المقال
مجلة الكاتب اليساري :: د. إقبال الغربي 


د. إقبال الغربي | تونس

المثقف الليبرالي والتعذيب


عندما ندد فلاسفة القرن الثامن عشر من أمثال منتسكيو وبيكاريا وفولتير وهوبز بظاهرة التعذيب كانوا يعارضون تقنية من تقنيات المنظومة الجزائية السائدة في تلك الأزمنة. في ذلك الوقت كان التعذيب يلازم الجريمة ويعادلها إن لم يكن يتجاوزها وحشية. في ذلك الحين كان هذا الداء العضال علنيا و كان له العديد من المؤيدين أمثال مؤلف "الشنق ليس بالعقاب الكافي" الذي اقترح تحطيم المحكوم عليه بواسطة الدولاب ثم جلده حتى الإغماء ثم تعليقه بالسلاسل قبل تركه يموت ببطء من الجوع.

بل هناك من نادي بسحل الضحية فوق حصير حتى لا يتقشف الرأس فوق البلاط وحيث تفتح بطنه و تستخرج أحشاؤه على عجل حتى تتسنى له رؤية ذلك بعينه وبرميه في النار وحيث يقطع رأسه أخيرا ويشقف جسمه إلى قطع.

في تلك الفترة كان التعذيب يجسد العنف الشرعي فهو طقس منظم ومقنن من اجل وصم الضحية وإبراز هيبة السلطة التي تعاقب. فهو لم يكن تجاوزا للعدالة أو تعديا عليها.

أما اليوم فقد أصبح التعذيب ممارسة لاشرعية خارجة عن إطار القانون. فقد الغي الاعتراف العلني بالذنب في فرنسا لأول مرة سنة 1719 ثم الغي ثانية سنة 1830 بعد إقراره من جديد لفترة وجيزة والغي الوصم بالحديد المحمى في انقرترا سنة 1834.

وفي مسيرة البشرية من الهمجية إلى الحضارة ومن البربرية إلى الانسنة تبلور التخفيف من القسوة الجزائية والتلطيف المتزايد للعقوبات. ووقع الإعلان عن ميثاق حقوق الإنسان سنة 1948 وفي 1984 اعتمدت الجمعية العامة اتفاقية مناهضة التعذيب وفتحت باب التوقيع عليها والمصادقة عليها والانضمام إليها. وتنص هذه الوثيقة على عدم جواز تعرض احد للتعذيب أو للمعاملة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة.

ورغم القوانين والدساتير والمعاهدات الدولية لا يزال الجسد الهدف الرئيسي للقمع العقابي في مغلب بقاع العالم وخاصة في بلدان العالم الثالث.

والمخجل حقا هو الاكتشافات الأخيرة حول إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على ممارسة التعذيب في الأقبية السرية داخل معتقلاتها في أفغانستان وغواتنامو وفي انتهاك واضح لاتفاقيات دولية كانت من الموقعين عليها والمتعهدين بحمايتها وتطبيقها. والأخطر من هذا هو إرسال المتهمين من العرب و المسلمين إلى بلدان لها سجل محزن ومخزي تجاه حقوق الإنسان للاستفادة من خبرات جلاديها الوحشية في التحقيقات لاستنطاق هؤلاء والحصول على المعلومات.

وبقدر ما نستنكر هذه الممارسات الوحشية بقدر ما نذكر أن المؤسسات الديمقراطية مجسدة في حرية التعبير أي حرية الإخبار والاستخبار وحرية الاستطلاعات والتحقيقات وعدم السكوت عن المسكوت عنه عن التجاوزات والانتهاكات والفضائح هي أول من استنكر هذه الممارسات و ندد بها. فالميديا العالمية الديمقراطية هي التي فضحت "أسرار الدولة" وجعلت العار اشد عارا وذلك بإشاعته وإذاعته بين الناس. وهو ما هو مفقود في بلداننا فنحن نادرا ما نتحدث عن التعذيب وفظاعاته في اجتماعاتنا في صحفنا وفي أعمالنا الثقافية.

ما هو التعذيب؟

التعذيب حسب الموسوعة الفرنسية هو"عقاب جسدي مؤلم يتفاقم إلى حد الفظاعة انه ظاهرة صعبة التفسير زادها اتساع خيال الناس وشذوذهم بربرية و وحشية."

ولان التعذيب يكشف عن الجانب اللانساني والفاشي في أعماق النفس البشرية فان مقاربته كانت دائما صعبة ومحرجة. فعندما تحدث سارتر وسيمون فاي عن التعذيب وشناعاته في فترة النضال ضد النازية كان التساؤل الرئيسي هو ما هي درجة مقاومة المثقف وصموده تحت التعذيب في عالم جهنمي لا مكان فيه للقدرات الفكرية الراقية. فكان التعذيب بمثابة المحك الذي تقاس به قوة الشخصية وصلابة المبادئ والقناعات. وبالتالي لم يقع تفكيك هذه الظاهرة نفسانيا واجتماعيا وفلسفيا.

الأخطر اليوم هو التواطؤ أو التجاهل و السلبية المعممة تجاه هذه الممارسة المقرفة. وهو ما نلاحظه عندما نطردها خارج إطار المفكر فيه بتعلة أنها ممارسة استثنائية وأحداثا طارئة لا تطيل سوى أقلية أو شرذمة ضالة تهدد الأمن العام و الطمأنينة. إذن فهي تطبق فقط في ظروف انتقالية. أي عندما نتذرع بحالة الحرب على الإرهاب أو بتهديدات الإرهابيين كمبرر للتعذيب.عندئذ يصبح هذا الأخير وسيلة للحصول على معلومات وظيفية يمكننا بفضلها إنقاذ مئات الأبرياء. هنا ينحط المثقف ويجف ضميره الحي ويفقد مروءة إحساسه تجاه الظلم ويتنكر لماهيته ويشوهها. لان المفكر تعريفا هو قوة أخلاقية ضاربة تطرح إشكالية القيم والمبادئ على صناع القرار السياسي والأمني.

إن كارثة الإرهاب لا يمكنها تبرير فظاعة التعذيب. وفي هذا السياق نذكر بالعلاقة الجدلية والحميمة بين الإرهاب من جهة وإرهاب الدولة من جهة أخرى. فالخطاب ألاستئصالي يبدأ من شيطنة الآخر ومن اعتباره اقل شانا وقيمة. عندئذ يجرد الآخر من صفاته الإنسانية مما يبيح أي عمل ضده. بل ويصبح مسئولا عما يتعرض إليه من أهوال وآلام وعذاب ومعاناة٬ فيعفى الضمير من الشعور بالذنب إزاء ما يرتكب من آثام بحقه ويجفف الحس الأخلاقي تجاهه.

وفي المقابل يمكن للإرهابي تبرير اللجوء إلى الأعمال الإرهابية كوسيلة وحيدة لمواجهة جلادين لا يرف لهم جفن ولا يستنكفون عن استعمال أكثر الوسائل وحشية في قمع معارضيهم.. فهو من خلال أعماله يوهم نفسه انه استطاع أن يجبر السلطة على الكشف عن وجهها الحقيقي وأن يجرها إلى ممارسة العنف الفج الذي يجسد جوهرها.

يمثل التعذيب اليوم "قفزة في البربرية لا احد بريء منها "على حد تعبير ادرنو. ولا سبيل للحد من هذه الظاهرة المستشرية في بلداننا والتي تشكل وصمة عار في جبين الإنسانية إلا بتدعيم المجتمع المدني العربي الإسلامي وتجنيده ضدها. ففي بلداننا لم تقم البورجوازية بمهامها التاريخية ولم تلعب دورها في الضغط من اجل توسيع الحقوق الديمقراطية بل وضعت يدها في يد الحكومات المستبدة ووقفت في صفها لخنق كل نفس تحرري. لذلك على المجتمع المدني أن يلعب هذا الدور التاريخي.

فالمجتمع المدني ضروري اليوم كسلطة مضادة لموازاة الدولة التي هي ميكيافلية بماهيتها وتنفي كل المعايير الأخلاقية نفيا. كما أن الدولة في أوطاننا ميالة إلى التجاوزات ومتغولة تقايض الأمن والأمان بالطاعة العمياء. فتراثنا الثقافي لا يميز بين منطق القرابة ومنطق السياسة. فالحاكم عندنا ما زال يتمتع بامتيازات حاكم العصور ما قبل الحديثة. فهو الأب الاجتماعي والرمزي. والمواطنين هم رعاياه وأبناؤه. لذلك لا يحق أن نتدخل في شانه مع أبنائه حتي وإن سمعنا أصوات الاستجارة وأنين الاستغاثة. فتأديب المخالفين الناكرين للجميل الذين لم يسبحوا بحمده يبقى من حقوقه وامتيازاته.