سيارتي الترشيشية


 
عبدو صدقة
لبنان

واحات

في العام ١٩٩٨ واجهتني مشكلة ميكانيكية في جهاز التوجيه في سيارتي الجديدة (آنذاك) .. وصَدف أن كان أحد جيراني ممن يعمل في هذا المجال، والذي لطالما أخبرني عن مدى براعته في عمله، وعن أن شركات السيارات الجديدة يرسلون إليه سياراتهم المعطّلة ، والتي (تكعى) عليهم حلّ أعطالها... حتى أنه أخبرني أكثر من مرّة، أن براعته في إستنباط الحلول للمشاكل الميكانيكية المستعصية جعلته يتفوق على صانعي هذه السيارات في أحيانٍ كثيرة ..

قلت في نفسي : إجا وقتك يا ساسين..!! وقصدته معلّلاً نفسي بحلّ هذه المشكلة بلحظة ... وحالما وصلت عنده وأخبرته عن مشكلتي، بادرني صديقنا بطرح أسئلةٍ تنمّ عن خبرة معلم !! ثم أصدر حكمه المبرم (وهو الواثق من نفسه دون حدود) حتى دون أن يكلّف نفسه عناء النزول تحت السيارة أو حتى فتح غطاء المحرك:
- بدّك بوات ديركسيون جديد !!!

أصابتني الصدمة كمن يتلقى لكمة على وجهه..وعندما حاولت منذهلاً الشرح له بأنها سيارة جديدة لم تبلغ عامها الأول بعد، رفع أنفه و زمّ شفتيه، كمن إشتمّ رائحةً نتنة وقال: ما هيدي شغل تركيا...!

غمغمت بما لا أعرف حتى اتجنّب شتيمة كادت تعبر شفتي مقابل هذه الخدمة (المميّزة) ورحلت.

وصلت إلى ترشيش، وبعد إستراحة قصيرة أحضرت عدّتي ورفعت سيارتي محاولاً إستكشاف ما يشوبه، والمفاجأة كانت أن هناك بعض الحزقات (العزقات) بحاجة للشدّ!!.. هكذا، بكل بساطة، لا أكثر ولا أقل..

قبل أقل من عام من ذلك التاريخ، أي في ربيع العام ١٩٩٧، إشتريت هذه السيارة الكحلية، الرخيصة، من شركة بسّول حنينة في منطقة سدّ البوشرية (مش دعاية)، والتي يعود زمن تصميمها و صنعها إلى أواخر ستينيات القرن المنصرم في فرنسا، والتي أعيد إنتاجها في تركيا بترخيص من الشركة الأم بعد توقفه هناك لعقدٍ آخر من الزمن .. والتي أثبتت على مدى عقود من الخدمة نجاح هذا التصميم الرائع.. وما زال إبني البكر يتذكّر تفاصيل ذلك اليوم الذي إستلمنا فيه سيارتنا، وكيف رحنا نمزّق (النايلون)الذي يغلّف مقاعدها، وعن رائحة القماش والجلد الصناعي المميّزة فيها..

والحق يقال، أنها بالرغم من تواضع تجهيزاتها، وقساوة مقودها، والصوت المرتفع الصادر عن محركها، و(أنين) ناقل الحركة فيها، إلا أنها سيارة صلبة يُعتمد عليها.. وعليّ الإعتراف، انها في المرّات القليلة، لا بل النادرة، التي خذلتني فيها، كان السبب إهمالي المتمادي لها..

صحيح أنها سيارة عادية، لكننا إستعملناها كشاحنة صغيرة، وقاطرة، وسيارة ركّاب، وكآلية لتعليم قيادة السيارات.. ولقد نقلنا فيها كل مواد البناء (حين كنا في طور بناء منزلنا الجبلي) من أكياس البحص وأحجار الطوب، وأكياس الرمل والإسمنت.. وكذلك اثاث المنزل وعدّة الزراعة، وأكياس الحطب والسماد ، وإسطوانات الأوكسيجين والأسيتيلين وعدّة التلحيم، ومدافىء الحطب، وأولادنا حتى شبّوا، ورفاقهم، وحيواناتنا الأليفة.. وتعلّم عليها قيادة السيارات إبنَي البكر والذي يليه، وهشّما وجهها البشوش مرات عدّة (ولكنها، في كل مرة، تعود للإبتسام لقاء ليرات قليلة) وقطَرنا بواسطتها سيارات تكبرها حجماً ووزناً.. ولم تتذمّر يوماً.

الحال، أن رباطاً عاطفياً بات يشدّني إليها.. فبعد ثمانية عشر عاماً(ونيّف) من الزمن، وبعد قطعها ثلاثمائة وثلاثة عشر ألف كيلومتر من الطرقات الوعرة والمعبّدة، ما تزال (بصحة) جيدة نسبياً (ولو أن الأصوات الصادرة عنها باتت أكثر صخباً)، وما زالت معظم مكوّناتها الأصلية تعمل دون كلل منذ دخولها الخدمة..

محرّكها وناقل الحركة فيها، ومضخّات الوقود والزيت والماء والمكابح ، والمُكَرْبن وجهاز التدفئة (العديم الفائدة تقريباً) وماسحات الزجاج الخ... وال(بوات ديركسيون) الذي أوصاني صديقي ساسين بإستبداله، ما زالت تعمل دون توقّف..

ما زلت أستمتع بإنطلاق محركها الفوري كل صباح (من أول نقرة) بصرف النظر إذا كان الطقس حاراً أو مثلجاً، والإنطلاق بها فوراً دون (تحماية).. وما زلت أستمتع بصوت عادمها يُقرقع بإنفجارات صغيرة متتالية كلما انطلقت نزولاً على منحدراتنا الجبلية .. وما زال هسيس مكابحها وزعيق دواليبها على المنعطفات يُشعرني بالأمان..

ما زلت أستمتع بقيادتها ثمانون كيلومترا كل يوم، خمسة أيام في الأسبوع (ما عدا السهو والغلط)...

اليوم، بعد أكثر من عشرين عاماً، وأكثر من ثلاثمائة وثلاث عشر ألف كيلومتر، يكفيني فخراً بها أنها ما زالت تعمل بكفاءة، دون تردّد، دون تذمّر، و يكفيها فخراً بي أنها تحمل إثنان من أجمل وأحبّ شعاراتي :
- ترشيش قلب لبنان... وترشيشي بكل فخر..