مجلة الكاتب :: جورج حداد :: ميلاد السيد المسيح وبعض ما رافقه من احداث كبرى

 



ميلاد السيد المسيح وبعض ما رافقه من احداث كبرى


جورج حداد
لبنان


 

المقال

 

هناك سؤال تاريخي كبير هو: هل الرواية المسيحية عن السيد المسيح (ميلاده وحياته وموته على الصليب الروماني) هي رواية لواقعة تاريخية حقيقية، ام هي اسطورة دينية رمزية لا دليل علمي، اركيولوجي وتاريخي عليها؟

ان جميع اعداء المسيحية، وبعض من يسمون "علمانيين"، يشككون بالواقعية التاريخية للرواية المسيحية عن المسيح، ويقولون بأسطوريتها وخرافيتها.

وفي رأينا المتواضع انه من العقم والافتئات على الواقع التاريخي انكار الرواية المسيحية عن المسيح. فهذه الرواية سواء كانت رواية عن واقعة تاريخية حقيقية او كانت رواية اسطورية ذات رمزية دينية تعبّر عن تبرير وجود المسيحية كظاهرة اجتماعية تاريخية ماثلة للعيان، ـ نقول: سواء كانت هذه الفرضية او تلك، فإن المسيحية موجودة كجماعة انسانية تمثل اكثر من ثلث الكتلة البشرية على الكوكب الارضي، ولا يمكن لالد اعداء المسيحية انكار وجودها. وطالما ان المسيحية موجودة تاريخيا، فالمسيح هو موجود بوجود المسيحية، اي استطرادا ان المسيح موجود بالرواية المسيحية عن وجوده من زاويتي النظر اللاهوتية والناسوتية.

وفي كل سنة تحتفل جميع شعوب العالم المسيحي بيوم ولادة السيد المسيح، الذي يعتبر من اكبر الاعياد الدينية المسيحية. ويقيم المسيحيون الصلوات والاحتفالات، ويتبادلون التهاني والهدايا بهذا اليوم العظيم.

وفي غمرة هذا الجو الاحتفالي تنسى الكنائس المسيحية او تتناسى او تضع في الظل احداثا جساما رافقت ظاهرة ميلاد المسيح. ونحن نشير هنا الى ثلاثة من اهم واخطر هذه الاحداث، بالنسبة ليس للعالم المسيحي فقط، بل ولشعوب العالم قاطبة، ولا سيما الشعوب العربية والشرق اوسطية، اي شعوب المنطقة التي ولد وعاش وصلب فيها السيد المسيح، وقام من بين الاموات، وصعد منها الى السماء، حسب الرواية المسيحية.
 

الحدث الاول ـ القطيعة بين المسيحية واليهودية:


هناك ثلاث كتل دينية في العالم، تسمى الديانات التوحيدية والابراهيمية، تضطلع معا بالدور الاول في تقرير مصير العالم، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. وهي: المسيحية، والاسلام واليهودية.

واكبر هذه الديانات هي المسيحية، واصغرها هي اليهودية، التي لا يتجاوز تعدادها تعداد سكان مدينة موسكو الكبرى، اي حوالى 20ـ 25 مليون نسمة. ولكن دور اليهود في الشؤون العالمية هو اكبر بكثير جدا من تعدادهم السكاني. ولهذا تكتسب الظاهرة اليهودية، او المسألة اليهودية، اهمية عالمية متميزة وخاصة جدا. ومن هنا تتأتى اهمية البحث في هذه الظاهرة او المسألة.

وقبل ميلاد السيد المسيح ظهرت في "العهد القديم" من الكتاب المقدس (الذي يؤمن به المسيحيون واليهود) "تنبؤات" او كتابات تقول بظهور المسيح المخلص. وفي الوقت نفسه كان "العهد القديم" يصف بني اسرائيل بأنهم "شعب الله المختار" و يدعوهم الى ابادة الكنعانيين (السوريين ـ العرب القدماء) والاستيلاء على اراضيهم. ومن ذلك كان يبدو ظاهريا وكأن المسيح الموعود سيكون مسيحا يهوديا ويأتي ليخلص اليهود فقط. ولكن بعد كارثة تدمير قرطاجة تدميرا كاملا على ايدي الغزاة الرومان سنة 146ق.م، وقتل 300 الف من سكانها واستعباد الـ400 الف الباقين، ثم غزو روما للمنطقة الهيلينستية بمجملها (افريقيا الشمالية، وادي النيل، اثيوبيا، شبه الجزيرة العربية، سوريا الطبيعية، ما بين النهرين، اسيا الصغرى، شبه جزيرة البلقان والمحيط الشاطئي للبحر الاسود (ما عدا روسيا) )، وإقدام روما على استعباد شعوب هذه المنطقة وبالدرجة الاولى "قلبها" السوري ـ الكنعاني، انتشرت فكرة المسيح المخلص لدى جميع هذه الشعوب المظلومة، وخاصة لدى السوريين ـ الكنعانيين، الذين كانت تنتمي اليهم قرطاجة. وهكذا خرجت فكرة المسيح المخلص من الدائرة اليهودية الضيقة، الى الدائرة "الاممية" الواسعة، وحلت محل الفكرة اليهودية، عن المسيح اليهودي، فكرة المسيح المخلص لجميع البشر من الظلم والتعاسة والعبودية. ومع ظهور فكرة المسيح "الاممي" سقطت فكرة المشيئة "اليهوهية" الداعية الى تنصيب بني اسرائيل كشعب الله المختار ودعوتهم الى ابادة الكنعانيين ـ العرب. ولمرحلة تاريخية معينة في ظل السيطرة الرومانية، اختلط الايمان بمجيء المسيح المخلص بين المفهوم اليهودي العنصري الضيق والمفهوم المسيحي الاممي الواسع، وصار ينظر الى كل المؤمنين بمجيء المسيح بأنهم "يهود". ومع ان المسيح ولد في عائلة يهودية ومن نسل داود، كما في نبوءات "العهد القديم"، الا انه ترعرع وعاش في الناصرة (الارامية ـ الكنعانية) وتخلى عن اللغة العبرية وتبنى اللغة (والثقافة!) الارامية ـ الكنعانية وبشّر وكرز بها، وسمي "يسوع الناصري". ونتيجة العداء الوجودي المتجذر بين قرطاجة (الكنعانية) وروما، كان الكنعانيون أشد المتحمسين لفكرة المسيح المخلص وتحولت سوريا الطبيعية (الكنعانية = الارامية = السوريانية = الفينيقية)، قبل وبعد ميلاد السيد المسيح، الى الام الحاضنة الاساسية للديانة المسيحية، التي منها انتشرت المسيحية في كافة ارجاء العالم.

ومع ولادة السيد المسيح آمن به "المسيحيون القَبْليون" الذين كانوا ينتظرون ظهور المسيح، وفيهم عدد كبير من اليهود السابقين الذين صاروا يعتبرون "مسيحيين".

ولكن كبار الاحبار والتجار "اليهود" انكروا مجيء المسيح، وكذبوا الرواية المسيحية حول ميلاد المسيح، وتآمروا مع الحاكم الروماني لقتل المسيح الطفل (وهو ما سنتوقف عنده لاحقا على حدة). وهنا علينا ان نؤكد على النقطة التالية:

يرى الكثير من الباحثين، الدينيين والتاريخيين، ان الديانة اليهودية هي الديانة الابراهيمية الاولى، وان المسيحية انبثقت عن اليهودية. واذا افترضنا اخلاص النية، فإننا نرى ان هذا الرأي يدخل في باب الخطأ الشائع وهو تحريف للواقع الديني والتاريخي على السواء. فقبل ميلاد السيد المسيح كانت الجماعة المسيحية ـ اليهودية جماعة انسانية واحدة، تتفق او تختلف في بعض المعتقدات، الا انها تجمع على انتظار مجيء المسيح ـ المخلص. اي انها كلها كانت جماعة "مسيحية ـ ما ـ قبل ـ المسيح". وبعد ميلاد السيد المسيح آمنت به اكثرية هذه الجماعة وانكرته وكذّبته الاقلية. وبميلاد المسيح انفصلت الجماعتان احداهما عن الاخرى. فصارت الاكثرية تسمى "مسيحية" والاقلية تسمى "يهودية". وعليه فليس من الصحيح القول ان "المسيحية" انبثقت من "اليهودية" بل الاصح القول: ان "اليهودية" هي شذوذ وخروج "اقلوي" على "المسيحية"، وتحول كل منهما الىى ديانة مستقلة تماما عن الاخرى. والصراع الديني والفكري والسياسي والاجتماعي هو قائم بين هاتين "الديانتين" منذ ميلاد السيد المسيح حتى اليوم.

الحدث الثاني ـ مجزرة اطفال بيت لحم:


تقول الرواية المسيحية ان الاحبار اليهود علموا بميلاد السيد المسيح من المجوس الذين جاؤوا من الشرق للسجود وتقديم الهدايا له. وادركوا فورا ان المسيح الذي ولد ليس المسيح "اليهودي" الذي ينتظرونه، والخاص بالعبرانيين فقط، بل هو المسيح "الاممي = المسيحي" الذي ينتظره "المسيحيون" "الامميون"، فعزموا على قتله. وقالوا للمجوس: بعد ان تجدوا المسيح المولود عودوا الينا واخبرونا اين هو كي نذهب نحن ايضا ونسجد له.

وكان الاحبار اليهود يريدون فعلا قتل المسيح المولود. ولهذا تحدثوا مع الحاكم الروماني هيرودوس قائلين له ان المسيح المولود سيكون ملكا وينازعك الملك.

ولكن المجوس بعد ان قدموا الهدايا للمسيح اوحى لهم الملاك ان لا يعودوا الى الاحبار اليهود ويخبرونهم بمكان وجود الطفل يسوع. فعادوا ادراجهم من طريق اخر غير الذي جاؤوا منه. وحينما يئس الاحبار اليهود من مجيئهم صمموا على قتل جميع الاطفال المولودين حديثا في بيت لحم. واتفقوا مع هيرودوس على قتل جميع اطفال بيت لحم وجوارها من عمر سنتين فما دون، حتى يكون الطفل يسوع من بينهم. وتقدر غالبية الكنائس المسيحية عدد اطفال بيت لحم القتلى بالالاف. ولكن الطفل يسوع نجا من القتل لان الملاك اوحى للقديس يوسف خطيب مريم ان خذ الطفل وامه الى مصر، لان هيرودوس يريد ان يقتله. وبالفعل فرت العائلة المقدسة من بيت لحم الى مصر وبقيت هناك حتى مات هيرودوس بعد بضع سنوات فعادت العائلة المقدسة الى الناصرة في الجليل.

وتحتفل الكنائس المسيحية بذكرى مجزرة اطفال بيت لحم في 29 كانون الاول من كل سنة.

ونشير هنا ان مجزرة اطفال بيت لحم هي جريمة كبرى مركبة من جريمتين كل منها تمثل جريمة كبرى ضد الانسانية: الاولى هي النية المسبقة والمتعمدة في قتل المسيح الطفل بكل ما تعنيه من العزم على قتل المسيح حتى وهو طفل، ومن ثم قتل كل ما يمثله المسيح من قيم اخلاقية وانسانية وسماوية، ومدلول نية قتل المسيح يتضمن نية قتل كل من آمن او سيؤمن بالمسيح. والثانية هي: الجريمة العظمى المتمثلة في قتل الاطفال الابرياء الذي لا ذنب لهم بميلاد السيد المسيح الذي يكرهه اليهود حتى الموت. ونستنتج من ذلك ان اليهودية قد "طورت" "الثقافة" التوراتية الداعية الى ابادة الكنعانيين والاستيلاء على اراضيهم، ووضعت قيد التطبيق "ثقافة" ابادة جميع المسيحيين الحقيقيين او المفترضين حتى لو كانوا اطفالا. اي قتل الكنعانيين والافريقيين والاوروبيين وحتى الاميركيين اذا كانوا مسيحيين.

ومن ثم "ثقافة" قتل الابرياء وقتل الاطفال انفسهم اذا وجدت المكيافيلية اليهودية مصلحة لها في ذلك.

بناء على ما تقدم لا بد لنا الا ان نقدم الملاحظة التالية: اننا نرى ان الكنيسة الرسمية لا تعطي الاهتمام التاريخي الكافي، الاخلاقي والوجداني والايماني والانساني والقانوني والسياسي، لمجزرة اطفال بيت لحم ومدلولاتها التاريخية والدينية والسياسية الكافية. وتمر هذه المناسبة بشكل غامض جدا جدا في ظل الاحتفالات بعيد الميلاد.

ان التقصير في الاضاءة بشدة على هذه الجريمة الكبرى القديمة ضد اطفال بيت لحم والنية الشيطانية لقتل الطفل يسوع، ـ هذا التساهل والتسامح لا يساهمان في فضح خطر الاخلاق والسياسة اليهودية على البشرية، وهو ما نراه بشكل صارخ الى اليوم في الممارسات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، وما شاهدناه في ممارسات اسرائيل ضد الشعب اللبناني المظلوم.

ونحن نناشد جميع رجال الدين الاجلاء ان يضيئوا اكثر ويعظوا ضد هذه الجريمة الكبرى النكراء ضد المسيح والمسيحية والانسانية، والتي لا تموت بمرور الازمان.

الحدث الثالث ـ فرار العائلة المقدسة الى مصر:


يكتسب فرار العائلة المقدسة الى مصر اهمية خاصة جدا في تاريخ المسيحية والعالم لانه لو بقيت العائلة المقدسة في فلسطين لكان اليهود والرومان عثروا عليها عاجلا ام آجلا وقتلوا المسيح الطفل. ولو حدث ذلك لكان التاريخ العالمي كله سار في اتجاه آخر.

وفي ذلك الزمان كانت وسائل المواصلات لا تزال بدائية، ولم يكن ليخطر في بال احد ان العائلة المقدسة يمكن ان تنتقل الى مصر هربا من اليهود والرومان، لان المسافة بين فلسطين ومصر تمتد لمئات الكيلومترات، تتخللها اراضي سيناء الرملية القاحلة التي لا يعيش فيها سوى بعض البدو الفقراء المعتادين على صعوبة الجفاف وشظف العيش.

وتقول الرواية المسيحية ان القديس يوسف النجار أركب مريم العذراء على حمار ويسوع الطفل في حضنها، وسارت وراءهم امرأة تدعى سالومي كانت تساعد مريم العذراء في العناية بالطفل. فكيف تسنى لهؤلاء الاربعة ان يجتازوا المسافة بين بيت لحم ومصر وهم بلا زاد وبلا ماء، واليهود والرومان يبحثون عنهم ليقتلوا الطفل؟

لا تقول لنا الرواية المسيحية ان ذلك تم باعجوبة سماوية كأن تحمل سحابة سماوية الاربعة والحمار وتطير بهم في الفضاء وتحط بهم في ارض مصر. وهذا يعني ان العائلة المقدسة انتقلت الى مصر بطريقة "بشرية". فكيف تسنى ذلك؟

ان العائلة المقدسة كانت تحتاج لان تأوي للاستراحة والنوم والطعام والشراب. ولا تقول اي رواية ان الطريق التي سلكتها العائلة المقدسة كان يوجد فيها خانات للمسافرين. ولو وجدت مثل هذه الخانات لكان يوجد فيها حكما عسكر روماني ولكان تم القبض على العائلة المقدسة.

ان المنطق يقول ان العائلة المقدسة كانت تأوي لدى اناس من سكان الطريق الذي سلكته العائلة المقدسة، اناس "اصدقاء اوفياء" مستعدون لان يؤووا العائلة المقدسة، سرا عن اعين اليهود والرومان، وان يؤمنوا لها المأوى والطعام والماء والكساء، ثم يدلونها على الطريق الصحيح لمتابعة الرحلة، حيث تأوي العائلة عند "اصدقاء اوفياء" آخرين، وهكذا دواليك، على طول الطريق من فلسطين الى مصر. وفي مصر بالذات لم تكن العائلة المقدسة تمكث في مكان واحد مدة طويلة بل كانت تنتقل من مكان الى مكان آخر، تحسبا من امكانية اكتشاف امرها من قبل اليهود والرومان. وهذا مما يفسر وجود امكنة كثيرة في مصر، اقيمت فيها كنائس، لان العائلة المقدسة اقامت في تلك الامكنة حسب معتقدات الكنيسة القبطية.

وفيما بعد يقول السيد المسيح في بعض آياته:
[(إنجيل متى 25: 35) لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. وعاريا فكسيتموني. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي.]
فمن هم اولئك "الاصدقاء الاوفياء" الذين آووا وأطعموا وسقوا وكسوا العائلة المقدسة واخفوها عن اعين اليهود والرومان، وساعدوها على الانتقال سرا من فلسطين الى مصر، وفي داخل مصر؟

إنهم "المسيحيون القَبْلييون" الذين كانوا يؤمنون بمجيء المسيح المخلص، والذين كانوا مستعدين للتضحية بحياتهم لحماية يسوع الطفل والعائلة المقدسة من غدر اليهود والرومان.

وحسب الرواية المسيحية، فهذا برهان تاريخي كبير على امرين مترابطين:
الاول ـ انتشار المسيحية القَبْلية (قبل ظهور المسيح) على نطاق واسع لدى شعوب الشرق العربي، من سوريا الطبيعية الى مصر وما بعدها.

والثاني ـ ان ظاهرة "المسيحية القَبْلية" كانت تمتلك تنظيما سريا واسعا في قلب منطقة الاحتلال الروماني. وان هذا التنظيم كان ينخر الامبراطورية الرومانية من داخلها تمهيدا لتقويضها ليس بالسيف والقهر بل بقوة الكلمة وجاذبية الايمان المسيحي، وبالانتشار الواسع للمسيحية، التي شملت جميع شعوب الامبراطورية الرومانية، وهدمت جميع الحواجز الطبقية والعنصرية، وأشرعت الابواب لعصر الانوار والحرية والاخاء والتقدم، عصر التجدد الفكري وتأليه الانسان.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك،
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب