مجلة الكاتب :: ماجد ع. محمد :: عندما يغدو الحر سجانا

 



عندما يغدو الحر سجانا


ماجد ع. محمد
سورية


 

 

لو لم يكن الأديب يبغي نقل تصوراته وتجربته الشخصية وما يستشعره للمتلقي عبر تحويل ما يخالجه إلى مادة مكتوبة، ولو لم يكن يرمي من خلال مكتوبه إلى إحداث تأثير حقيقي في الآخرين، أو إبلاغ القارئ بما يُشغله وما يراهُ جديراً بالإصغاء إليه، ورغبته بأن يجعل القارئ يعيش الحالة التي عاشها سواء في حياته الواقعية أو المتخيّلة، أو إبلاغ المتلقي برسائل ما ضمنية أو شبه علنية من خلال ما كتبه؛ فما الذي يدفعه للكتابة إذاً؟ بما أن وظيفة الأدب مركّزة على عنصرين جوهريين، ألا وهما المتعة والمعرفة، كما يشير إلى ذلك الروائي السوري الراحل حنا مينا؛ وعدا عن المتعة المرجوة فالقول يلمّح إلى أن الأدب لا يخلو من الغرضين الإعلامي والتربوي أو فلنقل بشكل أوسع التثقيفي، الإعلامي من خلال إبلاغ القارئ بكل ما خطر بباله، وإعلامه اللامباشر بما يمتلكه من الخبرة أو المعرفة، وذلك من خلال قدرته على كسب القارئ إلى درجة جعله يتبنى المقروء، سواءً أخذ المتلقي كل ما يُقدّم له أو اختار لنفسه بعض ما باح به الكاتب.

وفي هذا الصدد يشير إدوارد غاليانو في "المعانقات" وعلى وجه التحديد في فقرةٍ حملت اسم "وظيفة القارئ" إلى تشرب ما ينهله المرء من المكتوبات إلى أعماقه واستقرار المقروء في لاوعي القارئ، ومع أني كقارئ رأيت بأن عنوان الفقرة كان سيبدو أكثر التصاقاً بمضمونها وتعبيراً عنها لو جاءت تحت عنوان "أثر القراءة" إلا أننا في الأخير غير مخيرين حيال هذا الأمر، لذا سننسى تصورنا ونعود للمعنى، وحيث يلمح غاليانو إلى أن بعضهم بعد غرفهم للمكتوب يندمغون في النص، فيغدو وكأنه صار هناك وحدة حال بين ذاتيتهم وما ركن في ذاكرتهم عبر ما تلقفوه، ويصبح ما تشربه المرء في السابق جزء منه، لا يقدر على التخلص منه بيسر، وهنا ينوّه الكاتب إلى دور الأدب الهام في تشكيل وعي المتلقي، متجاوزاً حتى ما أشار إليه "حنا مينا" عن دور الأدب وأهميته.

وباعتباري قارئ غير حيادي مع ما أتلقفه من بين طيات القراطيس، وخاصةً المؤلفات التي كُتبت بحروفٍ من نورٍ ونار، كتباً تضمنت رسائل مشرقة، وقُدِّمت فيها أكاسير فكرية لا يمكن المرور عليها مرور الكرام كما تمر رشقة المطر بوجه الاسفلت، ومع أني كمواطن فَقَدَ الوطنَ منذ سنوات، فلم أتجرأ يوماً على اعتبار نفسي من المعصومين عن ارتكاب المقابح، إلا أني حسب ما أذكر نادراً ما أقوم بأي أفعال قمعية بحق أترابي من بني البشر وحتى بحق البهائم في محيطي، ومع ذلك سأتحدث ههنا عن أثر المكتوبِ من ناحية، وعن القمع الذي ارتكبته مؤخراً بحق كائنٍ، جميلٍ، ودودٍ وحنون من ناحية أخرى.

إذ منذ فترة كنتُ عائداً من العمل إلى الحارة، فعندما وصلت إلى رأس الشارع المؤدي إلى بيتي، تناهى إلى مسامعي رفرفة أجنحة عصفورٍ صغيرٍ بالقرب مني، فالتفتُ يمنةً ويسرى وإذ به على بُعد خمس أو ست خطواتٍ مني على اليمين، فانحنيتُ بهدوء وأخذت وضعية القرفصاء لأكون قريباً منه، ومدّدت يديّ لألاعبه، فلم يفر الطيرُ مذعوراً كما هي عادة الطيور، فقلتُ بسري يبدو أن الطير بيتوتي لذا لم يهرب مني، بل عندما مددتُ له طرف ذراعي الأيمن وبدلاً من أن يفر رأيته قد مكث عليه، فنهضت عندئذٍ به وتابعتُ مسيري وهو واقف على يدي وسار معي إلى حيث أقيم، ورغم أن المسافة بين بيتي والموقع الذي حملت منه الطير ما يقارب خمسمائة متر إلاّ أنه ظل يلازمني، وكأن بيننا معرفة سابقة، فصعدت إلى الطابق الرابع وهو ما يزال على يدي وكأني غصنُ شجرةٍ وقد ارتاح الطير عليه، وعندما وصلت للمنزل طرقتُ البابَ وقلت لزوجتي: افتحي فقد جلبت لكِ هدية تنبض بالحياة، ففتحت الباب وراحت تهلهل كالأطفال ترحيباً بالهدية الحيّة، وبعد لحظات الإحتفاء بالضيفِ قلت لها ولوالدتي: أنه من الأفضل لنا وله أن ندع النوافذ مفتوحة حتى يفر الطير بجلده متى ما مل من البيت أو متى ما عن على باله ذلك، إلا أن فكرة إطلاق سراحة قوبلت بالرفض من قبل زوجتي ووالدتي، وقالوا معاً بعد أن سردت لهم القصة: أنت لم تلحقه، ولا اعتقلته رغماً عنه، وأنه هو الذي جاء معك إلى المنزل عن طيب خاطر، فلماذا تتخلى عنه بهذه السرعة، قائلات بأنه لولا جلبيَ العصفورَ لربما قامت القطط بمطاردته ونهش جسده الغض، فشعرت عندذاك بشيء من الارتياح لأني خلّصته من احتمال تعرضه للنهش من قبل القطط، وبنفس الوقت أحسستُ بالندم على جلبي للطير من أساسه، وبينما نحن نتحدث عن كيفية إطلاق سراحه، سارعت زوجتي إلى بيت جارتها في الطابق الأوّل واستعارت منها قفصاً لحين شرائنا سجناً للزائر! ومن يومها وهذا العصفور في القفص ببيتي وأنا كلّما نظرتُ إليه أتذكر بأني سبب مكوثه في هذا المُعتقل الصغير، كما أتذكر في الوقت عينه كلما مررت به أو سمعت زقزقته مقتطفات من قصيدة الأديب الفرنسي فيكتور هيغو "الحرية"* التي يقول فيها:
بأي حق تضعون العصافير في الأقفاص؟
بأي حق تقتلون المغنين من الغابات، من الينابيع، من الفجر، من السحابة، من الرياح؟
بأي حق تسرقون الحياة من هؤلاء الأحياء؟
أيها الإنسان، هل تعتقد بأن الله، هذا الأب، خلق الجناح لتعلقه على مسمار نافذتك؟
ألا تقدر أن تعيش سعيداً وفرحاً من دون كل هذا؟
ماذا فعل إذن كل هؤلاء الأبرياء ليكونوا في طوق مع أعشاشهم وإناثهم؟
حينما تخفي تحت شبكة من الحديد كل هؤلاء الذين يحتسون السماء الزرقاء
المخلوقين لينتشوا بالهواء
لكل هؤلاء المساجين أعطوا مفتاح الحلول!
احترس من الزنازين التي تزين جدرانك!
من العريش الذهبي تولد الشباك السوداء
المطيرة الشؤم هي أم العبودية
احترم فضاء المارين الطيبين، والمروج والمياه!
كل الحرية التي سلبناها من العصافير
ليُعاد المصير العادل والصارم إلى الناس
عندنا طغاة لأننا نحن طغاة
أتريد أن تكون حراً أيها الإنسان؟
فبأي حق عندك مسجون، هذا الشاهد المرعب؟
كل هذه الأبعاد الشاسعة على هذا العصفور المسكين الكئيب
تنحني وتجعلك تنذر نفسك للاستغفار
أستغرب منك أيها الطاغي وأنت تصرخ: اضطهاد!
يأخذك القدر عندما يشتد جنونك
هذا المحكوم بالأشغال الشاقة الذي يرمي عليك ظل العبدِ
والقفص المعلق على عتبة المنزل
نراه يغني ويُخرج السجن من الأرضِ.

ولا أخفيكم فلأني لم أستطع الاستمرار فيأن أعيش حالة التناقض الصارخ بين دعوتي للحرية لي ولبني جنسي من الأوادم مع استساغي لنظرية الرفق بالبهائم من جهة، وحجزي لحرية طيرٍ بريءٍ من جهة أخرى، وحيث أن كل جريمة الطائر السماوي اللون، أنه ارتاح إليّ وقصدني من بين عشرات المارة في زاوية زقاقٍ من أزقة حي "بغجيلار" في مدينة اسطنبول التركية، منتصف شهر آب من عام 2019، ولكي لا أظل خجلاً من نفسي، ومعاتباً ذاتي على ما اقترفته بحق ذلك الكائن المسالم، وبعد جولاتٍ متعددة من الرجاء ومجادلاتٍ متكررة مع زوجتي التي اعتبرت العصفور هِبة من السماء ومن الغباء التخلي عنه، وكذلك النقاش مع والدتي حيال مصير العصفور وحريته، قررتُ أخيراً في بداية شهر تشرين الثاني من العام نفسه، التبرع بالطير مع القفص وطعامه وكل ما اشتريت له من المستلزمات لجارٍ لي في الطابق الأول من البناء الذي أقطنه، وذلك حتى لا أسلمه للقطط، وعلّني أتحرر وللأبد من هاجس تأنيب الضمير، ولئلا أبقى أنظر إلى نفسي كطاغية على حد وصف الشاعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مختارات من الشعر الفرنسي الحديث، ترجمة رضى القاعوري، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2009.

أترك مداخلة

Message

شكرا لمداخلتك،
سوف يتم نشرها أسفل مقال الكاتب