجي.
في السادسة ابتدائي، لا أذكر كيف أمسكه معلم اللغة العربية "لحسن هبوت". حمله وأخذه
الى مكتبه، وبدأ يقلب أوراقه، كنت أرتجف في مقعدي، والعرق يسافر في جسدي، وسخونة
الخجل تحرق جسدي، واحمرار الوجنتين قد غير لون سحنتي السمراء. فجأة نطق المعلم "
هشام تتكتب الشعر"، تلعثمت خفضت رأسي الى سطح الطاولة، حدقت فيها جيدا، ما زلت
أتذكر كيف ضربني معلم الفرنسية، فقط لأنني كتبت كلمات على ورق. لكن هذا المعلم قد
أمسك دفترا بالكامل فماذا سيكون مصيري. ناداني " قرب عندي".. تقدمت نحوه خائفا،
مرتجفا، محملا على نعش الرهبة، معدا راحتي الى ضربات موجعة.. منحني الدفتر وقال لي
"قرا هادشي لي كاتب"، أمسكت الدفتر بحلقت فيه، فكأنني لأول مرة أمسكه، كانت الحروف
تتراقص أمام عيني، لم تشأ أن ترتب في كلمات وجمل كي أقرأها عليه. وضع كفه على كتفي،
سمعته يقول بصوت حنون اخترق أذني، تشبعت به روحي، ورقص له قلبي المكسر بالجفاء.
"متحشمش غير قرا" وبدأت أقرأ بصوت متلعتم وجل.. قال "ارفع صوتك.. لا تخف "... رفعت
صوتي، رأيته يتركني ويذهب الى أخر الفصل، قرأت صفحة ثم توقفت. من بعيد رأيته يحرك
رأسه صعودا وهبوطا، يدعوني الى استمرار في القراءة، عندما انهيت صفحة أخرى صفق
بيديه، وأمر الفصل أن يصفق، فصفقوا..
هذا الطفل ابن القاع الاجتماعي، يصفقون له تلاميذ مثله.. تقدم نحوي، فعل حركة لن
أنساها ما حييت، رفعني بكلتا يديه، ووضعني على مكتبه، وقال "بقات خمسات دقائق، قرا
لينا شي حاجة أخرى".. قرأت بأعلى صوتي، كنت أراهم تحتي.. كنت فوقهم، ابن القاع
الاجتماعي صار فوق الجميع.. وسمعت كلمة يرهف لها السمع، قال المعلم مصفقا "صفقوا
على الشاعر ديالنا". لأول أشعر بلقب شاعر. أتحسسه بكل خلجات الروح.. وأصبحت صديقه،
أكتب وأمنحه يقرأ ويشجعني.. بل ويمنحني خمسة دقائق عند نهاية كل حصة، أصعد فوق
مكتبه وأقرأ بأعلى صوتي.. داع صيتي بين التلاميذ، بأنني شاعر.. منحني طفل "كمال
اعبابو" كتابا صغيرا جمعت فيها أجمل مقاطع المتنبي، وذلك عندما ذهبت معه الى الحي
الراقي " حي بام" عرفني بأهله بكوني شاعر.. اقتبست من الكتاب الذي يحتوي على مقدمة
تعريفية عن حياة أبو الطيب المتنبي، مسرحية قصيرة عن مقتله، ما زلت أتذكر كيف رفضت
أن يجسد "الرافيقي" دور كافور الاخشيدي لأنه أبيض اللون، لكنه أصر على التمثيل
بتلطيخ وجهه بالفحم.. ومثلنا الدور أمام المعلم " هبوت"، حيث قُتلت فيه على يد فاتك
بسيف خشبي يمسكه " ترفاس رضوان".. كان كل هذا في خمسة دقائق.. فجاء التصفيق من
التلاميذ والثناء من المعلم. شاركت في عيد العرش بالمؤسسة بقصيدة عن الأم.. نشرت
قصائدي -كما كنت أسميها أنداك في الجريدة الحائطية للمؤسسة بإيعاز من المعلم، ثم
نشر قصيدة لي في الملحق الثقافي لجريدة العلم، حيث أحضرها الى المدرسة، وأمام دهشة
التلاميذ منحني إياها، أخذتها الى البيت أطوي الأرض جريا، منحتها لوالدتي الأمية
فرحت مع أنها لم تفك كلمات ما كتبت، قرأها والدي بتمعن، ينظر إلي تارة، وينظر الى
الجريدة تارة أخرى، رأتها العائلة وكل أهل الحي.. كانت الشيء الوحيد التي لملمت
شتات القلب وجراح الروح.. حتى عندما أذهب إلى السوق وأبيع الأكياس البلاستيكية، تحت
حرقة الشمس، وصفاقة البشر، وتعب الجسد الصغير، كنت منتشيا بنفسي.. وقررت أن تكون
مهنتي في المستقبل شاعر، لم يكن يعرف هذا الطفل الصغير، أن الشعراء في وطني زادهم
الفقر والجوع والانتحار في غالب الأحيان.
استذراك: المعلم لحسن هبوت، علمت فيما بعد أن أصبح مفتشا في التعليم، فتشت عنه في
الفايسبوك، فلم أجد له حسابا، سوى بعد الصور لحفلة أقيمت على شرفه في ثانوية
بالمدينة. سيبقى هذا المعلم في الروح والذاكرة والقلب ما حييت.. شكرا له، لأنه
أطعمني ذاتي، منحني ثقتي بنفسي.. وأتمنى أن تسعفني ظروف الحياة لأعيد الامتنان
بالتقدير والوفاء.

أترك مداخلة
شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب

كان لي دفتر صغير منحته لي أختي العائدة من جامعة "ظهر المهراز"، كان حجمه صغيرا ولونه أحمر. حبي له جعلني أعتني به كقطعة من قلبي، أضعه قرب الوسادة، بين الدفاتر، في كل مكان أتواجد فيه، لا أفارقه سوى يوم الأحد عندما أضرم السوق بالأكياس البلاستيكية، ولأنني كنت أحبه كنت أدون فيه بعض الكلمات، مما أشعر به وأحسه، عندما أريد أن أشتم أحدا غليظا أكتب عنه. عندما أريد شكر شخص طيب أبعث له رسالة بكتابتها فيه. وكتبت عن خديجة الكثير من كلمات الشوق والهيام، على الاقل هذا السر لن تمسكه كف غير كفي، ولن أهان بسبب ما أدونه فيه.. يمكن أن تسميه المنشور السري لطفل صار يحب كتم ما يفكر فيه عن العالم الخارجي.
في السادسة ابتدائي، لا أذكر كيف أمسكه معلم اللغة العربية "لحسن هبوت". حمله وأخذه الى مكتبه، وبدأ يقلب أوراقه، كنت أرتجف في مقعدي، والعرق يسافر في جسدي، وسخونة الخجل تحرق جسدي، واحمرار الوجنتين قد غير لون سحنتي السمراء. فجأة نطق المعلم " هشام تتكتب الشعر"، تلعثمت خفضت رأسي الى سطح الطاولة، حدقت فيها جيدا، ما زلت أتذكر كيف ضربني معلم الفرنسية، فقط لأنني كتبت كلمات على ورق. لكن هذا المعلم قد أمسك دفترا بالكامل فماذا سيكون مصيري. ناداني " قرب عندي".. تقدمت نحوه خائفا، مرتجفا، محملا على نعش الرهبة، معدا راحتي الى ضربات موجعة.. منحني الدفتر وقال لي "قرا هادشي لي كاتب"، أمسكت الدفتر بحلقت فيه، فكأنني لأول مرة أمسكه، كانت الحروف تتراقص أمام عيني، لم تشأ أن ترتب في كلمات وجمل كي أقرأها عليه. وضع كفه على كتفي، سمعته يقول بصوت حنون اخترق أذني، تشبعت به روحي، ورقص له قلبي المكسر بالجفاء. "متحشمش غير قرا" وبدأت أقرأ بصوت متلعتم وجل.. قال "ارفع صوتك.. لا تخف "... رفعت صوتي، رأيته يتركني ويذهب الى أخر الفصل، قرأت صفحة ثم توقفت. من بعيد رأيته يحرك رأسه صعودا وهبوطا، يدعوني الى استمرار في القراءة، عندما انهيت صفحة أخرى صفق بيديه، وأمر الفصل أن يصفق، فصفقوا..
هذا الطفل ابن القاع الاجتماعي، يصفقون له تلاميذ مثله.. تقدم نحوي، فعل حركة لن أنساها ما حييت، رفعني بكلتا يديه، ووضعني على مكتبه، وقال "بقات خمسات دقائق، قرا لينا شي حاجة أخرى".. قرأت بأعلى صوتي، كنت أراهم تحتي.. كنت فوقهم، ابن القاع الاجتماعي صار فوق الجميع.. وسمعت كلمة يرهف لها السمع، قال المعلم مصفقا "صفقوا على الشاعر ديالنا". لأول أشعر بلقب شاعر. أتحسسه بكل خلجات الروح.. وأصبحت صديقه، أكتب وأمنحه يقرأ ويشجعني.. بل ويمنحني خمسة دقائق عند نهاية كل حصة، أصعد فوق مكتبه وأقرأ بأعلى صوتي.. داع صيتي بين التلاميذ، بأنني شاعر.. منحني طفل "كمال اعبابو" كتابا صغيرا جمعت فيها أجمل مقاطع المتنبي، وذلك عندما ذهبت معه الى الحي الراقي " حي بام" عرفني بأهله بكوني شاعر.. اقتبست من الكتاب الذي يحتوي على مقدمة تعريفية عن حياة أبو الطيب المتنبي، مسرحية قصيرة عن مقتله، ما زلت أتذكر كيف رفضت أن يجسد "الرافيقي" دور كافور الاخشيدي لأنه أبيض اللون، لكنه أصر على التمثيل بتلطيخ وجهه بالفحم.. ومثلنا الدور أمام المعلم " هبوت"، حيث قُتلت فيه على يد فاتك بسيف خشبي يمسكه " ترفاس رضوان".. كان كل هذا في خمسة دقائق.. فجاء التصفيق من التلاميذ والثناء من المعلم. شاركت في عيد العرش بالمؤسسة بقصيدة عن الأم.. نشرت قصائدي -كما كنت أسميها أنداك في الجريدة الحائطية للمؤسسة بإيعاز من المعلم، ثم نشر قصيدة لي في الملحق الثقافي لجريدة العلم، حيث أحضرها الى المدرسة، وأمام دهشة التلاميذ منحني إياها، أخذتها الى البيت أطوي الأرض جريا، منحتها لوالدتي الأمية فرحت مع أنها لم تفك كلمات ما كتبت، قرأها والدي بتمعن، ينظر إلي تارة، وينظر الى الجريدة تارة أخرى، رأتها العائلة وكل أهل الحي.. كانت الشيء الوحيد التي لملمت شتات القلب وجراح الروح.. حتى عندما أذهب إلى السوق وأبيع الأكياس البلاستيكية، تحت حرقة الشمس، وصفاقة البشر، وتعب الجسد الصغير، كنت منتشيا بنفسي.. وقررت أن تكون مهنتي في المستقبل شاعر، لم يكن يعرف هذا الطفل الصغير، أن الشعراء في وطني زادهم الفقر والجوع والانتحار في غالب الأحيان.
استذراك: المعلم لحسن هبوت، علمت فيما بعد أن أصبح مفتشا في التعليم، فتشت عنه في الفايسبوك، فلم أجد له حسابا، سوى بعد الصور لحفلة أقيمت على شرفه في ثانوية بالمدينة. سيبقى هذا المعلم في الروح والذاكرة والقلب ما حييت.. شكرا له، لأنه أطعمني ذاتي، منحني ثقتي بنفسي.. وأتمنى أن تسعفني ظروف الحياة لأعيد الامتنان بالتقدير والوفاء.


شكرا لمداخلتك
سوف يتم نشرها أسفل مادة الكاتب