واحات

المزيد للكاتب

هذا أنا،
قيثارة تعجب الناظرين، لكنها هيكل على حائط التذكار.
هذا أنا،
تذكار لمن مروا على جثتي، أخذوا فرحي والتهمهم
الغياب.
هذا أنا،
غياب يفترش اريكته في الشارع العام، فمن يجود
بالبقاء؟.
البقاء، سكون النفس فوق حيز جغرافي. الهيكل الجسمي ليس له رأي،
كقصبة جوفاء، كلما علت في السماء انحنت الى الأسفل، ثم تصير في
هيكل الركوع. فمن يعشق الركوع في حضرة الخذلان الكبير ؛
الخائف، أو المتوجس، أو العبد الدليل. ربما لست من تلك الطينة،
أو قد مرت حالات تحاول امساكي من خناقي لأنحني، وقد كنت فعلتها
ذات يوم، ولكنني واثق جدا، من أنني حينها لم أنم تلك الليلة.
شيء بداخلي جبار، يمنعني من التسلق والتملق والتعثر في حظ
الأخرين.. وهذا ليس طبعي، لم يكن يوما له علاقة بالتراكم
المعرفي، أو الادراك بوعي الشهامة، بل كان طبع والدي. فقد
عرفته رجلا بكبرياء فضيع، لم يكن يرضى بأنصاف الحلول، أو بفعل
ما يفرض عليه ولو كان نصيحة. ذات يوم عندما جاءه صديقه "عبد
القادر"، مخبرا اياه بضرورة إخفاء رسالة عبد السلام ياسين
"الاسلام أو الطوفان" لم يمتثل له بل تركها في المحل واضحة
للعيان، حتى لا يقال عنه "جبان".. نسيت إخباركم بأنه كان رجلا
حرا في الجماعة الياسينية، وانا كنت إبن أبي، تبعت خطاه،
التحقت بالجماعة وانا ما زلت طفلا، حضرة اللقاءات التربوية،
والتعليمية، بت معهم في خلوتهم، صُمت الى جوارهم، ختمت القرآن
تلاوة معهم..
وفي الدائرة كان "المنهاج النبوي" وما يحتويه من خصال عشر، هو
منهجي في الحياة.. كان الأب هو الشارح، والمهذب والمعلم.. كان
كذلك هو الرجل الذي كلما رأى "الحسن الثاني" في نشرة الثامنة
يصرخ "طفي هذاك الطارو"، وكنت أهرع بسرعة لأخمد صورته وصوته،
كان يكره نظام الحسن الثاني. وكان يكره الطباع الدميمة، أذكر
ذات صبيحة، كان أخي يتشاجر مع أحد أقرانه، ولأنني ابن أبي،
هرولت نحو الوالد أخبره بأن "مصطفى" يتشاجر مع أحدهم، كنت
أنتظر منه ابتسامة وتهنئة، فماذا فعل، أمسكني من أدني قائلا "
لا تكن واشيا، إن كان مظلوما فأعنه، وإن أكان ظالما فامنعه"،
ربما كان ذلك أول درس لقنه لي، بأن أمسك لساني عن الأدية
المجانية، إدراك أن رضى الآخرين لا يكون على حساب أناس في موقف
ضعيف.
درس آخر مأساوي لطفل صغير، أصبح الآن كاريكاتوريا لي في هذا
السن؛ خلف سور المدرسة كنت أقبل طفلة تدرس معي ومحاولا التحرش
بها من فوق الملابس – فقد كنا نعتقد ونحن صغار من يحتك بالفتاة
يكون قد ضاجعها- فجأة وجدت يد تمسكني من ظهري، وتقدفني أرضا،
وتركلني على بطني، عندما تفرست في ملامحه وجدته قريب الطفلة.
نهضت بسرعة وهرولت الى باحة المدرسة. في الغداء عندما عدت الى
البيت، وجدت والدي ينتظرني وبيده حزامه الجلدي، تلقفني بسرعة
وبدأ ينهال علي بالضرب، كنت أصرخ واستعطف والدتي، واخوتي، لكن
من يجرؤ على التدخل وعتقي من براثنه، حتى جاءت جارتنا إيطوا
وحضنتني، أقسمت على والدي بأن يتركني وشأني.. وأخدتني الى
بيتها، تناولت الغداء عندها، كانت تسألني وتضحك، ماذا فعلت
لصديقتك؟ وبسذاجتي كنت أضم شفتي "مُحْ"، كانت تقهقه بأعلى
صوتها، ثم قالت لي "إن كنت قبلتها فعلا، ستنتفخ بطنها، وستلد
طفلا صغيرا"، لا أدري كيف سمحت لها نفس التلاعب بعقلي الصغير،
صدقتها كما كنا نصدق الكبار في الصغر. كل صباح لي موعد في
انتظار تلك الطفلة، أتبعها من مسافة بعيدة متلصصا على بطنها،
وهاتف بداخلي يقول "إن انتفخت بطنها سأهرب من المنزل".

