مجلة الكاتب اليساري :: ماجد ع. محمد 


ماجد ع. محمد | سورية

عن إيثار الأديب في مجتمع مفكك


ربما يقول بعضنا من غير تروي بأن ثقافة الإيثار هي سمة خاصة بنا نحن أبناء الشرق الأوسط (مهبط الديانات السماوية)، وأن تلك القيمة الأخلاقية بعيدة عن هواجس أبناء المجتمعات الغربية المفككة اُسرياً، وأن تلك المجتمعات التي يعيش أفرادها في عزلة شبه تامة جعلتهم باردي العواطف تجاه أقرانهم البشر، وبالتالي القول بأن الإنشغال بأعمال الإحسان ابتغاء الخير العام وظاهرة تفضيل المصلحة العامّة على المصلحة الشخصيّة تكاد تكون مقتصرة على أبناء الدول المحافظة على الروابط الاجتماعية، إلاّ أننا ههنا سنورد مثال واحد فقط من دنيا الأدب، وليس من مجالات العلوم والمعارف الأخرى التي فادت وتفيد العالم أجمع، ألا وهو الأديب الأمريكي إزرا باوند، كمثال مبهّر علّه يجعل صاحب تلك التصورات السلبية يتخلص رويداً رويدا من ذلك البناء الذي شيّده في مخيلته حيناً من الزمن تجاه الآخر.

وصحيح أن الفردية في بلادنا تكاد تكون غير مرئية في ظل سطوة الثقافة الجمعية إلى حد غياب الخصوصية للكثير منا، وذلك من فرط خضوع النفر الواحد لقوانين الجموع البشرية، مع ذلك رأينا في عالم المشتغلين بالفن والكتابة وخاصة بين رهط الشعراء والفنانين مَن لا إحساس لديهم بأي مسؤولية تجاه الغير، سواء أكان هذا الغير من أقرب الأقارب أم من الأباعد، وحيث يعيش بعضهم حالة فردية مطلقة وانعزال كلي عن الجماعة، بل وقد يُلاحظ بعضهم وهم من فرط النرجسية مهووسين بذواتهم إلى حد القدرة على التضحية بالعشرات لقاء تحقيق رغباتهم الشخصية، ومع ذلك لا يتردد الكثير منا ومنهم في القول: إن ما يميز مجتمعاتنا عن الغرب هو العطف والحنو والتضحية والعلاقات الإجتماعية وثقافة التكافل والإيثار!!

بل ولا يشعر بعضنا بالحرج عندما يتهم الغربيين عامة والأمريكان بوجه خاص بأنهم يفتقدون إلى القيم الاجتماعية والتآزر الإنساني والتعاضد والأخوة، وأن الرحمة معدومة بين أبنائهم المفككون كتفكك حبّات مسبحةٍ على بلاطٍ أملس ليس من اليسر الاجتماع عليه، وحيث من الصعب إعادة التلاحم والتآلف بين مَن غدوا شظايا في بلادٍ سريعة في عدوها الزمني، ولأن الرأيى بهذا الخصوص قد يكون فيه شيء من الحقيقة، إلاّ أن الخطأ الجسيم الذي نرتكبه حيال الموقف عينه، وفيما يتعلق عادةً بإبداء الآراء حول الآخر بوجه عام، كامن في لاموضوعيتنا أوان الحكم عليهم من هذه الزاوية، لذا كان اختيارنا للحديث عن الشاعر الأمريكي عزرا باوند أو إزرا باوند.

ولكن قبل الحديث عن أهم خصلة أخلاقية من خِصال الشاعر الأمريكي سأدلف مكاناً فيه شيء من الخاص المتعلق بالعام، إذ حيال الرغبة في نهل المعرفة التي لم نشعر قط بالشبع منها، وباعتبار أنه ما من عمرٍ محدّد لدى الإنسان ليتوقف فيه عن استقبال العلوم، لذا فإن من أبرز ما تلقفته العام الماضي من أحد أساتذة العلوم السياسية في أكاديمية العلاقات الدولية باسطنبول، ألا وهو الدكتور سيف عبدالفتاح، كان موضوع عدم التسرع في الحكم على الأفراد أو المجتمعات أو الأشياء من دون التحري والتأكُد.

ومن كل بد أن الابتعاد عن الحكم ليس الهدف منه الحوم حول الشيء من دون ذكره، كما يفعل عادة الزئبقيون خوفاً من إصدار الآراء التي قد تغدو بمثابة المستمسكات عليهم إذا ما تغيّرت موازين القوى السياسية أو العسكرية، إنما يبتعد المرء عن منصة القضاء لئلا يقع في خانة اللاعدل عندما يشرع بالحكم من دون توفر أدلة علمية أو حتى منطقية تجاه الشخص أو الموضوع الذي يتناوله.

ولا يُخفى على البصير بأن ظاهرة إطلاق الأحكام بسرعة البرق، سواء على أشخاصٍ عاديين أو على أصحاب المقامات الرفيعة في المجتمع، أو على المجتمعات كلل، تكون آتية على الأغلب عبر التلقينات الاجتماعية أو الدينية أو السياسية الجاهزة، أو آتية في سياق الأهواء الشخصية للفرد عن كل ما هو آخر، وعلى كل حال فإن زناد القرارِ لم يكن لينطلق بيسر إلا بعد تشرُّب الفرد لثقافة الإفتاء، سواءً أكانت مشافهة من خلال المحيط الاجتماعي الضيق، أو من خلال البيئة العامة التي ترعرع فيها الفرد، أو عبر التلقف من وسائل الإعلام على اختلاف منصاتها، أما خطورة إعطاء الفرد لنفسه الحق بإطلاق الأحكام على الآخرين كيفما اتفق، بعيداً عن أي تروي أو موضوعية فلا شك هي تزداد إذا ما اقترنت بالشمولية، علماً أن آفة الحكم تكاد تكون توأم الشمولية لدينا، وذلك في مجال إبداء الرأي المتسرع بأفراد معينين في المحيط القريب، أو بمكونات محلية أو بفئات اقليمية أو بحق شعوبٍ بأكملها.

وبما أن المثال لدينا هو الشاعر الأمريكي إزرا باوند، فبخصوص أعمال الشاعر فلا أدعي بأني قرأت كل نتاجه الشعري أو قرأت كل ما يتعلق بسيرته الذاتية، باستثاء ما نُشر في موقع الموسوعة العالمية للشعر العربي، وما نشر في أيقونة الشعر العالمي المترجم حتى تاريخ 26/7/2019 من شعره 18 قصيدة، وما حواه موقع "القصيدة كوم" الذي نشر هو الآخر إلى نفس التاريخ 12 قصيدة، إضافة إلى القصائد الواردة في كتاب مختارات من الشعر الأمريكي الصادر عن دار الغاوون، ترجمة شريف بقنه الشهراني، وما نُشر للشاعر في مجلة ندوة الإلكترونية للشعر عبر ترجمة صبحي حديدي، إلا أن أبرز ما علق بذهني من نصوص الشاعر هو فحوى ما جاء في قصيدته "ما تحبه الحب الصحيح يدوم" والذي يركز فيها الشاعر على مقابح الغرور وضرورة الابتعاد عنه قدر المستطاع إلى جانب الحرص على الحب الصحيح، فضلاً عن المقدمة التعريفية به من قِبل الكاتب توفيق صايغ الذي ترجم قصيدته وسيرته الذاتية من ضمن 50 قصيدة من الشعري الأمريكي المعاصر، وحقيقةً بقيت الخصال التي ذكرها المترجم على لسان إرنست همنغواي في بالي أكثر من مضامين معظم قصائد الشاعر، وحيث قال عنه همنغواي: " إن باوند الشاعر الكبير يكرس خمس وقته فقط للشعر وبما تبقى من وقته يحاول أن يساعد أصدقائه في شؤونهم المادية والفنية، فهو يدافع عنهم عندما يهاجَمون، ويدخلهم صفحات المجلات، ويخرجهم من السجون، وهو يقرضهم المال، ويبيع لهم صورهم، ويدبر لهم حفلات موسيقية، ويكتب عنهم المقالات، ويعرفهم إلى نسوة ثريات، ويحمل ناشرين على قبول مؤلفاتهم، ويسهر الليل بطوله معهم حين يدّعون أنهم يتحضرون، ويعمل شاهداً على وصياتهم، وهو يعيرهم نفقات المستشفيات، ويثبط عزمهم على الانتحار، وبعد هذا كله قليل منه من يستنكف عن طعنه عندما تسنح الفرصة الأولى".

ولا نبالغ إن قلنا بأن هذه الخِصال الحميدة بمجملها للشاعر والتي ذكرها همنغواي، ربما من الصعوبة بمكان إيجادُ القليل القليل منها لدى عشرات الفنانين أو الشعراء مجتمعين في بلادنا، وحيث ليس بالأمر اليسير أن تجد شاعراً في ربوعنا وهو يُشعل الفانوس لشاعرٍ آخر حتى يطرّز قرينه على الورق بكل تأنٍ ما بدأ يتدفق من نبع قريحته، أو ترى كاتباً من فيض الإيثار لديه يحرص على أن ينشر كاتباً آخر في الدوريات، أو يساعده في إصدار كتابه، أو يُروِّج له في المجتمع الثقافي، أو يعمل جاهداً لأن يهيئ له موطئ قدم في عالم النشر والشهرة، فيهمل ما لديه ويترك منتجاته جانباً في عتمات الدروج فيما تراه متقدماً الغير وهو يحمل المشاعل أمامهم، كما ليس من السهولة بكان أن تلاحظ فناناً ما وهو منشغل بفنانٍ آخر على سوية إنشغال الطبيب الرحيم بمرضاه في غرفة العناية الفائقة، وينسى من فيض الاحتفاء بالمبدع بأنه نظيرٌ له في الخلق والإبداع، هذا إن لم يكن إبداعه أكثر أهمية من سواه، ولكن فضيلة الإثار جعلته ينسى منتجه ونفسه ويهتم بهم وبمنتجاتهم.

بينما عملياً ومن باب الإقرار بحقيقة ما نحن عليه، فإن أهل الأدب خاصةً والفنون بوجهٍ عام في بلادنا فبين الكثير منهم بحارٌ من مشاعر الحسد القاتل لكل شيء له علاقة بالإيخاء والحنو والإنصاف، بل وهواجس المزاحمة الفتّاكة تجعل من بعضهم نفسياً أشبه بأكباشٍ أنانيين لا يطيقون رؤية سواهم في حلبة الإبداع، وحال بعضهم كالكبش الذي يزداد حنقه عند رؤية أي ندٍ أو مثيلٍ له في القطيع برمته، ومن دون مبالغة فإن هذه السلوكيات القميئة موجودة في بيئة بعض المشتغلين في مجالات الفنون والإبداع لدينا ربما أكثر قليلا مما هي موجودة لدى بائعي الخضرة وأصحاب الدكاكين وقوّادي النوادي الليلية.