غزة بدها تعيش


يعقوب بن إفرات
فلسطين المحتلة

المقال

 

بدأت صفّارات الإنذار بإسماع صوتها المخيف في أرجاء مدينة تل ابيب نحو الساعة التاسعة من مساء يوم الخميس 14/3. لم يكن الأمر مفهومًا: لماذا تمّ تشغيل الصفارات وكيف لهذا أن يحدُث؟ هل حدث الأمر خطأً؟ وسرعان ما دوّى صوت انفجارين في المنطقة ما أكّد بان الإنذار كان حقيقيًّا رغم كونه غير مفسّر في تلك الآونة. التفسير جاء على التو حين أعلنت حركة حماس من غزة بأنّ إطلاق الصواريخ كان بالخطأ، وتبنّى الجيش الإسرائيلي عقب ذلك هذا التفسير المشكوك، وعادت الحياة في غزة وتل ابيب لمجرياتها الطبيعيّة. المعادلة التي اعتدنا عليها والتي يتم تكرارها دون ملل هي "حماس وإسرائيل غير معنيتين بالتصعيد". مع ذلك، وباستثناء الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، لم يقتنع أحدا بهذه الرواية المفبركة عن القصف بالخطأ. إلّا أنّه وبعد اقل من اسبوعين سقط صاروخ اطلق من رفح على إحدى البلدات شماليّ تل أبيب، من بعد ما يقارب ال- 120 كم، ما أدى إلى وقوع إصابة مباشرة في بيت سكنيّ دُمِّرَ بالكامل. ومرة أخرى أعلنت حركة حماس من خلال الوسيط المصري بان هذا الصاروخ أُطلق أيضًا بالخطأ بسبب الأحوال الجويّة.

ما نفهمه من هذه الأخطاء المتكرّرة هو أنّ حماس قررت أن تقاوم بالخطأ، وبأنّ المقاومة المسلّحة لم تعُد تجدي نفعًا ومن هنا فقد تم استخدام أسلوب آخر رغم تكلفته البشريّة الهائلة، كالمسيرات الجماهيريّة على الشّريط الحدوديّ أو البالونات الحارقة الّتي لا تستدعي القصف الجويّ من الطّرف الإسرائيليّ. ولكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه هو: إذا وقع القصف الصاروخي بالخطأ وعن غير قصد، فماذا تقصد حركة حماس حقًّا؟ والجواب هو أنّ الهدف واضح وضوحَ الشّمس– أوّلاً تريد حماس الدولارات القطريّة لتمويل 30 ألف جندي في قواتها الامنية، موظفيها، القاعدة الشعبية المحيطة بها وتمديد الكهرباء والحاجيات الأساسيّة الأخرى لضمان استمرار سلطتها. إنّ هدف المقاومة ليس تحرير الأرض، بل إنّه أصبح وسيلة لإدامة سلطة حماس على غزة وإحكام قبضتها على القطاع.

أمّا إسرائيل فلا مانع لها من استمرار سلطة حماس بل إنّها تعود وتكرّر كلما اشتدّت أصوات الحرب بأنها تقبل تفسيرات حماس حول سقوط الصواريخ بالخطأ وبأن هدف الهجوم على غزة ليس اسقاط حماس بل ترويضها حتى تقبل بالشرط الإسرائيلي بوقف المقاومة مقابل إزالة الحصار. ففي الرد الإسرائيليّ الحاليّ تم قصف مكتب اسماعيل هنية ولكن بعد أن تم إنذار كل من كان موجودًا بمحيطه بأنّ عليهم إخلاء المكان تفاديًا لحصول إصابات بالبشر. إنّ حدود الحرب بين حماس وإسرائيل واضحة جدا وهي تدور حول الاعتراف المتبادل: إسرائيل تعترف بحكومة حماس "الإرهابية" بينما تعترف حماس بسيادة "الكيان الصهيوني الغاشم". حماس تضمن بوجودها الانقسام الفلسطيني بين سلطتين في غزة والضفة الغربية، ممّا يخدم إسرائيل التي محت الدولة الفلسطينية المستقلة من قاموسها، ولا تعترض إسرائيل من طرفها على سلطة حماس وتعلن بأنّ مستقبل غزة مرتبط بمستقبل حماس التي لا بديل عنها.

إلّا أنّ هذه الحرب المحدودة والحصار المستمر خلفا من ورائهما دمارًا هائلًا وخسائر في الأرواح والممتلكات، إذ سقط المئات من القتلى في المظاهرات على الشريط الحدودي على أيدي قناصة الجيش الإسرائيلي، والآلاف أمسوا معاقين سيمضون بقية حياتهم على العكاكيز. تعيش غزة اليوم حالة من الازدحام في المستشفيات والنقص في الماء والكهرباء، نسبة البطالة تعدّت ال- 50% من المواطنين وانتشرت حالة الفقر المدقع في مخيمات غزة، ولا يمكن لهذا الواقع الكارثيّ إلّا أن يؤدّيَ إلى تذمر كبير من حماس، سرعان ما تحوّل هذا التّذمُّر والغضب الجماهيري إلى مظاهرات شعبية عارمة، بعد أن اتّضح بأنّ المقاومة أصبحت شعارًا يتم استخدامه كحجة لتسليط الحكم على غزة وليس بهدف تحرير الأرض والإنسان. وعندما باعت حماس المقاومةَ مقابل الدولار القطري اتضح امام الشعب بان السلاح هو وسيلة لشراء السلطة على حساب مصالح الناس. أمّا وعندما ثار الشعب الجائع مطالبًا بحقه في نيْل لقمة العيش حدث ما اعتدنا حصوله في حالات شبيهة في العالم العربيّ وهو توجيه سلاح المقاومة - وباسم المقاومة - ضد الشعب.

إنّ إطلاق الصاروخين بالخطأ على تل ابيب تزامن مع مظاهرات جماهيرية في شتى انحاء قطاع غزة ضد سلطة حماس مما دفع بالإسرائيليين الى التفسير الطبيعي بان القصف الصاروخي اطلق على تل ابيب ولكن القصد كان شعب غزة. بكلمات اخرى القصد كان تهميش وإسقاط الاحتجاج. واذا كانت حماس مشكلة بالنسبة لإسرائيل تعرف السلطات الأمنية الإسرائيلية كيفية التّعامل معها، فإنّ حركة الاحتجاج التي تهدد استقرار سلطة حماس هي مشكلة اكبر لا تعرف إسرائيل كيف تواجهها بعد أن اعتادت علاج عياء غزة عن طريق القصف الجوي أو القنّاصة. فقد وجدت حماس نفسها بين مطرقة إسرائيل وسندان الحراك الشعبي، وفي الوقت الذي استخدمت به الحركةُ قواتها العنيفة لقمع المتظاهرين، قامت بقصف تل أبيب خطأً لتشير لإسرائيل بان الحصار المستمر يُشكِّلُ خطرًا على سلطة حماس وإن لم تستجِب إسرائيل لشروطها فهي مستعدّة للمواجهة.

الحراك الشعبي الذي سمي "بندا نعيش"، أصبح عنصرا ثالثًا في المعادلة، علمًا بأنّه يوجه الانتقاد لمحمود عبّاس "أبو مازن" بالضّبط كما يحتج ضد حماس ومثلما يكره الاحتلال ويرى به المسؤول الاكبر لما تعيشه غزة من كارثة انسانية. وقد قامت حماس بحملة تشهير وتكفير للشباب الذين خرجوا مطالبين بحقهم في الحياة الكريمة ومعارضين لطغيان حماس وممارساتها الوحشية. أما الشباب الغزي فقد أصبح على وعي بعد تجربة طويلة وأليمة وكتب على صفحات في الفيسبوك "أنّ الثورات ليست فعلًا لحظيًا، جاء مصادفةً، إنما فعلٌ يبنيه الوعي، والوعي فقط ما نعوّلُ عليه لاستمرار الحراك مُطالبًا بحقوق الغلابا حتى تحقيقها. يجب أن يعلم الجميع أنّ الأوطان مِلك شعوبها، وأن الحكومات في خدمة المواطنين، وإن الفقر والجوع يكسران الخنوع، ومن لا يملك ما يفقده من الصعب هزيمته".

واذا كان الإجماع الإسرائيلي يؤكد على ضرورة إبقاء حماس كسلطة في غزة، ففي نفس الوقت يؤكد الإجماع نفسه بان ليس هناك حلا لغزة. فوضى السلاح ستستمر ما دام حماس في السلطة، إضافةً إلى سوء الإدارة وتوجيه الأموال لتقوية الأجهزة الأمنية، كبقيّة الأنظمة العربيّة. إنّ وجود حماس بموافقة إسرائيلية وأمريكية يعني أنّ الوضع الإنسانيّ في غزة سيستمرّ بالتّدهور حتى ظهور كارثة إنسانيّة بسبب انهيار البنية التحتية من جهة، وتفشّي البطالة والفقر في صفوف أغلبية المواطنين. وقد اصبح الحراك الشعبي تحت شعار "بدنا نعيش" العدو الأكبر لإسرائيل، ليس بفعل الصواريخ بعيدة المدى، بل لكونه مسلّحًا بالبرنامج العربي الجديد، برنامج الشباب الجزائري، والسوداني والمصري، وهو يختصر بشعار "بدنا نعيش" بحرية، بديمقراطية وعدالة اجتماعية. لا يمكن قمع هذه المطالب وهذا الوعي بطائرة اف-16 ولا يمكن تبرير الحصار ضد من يطلب الحد الأدنى من الحقوق ليس باسم المقاومة بل باسم انسانيته.

إنّ الحل في غزة لا يكمن في ضخ الاموال لسلطة حماس القمعية الفاسدة، وكل المحاولات لعزل غزة عن الضفة الغربية لمنع إنشاء كيان فلسطيني مستقل ستفشل لا محالة. ان الحل في غزة مرتبط في الحل بالضفة الغربية وفي حين تتم تصفية حل الدولتين من قبل ترامب وربيبه نتانياهو، فإنّ الحل البديل الوحيد الذي ظل مطروحا بقوة هو خيار الدولة الواحدة الديمقراطية والّذي من المقرر أن يشمل الأرض الممتدة من البحر إلى نهر الأردن - أي غزة، الضفة الغربية وإسرائيل. إن من يطلب فك الحصار عن غزة وابقاء حماس في السلطة يطلب المستحيل، إذ أنّ شرط حماس لإحكام قبضتها على غزة هو استمرار المقاومة، ما يمنح إسرائيل الحجة بفرض حصارها على الشعب الفلسطيني في غزة، بينما يتفاوض الطرفان – حماس وإسرائيل – من جهة أخرى. إنّ فك الحصار عن غزة مرتبط بفك الحصار عن الضفة الغربية وانهاء حكم الابرتهايد المفروض عليها. فك الحصار يعني تمتُّع المواطن الفلسطيني بكامل حقوقه وحريته بالتنقل بحريّة، الحياة ضمن نظام ديمقراطي واقتصاد عصري جديد يضمن الحياة الكريمة للجميع. الحل الإنساني في غزة هو الحل السياسي ضمن دولة ديمقراطية واحدة تجمع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على اساس المساواة.
---

يعقوب بن افرات  شخصية سياسية يسارية في فلسطين التاريخية "إسرائيل"، وهو الأمين العام لحزب دعم العمالي، وهو من مؤسسيه والمبادرين لتأسيس نقابة معًا العمالية.
كان بن افرات عضوا في تنظيم "الشرارة" وكان بين من قبعوا في السجن الاسرائيلية بتهمة الانتماء للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مع بداية الانتفاضة الأولى عام 1987.
في سنة 1995 كان بن افرات من المؤسسين لحزب دعم العمالي الذي تمسك بموقف معارضة اتفاق أوسلو على اعتبار انه لا يحقق السلام العادل والحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ويعارض سياسات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تجاه الشعب الفلسطيني ويهدف الى تعزيز السلام العادل والمساواة والعدالة الاجتماعية.