حياة على المتراس


شهادة ناجٍ أرمني عن الهولوكست العثماني


 
فريق الكاتب

النقد

"صراخ وضجيج في كل صوب، انظر إنهم يقتربون.. لقد ضربوا البوابة بالفؤوس وفتحوها ودخل العدو واقتحم الرعب قلوبنا".. مشهد من جحيم مدينة أضنة العثمانية لم ينساه الطفل الأرمني أرتين مادويان خلال حياته، ولولا معرفة أسرته دروب الحي لما نجا من الهجوم البربري للميليشيات التركية المدعومة من الجيش.

 مادويان أنقذته حاجة الأتراك لحرفة والده كصانع أحذية من الترحيل قسرا إلى معسكرات الهلاك في صحراء دير الزور، وبعد انتهاء الحرب هاجرت الأسرة إلى لبنان لتنعم بالأمن بين العرب، أصحاب التاريخ المشرف من العلاقة مع الأرمن.

 

آلام طفل

 

أرتين مادويان صاحب المذكرات لم يعش طفولة طبيعية مثل أقرانه، إذ حتم عليه مناخ الكراهية والتعصب التركي أن يغدو رجلا سريعا ليتمكن من البقاء على قيد الحياة.

ذاكرة الطفولة سجلت معاناة غير الأتراك في موطنه في غانفصاف زاده (سوجو زادي) في محافظة كيليكية في منطقة أضنة عام 1909، فقد عاش الأرمن والآشوريون حياة صعبة من الكد والشقاء في المصانع والمزارع وتعرضوا للخداع على يد أصحاب الأراضي الأتراك.

الأرمن عملوا في جني محصول القطن مقابل 10% مما يجمعون، لكن صاحب الأرض كان ينقص عليهم بعض الوزن ليقلل نصيبهم ويبتاعها منهم بثمن متدن.

حياة العمال الأرمن كانت في غاية الصعوبة، بسبب ظروف العمل غير الصحية وانخفاض الرواتب والإصابات المهنية والتعامل الوحشي من قبل أصحاب الأعمال خصوصا تجاه العاملات.

والد أرتين كان من عائلة مارديروس وعمل في صناعة الأحذية وأتقن مهنته، ثم اشتغل في وظائف عديدة لتحصيل المال، وأخيرا افتتح محل أحذية خاصا به، وبفضل أتقانه الحرفة ذاع صيته وتمكن من توفير حياة كريمة لأسرته.

أصول العائلة تعود إلى يكراناكرت (ديار بكر) ثم وفدت إلى أضنة منذ 150 عاما.

"في مخيلتي عن الطفولة أيضا يتراءى مشهد ثان مطبوع لا يفارقني، ألا وهو مجزرة الأرمن الرهيبة التي نفذت ما بين 14 و17 نيسان عام 1909 ثم المجازر الرهيبة التي تلتها".

 

فؤوس ومذابح

 

5 أعوام كانت عمر صاحب المذكرات حين عاش أقسى أيام حياته محاصرا في منزله من قبل الأتراك الهائجين، ولم ينقذ الأسرة من الذبح إلا مناعة بوابة البيت وعلو أسواره.

الأرمن تجمعوا في منازل بعضهم، ولم يكن بيدهم أسلحة للدفاع عن أنفسهم سوى عدد قليل من بنادق الصيد.
بندقية الصيد كانت سبب نجاة أرتين وعائلته بعدما تمكن البرابرة الهائجون من كسر البوابة، إطلاق أحد جيرانه المتحصنين معهم النار منها فأخاف المهاجمين الذين انسحبوا لاستدعاء الميليشيات المسلحة.

الأسرة استغلت الهدوء النسبي وهربت من البيت إلى منزل كيفورك أفندي، فيما عاد المهاجمون أكثر عددا وقوة فنهبوا البنايات الخالية وأشعلوا النيران فيها.

من منزل إلى آخر تنقلت عائلة أرتين هربا من ملاحقة الأتراك، وأثناء ذلك قتل كريكور العربجي وجرح أخوه الصغير هاكوب وتوفي لاحقا متأثرا بجراحه، وضل ستيبان توتنجيان خال أرتين ووقع بيد العثمانيين فقتلوه.

عائلة أرتين كانت أحسن حالا من مثيلاتها رغم فقدانها 3 أفراد بينهم طفل وحرق منازلهم ونهب محلاتهم، فقد كان مصير بعض الأسر الشنق الجماعي وانتهاك أعراض النساء.

السلطات تدخلت منعا لتهييج الرأي العام الغربي بعدما حققت إبادة جزئية فعادت العائلات لتجد المنازل منهوبة ومحروقة، فلجأ الناس إلى الكنائس والمنازل، ولم تكن جراح المصابين عولجت بعد حتى تجدد الهجوم، وهذه المرة كان أقسى فقد شارك فيه "جيش التحرير الوطني" وهي ميليشيا تركية قومية جاءت من سالونيك.

 

مصرع طفلة

 

في تلك الأثناء جرى خلع السلطان عبد الحميد وتولية عبد العزيز، وصارت السلطة بيد أعضاء تركيا الفتاة، والمثير للسخرية أن الحاكم الجديد أصدر عفوا عاما عن الأرمن، ليكشف عن تورط السلطنة في المذابح من خلال وسم الأقليات العرقية كمجرمين يجب قتلهم بتهمة أنهم غير أتراك.

جرى إجبار الأرمن على الهتاف ليعيش السلطان حتى يعفو الأتراك عنهم، وحين عادوا إلى منازلهم لم يجدوا منها سوى الرماد.

عائلة أرتين غادرت إلى أرض بعيدة عن الأتراك، قرب معمل التبغ في خيم للاجئين الأرمن في وضع مأساوي دون طعام أو رعاية صحية، وماتت أخته يفيسابت من سوء الأحوال.

العائلة غادرت المخيم بعد مصيبتها إلى مصنع للنسيح مملوك لأحد اليونانيين، وقد وفر لهم العمل، وفي صباح أحد الأيام شاهدت الأسرة 6 من الأرمن معلقين على أعواد المشانق في الشارع.

الحياة بدأت تعود مرة أخرى للمدينة بفضل كفاح الأرمن، وبدأت الأفكار القومية تنتشر وساد حلم الوطن الأرمني بينهم، الذي سينقذهم من الإبادة التي تبدو في الأفق.

هدوء الأرمن تبدد باشتراك السلطنة في الحرب العالمية الأولى، التي وجد فيها قادة الاتحاد والترقي فرصة للتخلص من الشباب قوة الأرمن.

التجنيد الإجباري كان مصيدة جمع شباب الأرمن ثم تسخيرهم في الأعمال الشاقة، ولم يجر منحهم سلاحا بل ظلوا عمالا، وبعد عام قتلت الميليشيات العديد منهم ممن لم يمت في العمل الشاق.

 

مذابح 1915

 

مدارس الأرمن جرى إغلاقها وتحويلها إلى مستشفيات عسكرية، فلم يعد أمام أرتين إلا العمل في محل والده.

بدأت حملة اعتقالات طالت الوجوه السياسية والحزبية والاجتماعية الأرمنية وجرى نفيهم، وشملت مدن زيتون وهاجن ودورتيول وأضنة وجميع مناطق الأقلية العرقية في السلطنة، والمشانق جرى نصبها في دير الزور، إذ يسوقهم الأتراك إليها ليلقوا حتفهم في معسكرات الاعتقال.

جد أرتين لأمه لقي حتفه أثناء تهجيره إلى الموصل، فيما نجت عائلته من النفي بفضل صنعة والده، فقد استثنى الأتراك صناع الأحذية والخياطين والسمكرية وعمال الفخار والنسيج من الترحيل، ليعملوا كمجندين في مصانع الجيش لتزويده بما يحتاج فلم يكن لدى العثمانيين عمالة ماهرة.

بحلول شتاء 1917 كان العثمانيون قد شرعوا في تصفية الأرمن الباقين في المدينة، فكانوا يلقون القبض عليهم ويقتلونهم خارجها.
ضابط عربي كان زبونا لدى والد أرتين نصحه بالتحول إلى الإسلام حتى ينجو من القتل الذي ينتظره على يد الأتراك، لكنه رفض شاكرا صنيع الضابط النبيل.

هزيمة السلطنة في الحرب واستسلامها وما تلاه من توقيع هدنة مودروس أنقذ الأرمن من الفناء التام، فقد جرى الاتفاق على وضع منطقة كيليكيا تحت سيطرة الجيوش الفرنسية.

 

خيانة فرنسا

 

انضم الناجون الأرمن من جحيم العثمانيين إلى جيوش الحلفاء، ودخلت قوات المتطوعين منهم إلى المنطقة مع الفرنسيين وعاد آلاف المهجرين والفارين في أنحاء السلطنة إلى المنطقة، فارتفع عددهم إلى 125 ألفا، وازدهر الوضع الاقتصادي وتأسست جمعيات سياسية أرمنية وافتتحت المدارس والأندية.
 فرنسا وعدت الأرمن بوطن في كيليكيا جزاء على مساعدتهم في الحرب، لكنها خدعتهم وحلت قوات المتطوعين التي كانت الدرع الواقية من هجوم الميليشيات التركية.

انسحبت فرنسا من المنطقة وسلمتها للأتراك عام 1922 الذين هجروا 125 ألف أرمني قسرا إلى خارج البلاد، ورحلت عائلة أرتين إلى بيروت، خيانة باريس كانت لكسب ود مصطفى كمال أتاتورك لإبعاده عن التقرب إلى روسيا الشيوعية.

---

المصادر :

ناج من الهولوكوست
أرتين مادويان من عائلة مارديروس أرمني ولد عام 1904 في أضنة في الدولة العثمانية وهاجر إلى بيروت عام 1922.
انضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني وشارك في الثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي، وكان أهم شخصية في الحزب بعد خالد بكداش.
ألف عدة كتب عن المسألة الأرمينية، كان منها كتاب "حياة على المتراس" الصادر عام 1984 وهو سيرة ذاتية للكاتب.