المقال
مجلة الكاتب اليساري :: الطيب طهوري 


الطيب طهوري | الجزائر

عن الإيديولوجيا عن مخاطرها


من يتأمل واقع البشر عبر تاريخهم قديما وحديثا يدرك أنه عبارة عن صراع قوى مختلفة المصالح ومتناقضتها حتى..كل قوة تسعى إلى أن تهيمن لتخدم مصالحها، إن لم تكن مهيمنة..إن كانت مهيمنة تسعى ألى أن تحافظ على هيمنتها تلك..

في الحالتين تعمل القوى المهيمنة أو التي تسعى إلى الهيمنة على إيجاد نسق فكري، تبرر به سلوكاتها وتستميل به الآخرين إلى صفها، مستعملة مختلف الوسائل لتحقيق ذلك، كما تتخذ ممارسات ومظاهر ما لتجسيد وترسيخ ذلك النسق واقعيا..هذا النسق الفكري هو ما يسميه المفكرون والسياسيون إيديولوجيا..

لفظ الإيديولوجيا في معناه المعجمي يعني علم الأفكار..السؤال يثار هنا: هل الإيديولوجيا فكر علمي موضوعي؟..واقع الحال يقول: لا..كل أصحاب إيديولوجية ما يبرزون من ممارساتهم وما يحدث في الواقع وما في الكتب والتاريخ..إلخ ما يتماشى وخدمة مصالحهم، وفي المقابل يعملون بشتى الوسائل على إخفاء ما لا يخدم تلك المصالح..إنهم يزيفون الحقائق في الغالب..

رغم أن الإيديولوجيات في أساسها نسق فكري جماعي، يبرز لدى مختلف القوى الاجتماعية كالأحزاب والجماعات الدينية مثلا، فإن هناك عناصر إيديولوجية لدى الأفراد تبرز عندهم حين يلجأون إلى تبرير سلوكات ما أو يحاولون كسب عواطف الآخرين، فالذي لا يحترم الوقت ولا يعير اهتماما لدقته يبرر سلوكه ذاك بـ: ربي ورحمته – في كل تأخير خير – واعلاش رايحه الدنيا تهرب؟..إلخ..

في واقعنا العربي الإسلامي لقوى الاستبداد الحاكمة إيديولوجيتها..لقوى الإسلام السياسي والقوى الدينية عموما إيديولوجيتها هي الأخرى ( أتحدث هنا عن المهيمن السائد أساسا)..

إيديولوجية القوى الأولى باعتبارها قوى تعمل على المحافظة على كراسي السلطة لمواصلة خدمة مصالحها ومصالح أتباعها تبرز أكثر في ادعائها حماية الأوطان من الفوضى الداخلية من جانب، ومن تربص القوى الأجنبية بتلك الأوطان، من جانب آخر، تذكِّر بالاستعمار وبأفعاله باستمرار، جاعلة من نفسها القوى الأساسية التي يمكنها مواجهة ما تسميه بأطماعه المتجددة .. تخيف الناس باستمرار من الإرهاب موظفة ما يحدث من صراعات حربية في بعض الدول كفزاعة تملأ بها نفوس الناس بالخوف، مستغلة ذلك لترسيخ قبضة يدها اكثر على المجتمع، ولمحاربة كل من ينتقد إيديولوجيتها تلك، حيث يصير المنتقدون خونة وأعداء وطن و..و..إلخ..إنها إيديولوجيا التخويف والتخوين (هكذا أسميها)..

تبرز إيديولوجية االقوى الدينية عموما في شحن نفوس الناس بالترهيب والترغيب، بالتخويف المستمر من عذاب القبور وعذاب جهنم، وبالترغيب في الجنة ومتاعها..تدفعهم بذلك إلى التدين أكثر..إلى التدين المفرط..مركزة على مخاطبة الغرائز أكثر(حوريات الجنة وأنهار الخمر و.و..مستغلة شدة الكبت الجنسي الذي يعيشونه وشدة الحرمان من متع وملذات الدنيا بفعل فقرهم..إنها إذن إيديولوجية الترهيب والترغيب..

في هذا الواقع العربي، حيث نسبة المقروئية متدنية جدا، وحيث الجهل يكاد يكون عاما، وحيث اليأس والعجزيستشريان أكثر في النفوس والعقول، وحيث جفاف المخيلات يعم الجميع تقريبا، وحيث قمع سلطات الاستبداد لشعوبها، من جهة، وعمل القوى الدينية على تغييب عقول الناس من جهة أخرى، تنجح إيديولوجية ثقافة الاستهلاك التي هي، بشكل أو بآخر، نتاج إيديولوجية الشركات متعددة الجنسيات والدول الصناعية الكبرى،مستعملة وسيلة الإشهار المغري في الشارع أو من خلال مختلف وسائل الإعلام ( المرئية أساسا) في تحقيق هيمنتها على الناس وتحكمها في غرائزهم بما يحقق لها تراكم الأرباح أكثر..

تُبنى الإيديولوجيات إذن على تزييف وعي الواقع بتزييف وقائعه وأحداثه، حيث تُبرز ( كما قلنا) الجوانب التي تخدمها وتطمس الجوانب التي لا تخدمها، أو تغيِّر فيها بما يجعلها تخدمها، التاريخ مثال حي على ذلك حيث تكتبه عادة القوى المهيمنة وتوجهه نحو ما يفيدها في صراعها مع القوى الآخرى..الغزو يصير فتوحات أو عملا على نشر الحضارة، والهيمنة على الشعوب وأوطانها تصير حماية لها..وهكذا..يغيب التعامل مع الواقع بأحداثه ووقائعه بموضوعية لدى الإيديولوجيين..الموضوعية مهمة المثقفين الإنسانيين النزهاء، وكم هم قلائل أولئك المثقفون..

للقوى الإيديولوجية دائما مثقفوها الذين ينافحون عنها ويبررون ممارساتها وأخطاءها التسييرية وتلاعباتها وفسادها، ويساهمون من ثمة في تعمية عقول الناس وفي انحطاط وعيهم بواقعهم وفي عجزهم عن معرفة مصالحهم وتنظيم أنفسهم للنضال من أجل حقوقهم..

كلما انحط وعي الناس بواقعهم وافتقدوا القدرة على تنظيم أنفسهم وعجزوا عن النضال من أجل أن يكونوا مواطنين حقيقيين، أمكن للإيديولوجيات أن تهيمن أكثر على عقول الناس ومشاعرهم، وأن تجعل منهم قطعانا تحركهم وتسيرهم كما تشاء، يكفي أن نشير إلى ما يسمى بالانتخابات في عالمنا العربي، حيث نجد الكثير من الناس يعتقدون أن الانتخابات ضرورة لا بد منها لإخراجهم مما هم فيه من بؤس ويأس، مع أنهم كانوا قد انتخبوا عشرات المرات دون أن يتحقق لهم ذلك الإخراج.. تماما ، كما نجد حرص الكثير من الناس على تكرار الأدعية آلاف المرات، إن لم نقل ملايينها من أجل إصلاح حال حكامهم ومسؤوليهم وأحوالهم هم أيضا، دون أن يتحقق شيئ مما يدعون له، ومع ذلك يصرون دائما على تكرار نفس الأدعية..وهكذا..

على النقيض من ذلك تماما، كلما ارتفع مستوى فكر الناس وتعمق وعيهم بواقعهم وامتلكوا القدرة على تنظيم أنفسهم وصاروا أصحاب إرادة حرة قلت هيمنة الإيديولوجيات على عقولهم ومشاعرهم وصاروا اكثر موضوعية في النظر إلى واقعهم والتعامل مع أحداثه ووقائعه.

في المجتمعات الأقل وعيا والأكثر تحكما فيها من قبل الإيديولوجيات يحدث التخلف في مختلف مكوناتها ويزداد باستمرار..ويفقد الناس الأمل في الحياة ويصيرون غرائزيين وانفعاليين، لاعقلانيين، في التعامل مع واقعهم ومع بعضهم وفي علاقتهم بالمجتمعات الأخرى..

في المجتمعات الأكثر وعيا والأكثر تعلقا بالمطالعة، والأكثر تقبلا للعيش مع الآخر المختلف، والأكثر إيمانا بالتعددية بمختلف أنواعها، والأكثر تعلقا بالحرية دفاعا عنها وممارسة لها يكون الإبداع ،فكرا وعلما وفنا، عميقا، ويكون التقدم باستمرار..

للأسف الشديد، مجتمعنا العربي الإسلامي من النوع الأول لا الثاني..